صرَّح الكاتب يوسف زيدان بأن «صلاح الدين الأيوبي من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني». وغني عن البيان أن صلاح الدين الأيوبي من رموز «الأمة المسلمة»، ويُنظر إليه على أنه قاهر الصليبيين، والقائد الذي تمكن من استعادة القدس بعد حروب طاحنة. إن هذا المقال لا يقصد، بشكل مباشر، التوجه نحو نعت صلاح الدين الأيوبي بالحقارة، بل يقصد أن يتناول واقعاً استحال فيه قائد نبيل، إلى شخصية حقيرة. ولكي نوضح ذلك، فلنبدأ من حجة زيدان نفسه.


«من أحقر شخصيات التاريخ»!

لعل تصريح زيدان المتداول ليس الأول من نوعه، فقد سبق ونشر مقالاً عام 2010م تحت عنوان «الناصر أحمد مظهر» حاول فيه توضيح أن فيلم «الناصر صلاح الدين» مليء بالمغالطات التاريخية؛ وخاصةً مغالطة فادحة وهي، بالنسبة له، أن صلاح الدين كان شخصاً عظيماً، وهي المغالطة التي حمَّـل زيدان نفسه مهمة تبديدها؛ كي يعود للمصريين وعيهم.

احتج زيدان بأن صلاح الدين الأيوبي خان السلطان نور الدين وانقلب عليه، وأنه كان رجلاً لا ولاء له فهو من قُواد السلطان السني نور الدين، ومن وزراء الحاكم الفاطمي الشيعي لمصر في الوقت نفسه.

في ذلك المقال احتج زيدان بأن صلاح الدين الأيوبي خان السلطان نور الدين وانقلب عليه، وأنه كان رجلاً لا ولاء له فهو من قُواد السلطان السني نور الدين، ومن وزراء الحاكم الفاطمي الشيعي لمصر في الوقت نفسه. ثم أرجع زيدان أن الفيلم، إنما مجَّـد صلاح الدين الأيوبي لأنه رجل عسكري، وبما أن الفيلم من إنتاج عام 1963م فإنه كان خير دعاية للحكم العسكري الذي مثله نظام جمال عبد الناصر آن ذاك.

ثم في لقائه الإعلامي الأخير أضاف أن صلاح الدين الأيوبي قام بقطع نسل الفاطميين؛ حيث فرَّق بين ذكورهم ونسائهم حتى انقطع دابرهم. كذلك فقد قام صلاح الدين الأيوبي، وفقاً لزيدان، بحرق مكتبة القصر الكبير بهدف القضاء على الفكر الشيعي. وهناك إشارة في حديث زيدان، وهي دائماً ما تتكرر، أن المصريين لديهم صورة مغالطة لكل الوقائع التاريخية حول صلاح الدين الأيوبي، وأنه آن الآوان أن يُتَخلص من تلك الصورة.

لكن، بغض النظر عن تلك «الوقائع» التاريخية ومدى صحتها، هناك أمران لافتان في تلك النظرة لصلاح الدين، وفي حديث زيدان: أولاً، يمكن أن يستشعر قارئ مقاله أو متابع حديثه أن صورة صلاح الدين كقائد عظيم هي اختراع حديث ولا يوجد لها مصداق تاريخي في الوجدان المسلم بشكل عام. ثانياً، أن زيدان كرر عبارة لافتة وهي أن صلاح الدين متى فصل ذكور الفاطميين عن إناثهم فقد ارتكب «جريمة ضد الإنسانية»، كذلك فوفقاً له، فإن صلاح الدين من أحقر الشخصيات في التاريخ «الإنساني».

واضحٌ أن هناك قيمة ثابتة لدى زيدان تُقاس عليها الشخصيات التاريخية بمعزل عن الظروف والسياق الفكري والاجتماعي والسياسي تُسمى «الإنسانية». ودون خوض كثير في مدى منهاجية تلك القيمة، ودون خوض كثير في تداعياتها الكارثية على رؤية المؤرخ للتاريخ، فلنقف قليلاً مع بعض النقاط التي لعلها تنير ما أغفله زيدان.


صلاح الدين في عيون غربية

لكل أمة أبطالها. وبطل أمة ما، عادةً ما يكون مبنوذ أمة أخرى. ولما كان في طبع الإنسان المبالغة، فإن الشخص العظيم في أمة ما تحاك حوله الحكايا والقصص التي تمجده وتعلي من شأنه حتى وإن كانت غير ذات مصداق في الواقع، بينما تحاك حوله حكايا أخرى في أمة هو عدو لها بهدف التقليل من شأنه ونبذه.

