بعض الحقائق دالة بطبيعتها، ولا حاجة للجدل فيها عند الفطرة السوية، لكننا في زمنٍ تغبَّشت فيه أشد الحقائق جلاءً بضباب الشكوك وأثيرت حولها الريب؛ لذا يجد الإنسان نفسه مُضطرًا للجدال والبيان حتى ليخوض في أشد الأمور بداهة. وإحدى هذه الحقائق هي الحاجة لعُنصُر الزُهد والتنسُّك في الحياة الإنسانية، إذ يستحيل الدين وتستحيل الثقافة الإنسانية بغير هذا العنصر من نُكران الذات والزُهد في متاع الدُنيا.

كما يؤكِّد القرآن الكريم؛ فقد فُرِض الصيام على مَن قبلنا، ثم تجدَّد التكليف به فحسب مع ختم الرسالة

ويتعيَّن على الإنسان الانسحاب أحيانًا من الحياة الحسيّة الكاملة، حتى يُمكنه التمتُّع بثمرة إدراكه الحسي. وهو ما تؤكده الحكمة الطاوية القديمة، حين تذهب إلى أن المساحات الفارغة في كل عجلة هي منشأ هذه العجلة وجوهرها. فوحده الامتناع بدرجةٍ معينة عن اللذائذ المادية التي تشغَل الحواس هو ما يضفي على حياة هذه الحواس بعض الاتزان، هذا ناهيك عن أثر هذا الامتناع في شق طريق في باطن الإنسان للحياة الروحية.

وأحد صور هذا الامتناع هي الصوم، والذي سُنَّ في الإسلام كفريضةٍ في شهر رمضان واستُحِبَّ في غيره من أوقات العام. وكما يؤكِّد القرآن الكريم؛ فقد فُرِض الصيام على مَن قبلنا، ثم تجدَّد التكليف به فحسب مع ختم الرسالة، ليستَقِرَّ كمؤسسة راسخة ممثَّلةٌ في صوم شهر رمضان.

ويطوي الصوم خلال هذا الشهر العديد من المغانم والسمات الاجتماعية والبرانية، والتي قُتِلَت بحثًا في حقيقة الأمر؛ بل وأفرِطَ في تأكيدها عادةً داخل أوساطٍ معينة، حتى اختُزلت الفضيلة الأساسية للصوم في الإحسان إلى المعوزين. وصحيح أن عنصر الإحسان هذا أكيد وضروري بطبيعة الحال، لكن مثله مثل سائر ألوان الإحسان لا يتجلى تأثيره الروحي على النفس إلا إن قُصِدَ به وجه الله تعالى. وما الإحسان إلى الفقراء والمساكين ومقاسمتهم الفعلية للجوع والعطش خلال الصوم إلا ثمرة الانصياع للإرادة الإلهية.

إلا أن أشق وجوه الصيام هو حد سيف التخلية الذي تواجَهُ به النفس الأمَّارة المذكورة في القرآن. ففي الصوم، يخمُد جنوح النفس الأمارة للعصيان ويسكُن تدريجيًا بإخضاع هذا الجموح بصورةٍ مطرِدة للإرادة الإلهية، ففي كل لحظة تتحمَّل فيها نفس المسلم الجوع تذكرةٌ بأنه ليُطيع الأمر الإلهي إنما عليه أن يُهمِل هوى النفس الأمارة. ولهذا أيضًا فإن الصوم لا يقتصِر على الطعام فحسب، بل يمتدُّ إلى الامتناع عن كل شهوةٍ وعن كل هوىً تُزيِّنهُ النفس الأمارة بالسوء.

