في عام 2015م، ظهر فيلم «Concussion» -الذي يستند على أحداث قصة واقعية- إلى النور، حيث قام «ويل سميث» بالقيام بدور «بينت أومالو» الطبيب الشرعي المختص بأمراض الأعصاب، والذي قام باكتشاف نوع من ارتجاج الدماغ يصيب لاعبي كرة القدم الأمريكية، نتيجة لكثرة الصدمات التي تتعرض لها رؤوسهم. إلا أنه تم التنكيل به ومحاربته بعد نشر نتائجه من قِبل صناع كرة القدم الأمريكية، حتى يقوموا بالحفاظ على سمعتهم وكذلك -بالطبع- أرباحهم.

بالرغم من أن قصة الفيلم ملهمة، وأنها توضح انتصار العلم في نهاية المطاف وانتصاره على من حاربوه، إلا أنه يناقش قضية هامة، ألا وهي تدخل الصناعة وأصحاب رؤوس الأموال في تحديد مسار العلم. الحرب التي واجهها «بينت أومالو» ليست الأولى أو الأخيرة من نوعها، ودومًا ما يتم تنفيذها من خلال توظيف باحثين وعلماء آخرين للرد بشكلٍ علمي، عن طريق الأبحاث التي يتم تزوير نتائجها في مقابل أموال طائلة يتم دفعها. هذا الأمر ليس حالة خاصة أو نادرة، بل أصبح أكثر انتشارًا في الوسط العلمي ويندرج تحت مسمى سوء السلوك العلمي.


سوء السلوك العلمي

يُقصد بسوء السلوك العلمي تلفيق أو تزوير أو سرقة البيانات والأبحاث العلمية سواء كان ذلك أثناء القيام ببحثٍ جديد، أو كتابة مراجعة حول موضوع علمي معين، أو تزوير بعض البيانات أثناء التجارب من أجل الحصول على نتيجة محددة تخدم هدف معين. وتُعد ممارسات سوء السلوك العلمي كثيرة ومنتشرة في الوسط العلمي، والتي عادة ما تشكل مادة علمية جيدة لما يبحث عنه الإعلام من أخبار مثيرة تعمل على جذب الجمهور، حتى لو كانت تلك الأخبار العلمية خاطئة أو مُفبركة. وبالرغم من انتشار تلك الممارسات إلا أنه عادة ما يتم كشفها من خلال علماء آخرين، أو من خلال البحث والتحقيق من بعض المؤسسات المتخصصة مثل «مكتب إدارة نزاهة البحوث» الذي يقوم بالتحقيق سنويًا في أكثر من 200 حالة متهمة بالتزوير وسوء السلوك العلمي.

تختلف عادة الأهداف التي يتم من أجلها تزوير العلم، إلا أن معظمها يتم تحت وطأة إغراء المال سواءً كان ذلك في الماضي أو حتى في الحاضر، فهناك العديد من الشركات والمؤسسات وأصحاب الأعمال الذين يقومون بدفع أموال طائلة للعديد من العلماء والباحثين من أجل حثهم على نشر أبحاث محددة تتبني مصالح تلك الشركات وتساهم في زيادة نسب مبيعاتهم من ناحية، وتقوم بدفع الشبهات والاتهامات عن تلك الشركات من ناحية أخرى. هذه بعض الأمثلة لحالات سوء السلوك العلمي التي تم كشفها وربطها ببعض كبار وعمالقة عالم المال والصناعة.


منتجي السكر يقوموا بتمويل أبحاث هارفارد

http://gty.im/3332448

في ستينات القرن الماضي، بدأت المناظرات بين علماء التغذية تتصاعد من أجل تحديد العناصر التي تتسبب في أمراض القلب التاجية. حتى قام اثنان من أبرز علماء التغذية بجامعة هارفارد «فريدريك ستير»، و«مارك هيجستد» بنشر مراجعتين في دورية طبية كبيرة ملخصها التقليل من أهمية السكر في التسبب بأمراض القلب التاجية، وأن تعديل النظام الغذائي والتقليل من تناول الكوليسترول والدهون فقط يمكن أن يمنع أمراض القلب التاجية. تم نشر المراجعتين في دورية «The New England Journal of Medicine» في عام 1967م. وآنذاك، لم يكن الإنترنت متاحا حتى يقوم العلماء والمتخصصين في البحث واكتشاف تضارب المصالح في تلك المراجعات.

في تلك الفترة، كان الصراع على أشده بين الباحثين حول ما إذا كانت الدهون أم السكر هي التي تتسبب في وفاة العديد من الأمريكيين، وعلى الأخص الرجال، نتيجة لأمراض القلب. في الوقت ذاته، كانت شركات السكر تبحث فرص زيادة أسهم السوق والتوسع في تجارتها، من خلال إقناع الرأي العام بأن السكر لا يتسبب في أمراض القلب، وتحويل آراء الجمهور والمتخصصين ناحية الدهون بدلًا من السكر.

