يعاني الكثير من المشتغلين بالبحث العلمي في هذا العصر من ضغط كبير لنشر الأبحاث العلمية، نظرا لاعتبارها العامل الأساسي في قرارات الترقي والحصول على تمويل لاستكمال البحث أو حتى في الحصول على منح دراسية. يستوي الأمر في كل من مجالات العلوم الطبيعية والاجتماعية، وربما يختلف قليلا في العلوم الإنسانية.

يحاول هذا المقال (على غير عادة المقالات التي تتناول هذا الموضوع والتي غالبا ما تقتصر على نصائح لكيفية كتابة ونشر الأبحاث) شرح المنظومة العالمية للنشر العلمي والوقوف على أهم التحديات والمشاكل التي تواجهها، وهو جزء من سلسلة يتناول جزؤها الثاني المشكلة في سياق العالم العربي ويعرض جزؤها الثالث التجربة المتميزة لدول أمريكا اللاتينية في هذا المجال، وما يمكن للعالم العربي استفادته منها.


جذور الأزمة

على مدى قرون كثيرة من تاريخ الحضارة البشرية كانت وسيلة انتقال المعرفة شفهية بالدرجة الأولى. تطور بعد ذلك استخدام الكتابة في تدوين المعارف العلمية وتناقلها بين العلماء في صورة مؤلفات جامعة يعرض كاتبها ما وصل إليه من المعلومات كجزء من سردية كبيرة تتناول مجالا كاملا (وربما أكثر من مجال) من مجالات المعرفة.

تحول الجزء الأكبر من التراث العلمي الموجود في الدوريات لتحكم عدد قليل من الشركات الكبرى التي تقدم اعتبارات الربح والخسارة المالية على أي اعتبارات أخرى

وتراث الحضارة الإسلامية يشهد لتلك الظاهرة بتقديمه كتبا مثل «القانون في الطب» و«كتاب المناظر» الذي ربما أمضى مؤلفه عشر سنوات في تأليفه. وهذه الصيغة لنقل المعرفة تناولتها الحضارة الغربية بعد ذلك لمدة أقصر ثم انتشرت بعدها الرسائل بين العلماء، والتي ربما كانت تقرأ على الملأ أثناء اجتماعات الجمعيات العلمية كوسيلة لنقل المعرفة.

وفي عام 1665 قرر هنري أولدنبرج (وقد كان سكرتيرا للجمعية العلمية الملكية في لندن) اقتراح فكرة تجميع تلك الرسائل وتعليقات أعضاء الجمعية عليها في مجال تخصصهم ونشر كل ذلك بصفة دورية، على أن تباع منها نسخ لكل المهتمين داخل إنجلترا وخارجها، وبذلك كانت «مداولات الجمعية الملكية (Transactions of the Royal Society)» أول دورية علمية [1] تضع نموذج تناقل المعارف الذي يستخدمه الباحثون حتى يومنا هذا.

مع التقدم العلمي والتكنولوجي المصاحب للثورة الصناعية وتشعب مجالات المعرفة وظهور الحاجة لفصل التخصصات العلمية، زادت أعداد الجمعيات العلمية في جميع أنحاء العالم، وزاد معها عدد الدوريات. وكانت العادة تقضي بأن يقوم الباحث بوصف تجاربه واستنتاجاته في صورة «مقالات بحثية» وإرسالها لهيئة تحرير مختصة تابعة لجمعيته العلمية، وبعد التنقيحات والتعليقات ترسل الجمعية بالعدد الجديد من الدورية لدار نشر أو مطبعة تقوم على تجهيز العدد وطباعته وتوزيعه. بمعنى آخر كانت الجمعبات تقوم بالجانب العلمي من عملية النشر ودور النشر تقوم بالجانب التجاري.

استمر الحال على ذلك إلى منتصف القرن العشرين الذي شهد زيادة مهولة في أعداد الباحثين والأبحاث المطلوب نشرها. كان ذلك لعدة أسباب، أهمها الزيادة الرهيبة في الإنفاق على البحث العلمي التي صاحبت الحرب العالمية الثانية، وكذلك نشأة الكثير من الجامعات مع استقرار أمور الباحثين في الدول التي غادرها الاستعمار .

وبسبب تلك الزيادة رأت بعض دور النشر فرصة عظيمة للتوسع في أرباحها من نشر الدوريات، بعدما كان مصدر دخلها الرئيسي من نشر الكتب، واتبعت في هذا أسلوبين، أولهما هو أسلوب الاندماج والاستحواذ الأصيل في الممارسات الرأسمالية والذي عن طريقه تحاول دار النشر الكبيرة عقد أكبر كم من التعاقدات مع مختلف الجمعيات العلمية لنشر الدوريات بالنيابة عنها، وذلك بشراء دور النشر الصغيرة أو الاندماج مع دور نشر كبيرة لتكوين شركات أكبر. والأسلوب الآخر هو إنشاء الدوريات ابتداء دون أن يكون هناك جمعية علمية قائمة عليها، وذلك يكون بدعوة بعض العلماء المتميزين في مجال ما لتكوين هيئة تحرير تكون تابعة لدار النشر مباشرة.