وثمرة هذا الامتناع المنظَّم أن تدرك النفس الإنسانية استقلالها عن بيئتها الطبيعية اﻵنية، وينضج وعيها بأنها رغم وجودها في هذا العالم المادي إلا أنها ليست منه. ومن يصوم بإيمان صحيح ينضج وعيه سريعًا جدًا بأنه سائح حاجٌ مهاجرٌ في هذا العالم، وأنه خُلِقَ لغرضٍ يتجاوَز هذا الوجود المادي. وإلى حدٍ ما؛ يفقِدُ العالم ماديته في روع هذا المؤمن، ويكتسِب سيماء “خواء” وشفافية تؤدي بالمسلم المتأمِّل مباشرة إلى إدراك وجود الخالق من وراء خلقه.[1]

علاوة على ذلك، فهذه الطبيعة الفانية و«الجوفاء» للأشياء المادية تُعوَّضُ بتجلي تلك الأشياء عينها بوصفها نعمًا إلهية. فالطعام والشراب اللذين اعتُبرا من مسلّمات الحياة وبدهياتها خلال العام يكشفان عن نفسيهما خلال فترة الصوم بوصفهما نِعمًا مُنزَّلة، ويكتسبان أهميةً روحية ذات طبيعة قُدسية لا تُسبَغُ عليهما في سائر الأوقات.

إتمام صوم شهر رمضان بمثابة دورة تتجدَّد بها حيوية النفس المسلمة وتُبعَث من ركام الشهوات

أضف إلى ذلك أن الصوم تحصينٌ للنفس بدرع العفة في مواجهة شهوات العالم، بل إنه إدماج «فيزيقي» لطهارة الموت في الجسد المادي، والتي تُتبَعُ بالميلاد الروحي. وفي الصوم، فإن الإنسان يُذكَّر بأنه قد اختار قُرب الله على عالم الشهوات. وربما لهذا السبب كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد ما يكون حبًا للصوم، إذ كان عُنصرًا أساسيًا من عناصر «الفقر المحمدي»، والذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: «الفقر فخري»[2]

هذه الإماتة للشهوات تُطهِّر النفس الإنسانية وتفرِّغها من الماء العَطِن لمخلفاتها النفسية السلبية. ومن خلال الفرد المسلم يتجدَّد المجتمع المسلم بهذه الشعيرة ويُذكَّر بالتزاماته وأهدافه الأخلاقية والروحية. لهذا يُستقبَل حلول شهر رمضان ببهجةٍ لا مزيد عليها. ففيه تُفتَّح أبواب السماء للمؤمنين إلى أقصى مداها، وتتنزَّل الرحمات الإلهية على من يرجونها.

وإتمام صوم شهر رمضان بمثابة دورة تتجدَّد بها حيوية النفس المسلمة وتُبعَث من ركام الشهوات، وتُعَدُّ لمواجهة عام آخرٍ يحدوها إصرارُ الاستقامة على المراد الإلهي. كذا يكسو الصوم النفس الإنسانية عطرًا روحيًا يُمكن تنسُّم شذاه طويلًا بعد انقضاء حقبة الإمساك والتزهُّد، ناهيك عن أنه يزوِّدُ النفس الإنسانية بمصدرٍ صافٍ للطاقة تتغذَّى منه طوال العام.

لهذا لُقِّب الشهر المعظَّم بـ«المبارك»، بما أن البركات الإلهية تفيض فيه على المجتمع المسلم، لتُجدِّد أعمق مصادر حياته وحركته.


* مقتطفات من: Seyyed Hossein Nasr, Islamic Life And Thought, 1981, Albany: State University of New York Press.

[1] – ربما كان أشهر الأمثلة على هذه الشفافية الروحية وصف الشاب الأنصاري الذي لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور عن أنس بن مالك رضي الله؛ إذ قال: بينا رسول الله يمشي إذ استقبله شابٌ من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف أصبحت يا حارثة؟»، قال: أصبحت مؤمنًا بالله تعالى حقًا، قال: «انظر إلى ما تقول؛ فإن لكل قولٍ حقيقة»، فقال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري؛ فكأني بعرش ربي بارزًا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبصرت فالزم» وفي رواية «أصبت فالزم». (المعرِّب)[2] – النص الكامل للحديث: «الفقر فخري، وبه أفتخِر»، وهو مما لم يَصِح عن سيدنا رسول الله. (المعرِّب)

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.