وفي الوسط من هذه الصورة التي تتنازعها كل أمة، يحاول دوما المؤرخ الصارم أن يقف بمناهجية علمية كي يحاول، أيضاً، أن ينتشل الوقائع من بين تلك الحكايا والقصص؛ فما يهمه هو تقديم الواقعة كما حدثت وكما عبر عنها التاريخ. وصلاح الدين الأيوبي ليس بدعاً من هذا. فهو شخص مجّدته أمته، ونظر إليه آخرون بعين الشكّ والريبة. ولذلك، فإن مسعى المؤرخ الذي يتناوله مسعىً حرجاً؛ فهو يحاول استخراج صلاح الدين من بين ركام من القصص والحكايا التي قد يثبت بعضها وقد يكون بعضها الآخر محض مبالغة أو افتراء.

وحين نرى يوسف زيدان يُصرح بأن صلاح الدين الأيوبي يُعد «من أحقر الشخصيات التاريخية» فإن هذا يستلزم من المؤرخ الصادق، أو الباحث الحق أن يطلب بياناً، وأن يسأل ذوي العدل من المؤرخين؛ علَّـه يجد ولو بعضاً من الحق. ومن عساه يكون أقرب لتلك المنهاجية من مؤرخ غربي، أوروبي تحديداً، يعيش بين ظهراني أمة سبب لها صلاح الدين الأيوبي انكساراً عظيماً، ولكنه مع ذلك يحاول قدر الإمكان أن يعرف واقع صلاح الدين الأيوبي بعيداً عن الحكايا والقصص؟ ولذلك، فلنستعرضْ بعضاً من هؤلاء المؤرخين الغربيين ونرى رأيهم في شخص صلاح الدين الأيوبي؛ فهل هو حقير أم نبيل؟

في مقاله «صلاح الدين والحملة الصليبية الثالثة»، قدم «روبيرت إروين» خريطةً عريضةً لكيفية تناول المؤرخين وكتاب القصص التاريخية والسير لصلاح الدين الأيوبي. وفي هذه الخريطة، يرى إروين أن صلاح الدين الأيوبي قد وُصِف تقريباً بشكل جماعي بعدة صفات منها أنه كان: قائدًا عظيماً، رجلاً نبيلاً، شجاعاً، ورجلاً ذا خلق. هذه الصفات تقريباً قد أُجمِعَ عليها؛ فحتى أولئك الذين حاولوا أن يُظهروا صلاح الدين على أنه رجل أسّس ملكه الخاص على حساب كل شيء لم يستطيعوا أن ينفوا عنه تلك الصفات.

وبالفعل، نجد مثلاً إفراييم كارش، هذا المؤرخ الذي سعى لتأكيد أن صلاح الدين بالفعل كان يسعى فقط نحو مجده الشخصي، وقد اتفق مع زيدان في عدة نقاط، فإنه في الأخير لم يستطع أبداً أن يُظهر كيف أن سعيه نحو مجدٍ شخصي كان يتعارض مع صفته بأنه قائد عظيم، أو أنه شجاع، أو حتى أنه رجل ذو خلق. فإفراييم كارش لاحظ أن صلاح الدين، لم يجلب الصليبيين لأرضه مثلاً كي يستغل ذلك ويجعل من نفسه عظيماً، بل هو استطاع أن يدفع الصليبيين عن ديار الإسلام في حين لم يستطع أحد غيره ذلك.

وعن وصف النُبل، أي نعت صلاح الدين الأيوبي بأنه شخص نبيل، نجد أن «جايمس فرانس»، وهو أحد أهم المختصين حالياً بتاريخ العصور الوسطى والحملات الصليبية، يؤكد على أن تلك الصفة تحديداً لا يجب خلطها بمعنى معاصر لها؛ فهي حملت معنى معينا وإيجابيا في عصر صلاح الدين الأيوبي، قد يختلف عن المعنى المعاصر لها. فتلك الصفة حملت معنى أن الشخص الموصوف بها يتمتع بخلق عظيم وبشجاعة كبيرة ويجدر أن يكون منافساً يُحتَرم.