نتج عن هذين الأسلوبين تحول الجزء الأكبر من التراث العلمي الموجود في الدوريات لتحكم عدد قليل من الشركات الكبرى التي بطبيعة الحال تقدم اعتبارات الربح والخسارة المالية على اعتبارات أخرى، ربما تكون أهم لجموع العلماء، مثل فتح مجال المعرفة للجميع دون قيود.


الوضع الحالي

كانت نتيجة ما ذكرناه أن تحول ما بدأ على أنه استعانة بسيطة بخدمات النشر والتوزيع التي تقدمها بعض المطابع المحلية إلى تجارة عالمية كبيرة قدر حجمها في 2015 بحوالى 10 مليارات دولار [2] و يعمل بها أكثر من مائة ألف موظف. والمهم في هذا الصدد هو أن أكبر عشرة ناشرين يقومون على نشر أكثر من نصف مجموع الدوريات، وهو ما ينبئ بممارسات احتكارية لا تخطئها العين، خاصة إذا عرفنا أن ثمانية من هؤلاء العشرة هم شركات عالمية هادفة للربح.

السؤال إذن هو من أين تأتي هذه الأموال؟ وكيف ينجح كبار الناشرين في تحقيق مستويات أرباح خيالية قد تصل في بعض الأحيان إلى 35 و 40%؟

للإجابة عن هذا نعود لتفصيل ما يحدث أثناء عملية النشر . تقوم هيئة التحرير بعد استلام المقال البحثي بمراجعته والتعليق عليه داخليا، أو عن طريق الاستعانة بمحكمين من المتخصصين في موضوع البحث من خارج الهيئة. وبعد تنفيذ التعديلات المطلوبة من المحكمين يقوم المؤلف بإعادة إرسال المقال لهيئة التحرير التي بدورها تمرره للناشر .

الجدير بالذكر في هذا الأمر أن كلاً من المؤلف والمحكمين الخارجيين لا يتقاضون أجرا عن كتابة المقال أو مراجعته، حيث يكتفي المؤلف (على عكس مؤلفي الكتب أو المقالات الصحفية مثلا) بكون البحث منشورا باسمه مما قد يساهم في قرارات ترقيته أو سمعته العلمية عامة. بينما يعتبر المحكم ما يقدمه من عمل خدمة لزملائه ربما يحتاج لردها منهم عندما يقوم هو شخصيا بكتابة مقال ومحاولة نشره محكّما.

كذلك فإنه في أغلب الأحيان لا يتقاضى أعضاء هيئة التحرير أنفسهم أموالا مقابل ما يقدمونه من عمل، بل يكتفون بتوطيد مركزهم العلمي نتيجة للسمعة التي يضفيها عليهم التحكم في دورية علمية، خاصة إن كانت من الدوريات المؤثرة في مجال تخصصهم. وإن كان الأمر لا يخلو في بعض الأحيان من الحصول على مكافآت رمزية من الجهة القائمة على الدورية أو بعض الرواتب السنوية الزهيدة التي تقدمها دور النشر التجارية الكبرى لرؤساء هيئات التحرير التابعة لها.

إذن فهذا المحتوى العلمي المنقح لا يكلف دار النشر شيئا يذكر في الحصول عليه. وتنصب التكاليف الأساسية على أعمال التنسيق والتدقيق اللغوي والطباعة والتوزيع، وهي كلها تكاليف بسيطة إذا قورنت بالأسعار المرتفعة التي تباع بها هذه الدوريات للمكتبات (الجامعية غالبا) المشتركة فيها.

ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى أنه على الرغم من أن أغلب تعاقدات الناشرين والمكتبات سرية، لكن طلبات بعض الباحثين الموجهة للمكتبات الجامعية (الخاضعة لقوانين حرية المعلومات في بلادهم) قد أظهرت مبالغ قد تصل إلى مليون أو عدة ملايين دولار تدفعها كل مكتبة سنوياً لكبار دور النشر في كل من الولايات المتحدة وإنجلترا وفنلندا والأرجنتين وغيرها.

ومع ظهور الإنترنت وتحول أغلب الدوريات العلمية للنشر الإلكتروني (مع إبقاء بعضها على نسخته الورقية) كان من المفترض أن تقل تكاليف الإنتاج حتى مع ظهور تكاليف أخرى مثل مصاريف تصميم وتطوير الموقع الإلكتروني أو إنشاء محركات بحث متطورة للبحث في محتوى المقالات، لكن الأسعار واصلت الازدياد وهو ما خيب آمال الجميع، بداية من جامعات ضخمة كهارفارد المشتركة في آلاف الدوريات وانتهاء بجامعات الدول النامية التي أصبح اقتناء بعضها لعشرات الدوريات حلما بعيد المنال، واعتمد الكثير منها على برامج المساعدات التي تنظمها هيئات الأمم المتحدة وغيرها، وهي بطبيعة الحال لم تغطِ جميع احتياجات الباحثين في تلك الدول.