لذا على هذا الأساس، قامت مجموعة شركات صناعة وتجارة السكر من خلال مؤسستها «أبحاث السكر» بدفع ما يعادل في وقتنا الحالي 48 ألف دولار إلى «هيجستد وزملائه»، بهدف كتابة مراجعات تقوم بالرد على بحثٍ يربط سكر القصب بأمراض القلب. قامت المجموعة بمراجعة الأبحاث التي تم كتابتها، ومراجعة المسودات، وكذلك تحديد هدف واضح لتحسين صورة السكر في أعين الجمهور. المراجعات التي تم نشرها في دوريات ذات سمعة عالية دفعت بالنقاش بعيدًا عن السكر ناحية الدهون، ونجحت في إقناع العديدين من المتخصصين والعامة على حدٍ سواء بأن السبب في الأمراض ناتج عن الدهون والكوليسترول، وأن السكر ليس له علاقة بالأمر.

المستندات التي اكتشتفها «كريستين كيرنس» الباحثة في جامعة كاليفورنيا تم نشرها دورية «JAMA Internal Medicine»، وأثبتت تورط العالمين مع تلك المؤسسة مما أدى الى تأخر تطور اكتشافات الأمراض التي يسببها السكر نتيجة لاختلاف العلماء نظرًا للمراجعات التي قام «فريدريك وهيجستد» بنشرها من أجل تضليل الرأي العام.


كوكاكولا تمول أبحاث محددة حول أزمة السمنة

http://gty.im/3427144

تُعد كوكاكولا أحد أكبر مُصنّعي المشروبات الغازية والسكرية في العالم. وقامت الشركة باتباع طريقة جديدة تعتمد على العلم في ظل أزمة السمنة التي تُنسب إلى المشروبات الغازية والنظام الغذائي السيئ، حيث تروج الشركة إلى أنه من أجل الحصول على وزنٍ مناسب، كل ما عليك فعله هو المزيد والمزيد من التمرينات دون الحاجة إلى النظر إلى عدد السعرات الحرارية التي تتناولها!

من أجل الترويج لهذا الأمر، قامت الشركة بالتحالف مع العديد من العلماء المؤثرين والذين قاموا بتمرير هذه الرسالة من خلال الدوريات العلمية، والمؤتمرات، والمقالات، ووسائل التواصل الاجتماعي، مع تجاهل أي تأثير يمكن أن يحدث بسبب الوجبات السريعة أو المشروبات السكرية والغازية. ومن أجل دعم هذا الأمر، قامت الشركة بتوفير كافة الوسائل والأموال التي يحتاجها العلماء في أبحاثهم وحملتهم من خلال تمويل مؤسسة غير هادفة للربح باسم «Global Energy Balanced Network» ، والتي تروج إلى أن المواطن الأمريكي المهتم بوزنه يركز اهتمامه بشكلٍ مفرط على الكمّ الذي يتناوله ويشربه في حين لا يبالي بالتمرينات الرياضية.

وعلى حدّ قول «ستيفن بلير» نائب رئيس المؤسسة، أنه لا يوجد أي دليل قاطع على أن هذا الأمر هو المتسبب في السمنة. يأتي هذا الأمر في الوقت الذي واجهت فيه كوكاكولا مشاكل الأبحاث التي تتهم المشروبات السكرية والغازية في التسبب في انتشار السمنة ومرض السكر من النوع الثاني، مما دفع كوكاكولا إلى الاحتيال عن طريق العلم ودعم المؤسسة في بداية تأسيسها بمبلغ 1.5 مليون دولار. وذلك بالإضافة إلى دفعها حوالي 4 ملايين دولار من 2008م، بهدف تمويل مشاريع مختلفة لبعض العلماء، فضلًا على أنه تم اكتشاف أن موقع المؤسسة البحثية تم تسجيله باسم شركة كوكاكولا بأتلانتا، كما أنها مسجلة كمسئولة إدارة الموقع.

لا تُعد شركة كوكاكولا هي الوحيدة التي تقوم بتمويل الأبحاث التي تساعد في انتشار أعمالها ومنتجاتها، بل هناك العديد من الانتقادات الموجهة من قِبل المدافعين عن الصحة العامة الى الجمعية الأمريكية للتغذية، و أكاديمية الحِمية والتغذية نظرًا لعقدهم شراكات مع شركات مثل بيبسي، وماكدونالدز، وكرافت فودز، بالإضافة إلى العديد من خبراء التغذية الذين تم انتقادهم لحصولهم على أموال من كوكاكولا لتقديم مشروبات الشركة على أنها وجبات صحية لا ضرر فيها.