حركة الوصول الحر (Open Access Movement)

المحتوى العلمي المنقح لا يكلف دار النشر شيئا سوى تكاليف التنسيق والتدقيق والطباعة والتوزيع وهي بسيطة إذا قورنت بالأسعار التي تباع بها الدوريات

أدت السيطرة شبه الكاملة من قبل الناشريين التجاريبن خاصة مع تفاقم ما عرف بأزمة الدوريات (Serials Crises) في تسعينيات القرن الماضي لظهور حركة داعية لتحرير المعرفة العلمية من دوامة الرأسمالية واستخدام الإنترنت كمجال مفتوح للتواصل العلمي، وهو ما ظهر جليا في كثير من الدوريات التي أنشأها باحثون بأنفسهم على الإنترنت دون أي استعانة بدور النشر.

وكانت الفكرة الرئيسية من هذه الحركة هي العمل على رفع نوعين من القيود عن الدوريات العلمية: النوع الأول هو القيود المالية، إذ لا يجب على قارئ البحث تحمل أي تكلفة لا مباشرة و لا عن طريق مكتبة جامعته، ويعني ذلك أن تكاليف عملية النشر (التي لا ينكر وجودها أحد) يجب تغطيتها عند إنتاج المقالة البحثية وليس عند قراءتها، أما عن النوع الثاني من القيود فهي القيود على الاستخدام، إذ تدعو الحركة لفتح حرية طباعة ونسخ المقالات العلمية والتوليف بينها وأي استخدامات أخرى ممكنة حتى ولو كانت مدرة للربح.

وجدير بالذكر هنا أن النوع الثاني هذا ليس محل اتفاق بين الداعين لتحرير المعرفة. وحيث إنه لا يتسع المقام للخوض في حجج كل فريق فإننا نكتفي باعتبار محل الاتفاق وهو رفع القيود المالية، والأساس فيه هو أن يطالب الباحثون بالاحتفاظ بحقوق الملكية الفكرية لمقالاتهم وحرمان دور النشر من هذا الحق [4] الذي طالما استخدمته لمنع القراء من نسخ الدوريات أو نشرها على الإنترنت.

وقد كان هذا أحد العاملين الرئيسيين اللذين مكنا دور النشر من رفع أسعار الدوريات بدون حساب، علما أن العامل الآخر هو كون الدوريات نفسها سلع غير تبادلية، أي أن كل دورية هي منتج متفرد لا يمكن استبداله بدورية أخرى حتى وإن كانت في نفس التخصص نظرا لاختلاف المعلومات الواردة في الدوريتين، و هو ما يعني عدم خضوعهما للمنافسة على حسب السعر فقط كما هو الحال في منتجات أخرى.

وما يزال النقاش في موضوع الوصول الحر يدور بالأساس حول مصدر الأموال المفترض أن تغطي تكاليف النشر. فهل يدفع المؤلف من ماله الخاص (وهو للأسف النموذج الأكثر انتشارا في بلادنا العربية)؟ أم تقوم الجامعات والأقسام بإنشاء صناديق لتغطية تلك التكاليف لباحثيها؟ أم هل تسمح هيئات تمويل البحث العلمي (سواء التابعة للحكومة أو المستقلة) للباحثين باستخدام جزء من المنح المعطاة لهم لتغطية تكاليف النشر كما هو الحال مع تكاليف المواد والأجهزة؟ أم هل تكون المسئولية على المكتبات الجامعية لتكوين تعاونيات فيما بينها بحيث تتحمل كل تعاونية جميع تكاليف نشر مجموعة من الدوريات العلمية على أن تكون قراءتها متاحة للجميع مجانا (وليس فقط لأعضاء التعاونية التي قامت بالتمويل)؟

كلها احتمالات ما تزال مفتوحة للمناقشة والأخذ والرد ولكن للأسف أغلب النقاشات يدور بعيدا عن الأوساط العلمية في الدول العربية، لذلك في المقال القادم بإذن الله سنعرض التجارب ذات الصلة في العالم العربي ونحاول مناقشة التحديات الرئيسية في طريق التكامل مع المنظومة العالمية.


[1] يرى بعض الناس أن أول دورية علمية كانت (Journal des sçavans) والتي صدرت في باريس قبل شهرين في نفس العام، ولكننا آثرنا عرض الرواية الأشهر خروجا من الخلاف الناتج عن عدم اعتبار البعض لها كدورية علمية بالمعنى المعاصر.[2] وهو ما يزال صغيرا إذا قورن بحجم صناعات أخرى مثل الدواء أو البترول، ولكن ربما يقارب الناتج القومي لدولة مثل السنغال أو جزر المالديف.[3] جدير بالذكر أن ترجمة هذا المصطلح للعربية لا تزال محل خلاف.[4] السائد في أغلب الأحيان هو أنه بعد قبول المقال يطالب المؤلف بتوقيع عقد يتنازل بموجبه عن حقوقه للناشر دون مقابل.