عالم بارز من هارفارد يحصل على رشوة من شركات البترول

«وييهوك سوون» هو مهندس طيران وموظف بمعهد سميثونيان – هارفارد للفيزياء الفلكية، ويُعد أحد أبرز العلماء ذوي الحيثية المعارضين لفكرة أن أفعال البشر لديها علاقة بالتسبب في ظاهرة الاحتباس الحراري. قام «سوون» بنشر 11 ورقة بحثية حول التغير المناخي منذ عام 2008م، إلا أن بعض المستندات التي تم تسريبها مؤخرًا أوضحت أنه حصل على مبلغ 1.2 مليون دولار من شركات البترول في مقابل بعض الأبحاث التي تخدم مصالح الشركات. وتصل نسبة الأبحاث التي تزعم عدم حدوث التغير المناخي أو تنفي علاقة البشر بأسبابه إلى 0.17 % من إجمالي الأبحاث المُراجعة التي يتم نشرها عن التغير المناخي.


تكاليف سوء السلوك العلمي

تقوم المعاهد الأمريكية العلمية بصرف ما يعادل 110 مليون دولار في السنة الواحدة للكشف عن حالات سوء السلوك العلمي

هناك العديد من النواحي التي يمكن أن نتناول بها المقصد من كلمة «تكاليف»، إلا أنه قبل تجزئة هذا المصطلح وتوزيعه على الأطراف المشاركة، فإنه لا بد أولًا من معرفة تكلفة الكشف عن حالات سوء السلوك والتحقيق فيها. وفق دراسة تم نشرها في «PLos medicine» فإن المعاهد الأمريكية تقوم بصرف ما يعادل 110 مليون دولار في السنة الواحدة للكشف عن حالات سوء السلوك العلمي. إلا أن هناك بعض التساؤلات حول ما إذا كانت هذا المجهود كافي بمفرده لتحديد تأثير سوء السلوك أم لا. بكلمات أخرى؛ إذا كانت المعاهد الأمريكية وحدها تقوم بصرف تلك الملايين فقط من أجل التحقيق في حالات سوء السلوك التي تصلها، فهذا يعني كثرة وازدياد حالات سوء السلوك وانتشارها بشكلٍ ملحوظ بلا شك.

أما عن تكلفة سوء السلوك العلمي، فهناك العديد من النواحي، من بينها ما يتعلق بالباحث الذي يقوم بالتزوير العلمي، والذي يعاني عند كشفه من أمور قد تصل إلى فقدان وظيفته، وإلغاء درجاته العلمية، وإلغاء أو سحب الجوائز التي حصل عليها، والدعاوى القضائية والحبس، بالإضافة إلى قضاء بقية عمره معانيًا من التشكيك في مصداقيته المهنية. أما بالنسبة للشركات التي تقوم بحث العلماء والباحثين لفعل هذا الأمر، فإنها تخسر سمعتها وسمعة المنتج الذي تقوم ببيعه أو إنتاجه، بالإضافة إلى تراجع أسهمها، وخسارة المزيد من المبيعات.

أما من الناحية العامة، فسوء السلوك العلمي يؤدي إلى تأخر تطور العلم نتيجة لدفع بعض العلماء والباحثين وراء وجهات نظر خاطئة ونتائج محددة مسبقا لم تُكتب إلا بهدف الحصول على المال، وكذلك إضاعة الملايين من الأموال على أبحاث لم يتم إجرائها أو تم تلفيق نتائجها، غير التأثير السيئ الذي ينعكس على العامة كممارسة التصرفات الخاطئة بناء على بحث علمي مزيف، واتخاذ قرارات حياتية بناءً على معلومات خاطئة.

وأخيرًا، العلم كغيره من الأمور التي يتدخل بها البشر، لا يسلم من الدوافع الخبيثة التي قد تكون المحرك لأفعال العديد منهم. لذا في مقابل المال، يقوم بعض الباحثين والعلماء بخيانة شرف العلم، واستبدال شهاداتهم العلمية الحقيقية والتي وصلوا إليها بإنتاجهم الأوراق والمراجعات البحثية، بحفنة من الأموال. بالتأكيد كشف هذه الممارسات قد يُعد صعبًا للعامة أمثالنا ويحتاج إلى تحقيقات متخصصة، إلا أن هذا الأمر وكثرة انتشاره قد يعود بنا مرة أخرى إلى المنهج الذي يفرضه العلم على كل متابعيه، وهو منهج الشك. فحتى لو كان البحث الذي أمامك تم نشره في دورية مثل «نيتشر» أو قام بكتابته عالم مثل «آينشتاين»، فالشك وحده في تلك الحالة قد يكون هو العامل المساعد الوحيد للوصول لحقيقة كل ما يتم نشره واعتباره كحقائق باسم العلم.

المراجع
  1. Sugar Industry Secretly Paid for Favorable Harvard Research
  2. Coca-Cola Funds Scientists Who Shift Blame for Obesity Away From Bad Diets
  3. Coke as a sensible snack? Coca-Cola works with dietitians who suggest cola as snack
  4. Leading Climate Denier and Harvard Scientist Took $1.2 Million Bribe From Oil Companies
  5. Nature/News 2010
  6. True costs of research misconduct