وقد أكد فرانس أن هذه الصفات لا تتعارض أبداً مع كون الموصوف بها ساعياً نحو أهداف سياسية من عدمه؛ فهو نبيل يسعى لضمان أمان أمته، كذلك يعسى لتدعيم شخصه دون تعارض. وأكد فرانس أن هناك أيضاً شبه إجماع بين مؤرخي الحملات الصليبية الغربيين على أن صلاح الدين الأيوبي كان رجلاً نبيلاً. ومن هنا نقل فرانس شعراً كُتب في القرن الثالث عشر بالفرنسية لكاتب مجهول يمدح فيه صلاح الدين الأيوبي بوصفه قائداً شجاعاً ورجلاً ذا خلق عظيم.

وهنا يمكن الإشارة لعملٍ رائدٍ «ليعقوف لييف» الذي دار معظم كتابه «صلاح الدين في مصر» حول حجة أن صلاح الدين سعى للسلطة. في هذا الكتاب يوضح لييف أن صلاح الدين الأيوبي عمل وفقاً لمنطق ساد في عصره وفي مجتمعه المسلم. ووفقاً للييف، الذي حاول جاهداً أن يفحص المصادر التاريخية الإسلامية التي أرخت لصلاح الدين الأيوبي في وقته بعين الشك، فإن صلاح الدين الأيوبي كان رجلاً يتمتع بكل الصفات التي عدها مجتمعه صفات حسنة. فمرة أخرى، نجد أن شاكاً في صلاح الدين لم يستطع نزع تلك الصفات الحسنة عنه.

ويُمكن ذكر عشرات من المؤرخين الكبار من أمثال: أرنولد توينبي، وج. هيربرت ويلز، وهاملتون جب، وميخائيل زابوروف ممن وصفوا صلاح الدين بأنه كان شخصية عظيمة. كذلك يمكن الإشارة إلى وقائع بيعنها تبين مدى نبل وشجاعة صلاح الدين كما رآها، مثلاً، جون دافينبورت. لكن نكتفي بهذه الحجة التي قدمها كل من روبيرت إروين وجايمس فرانس، والتي تؤكد أنه تاريخياً لا يمكن الانفكاك عن «حقيقة» كون صلاح الدين يوسف بن أيوب رجلاً نبيلاً ومن أعظم الشخصيات التاريخية. وما مكّن هؤلاء المؤرخين من التوصل لتك الحقيقة هو أنهم لم يفرضوا قيماً خاصة بهم، كـ«الإنسانية» مثلاً، وانساقوا وراءها، بل وضعوا منهاجية صارمة مكنتهم في الأخير من تمييز صحيح الروايات من مكذوبها.


البطل في الوعي الجماعي

قدم «روبيرت إروين» خريطةً عريضةً لكيفية تناول المؤرخين وكتاب القصص التاريخية والسير لصلاح الدين الأيوبي. وفي هذه الخريطة، يرى إروين أن صلاح الدين الأيوبي قد وُصِف تقريباً بشكل جماعي بعدة صفات منها أنه كان قائدًا عظيماً.
الإمام في المسجد حين يخطب الجمعة ويدعو أن يعود صلاح الدين، فهو ليس مخبولاً يريد عودة شخض صلاح الدين، وإنما يريد عودة «البطل»؛ البطل الذي يتمتع بصفات صارت الجماعة في حاجة ماسّة لها.

ولكن يظل هناك أمر غاية في الخطورة في رؤية زيدان، ومن تبعه؛ وهو أن صلاح الدين الأيوبي ليس بطلاً مصرياً، وإنما هو بطل في الوجدان المسلم بشكل عام. إننا يمكن أن نستعين بالمحلل النفسي الشهير «كارل غوستاف يونغ» ورؤيته حول أبطال الأمم؛ إذ يرى أن «صورة البطل» فئة عامة موجودة في اللاوعي الإنساني دوماً؛ فكل إنسان يحمل في لاوعيه صورة عن «البطل»، ووفقاً لها تسعى تلك الأمم للوصول إليها. كذلك، فهناك صورة عن البطل في لاوعي الجماعة ككل؛ وهو/هي فرد يحمل صفات معينة وفقاً لقيم تلك الجماعة. ثم متى وُجد فرد توفرت فيه صفات البطولة التي تنبع من لاوعي الجماعة، يصبح بطلها، ومن ثم يمكن الاقتداء به.

وبالعودة لصلاح الدين الأيوبي، فإن معظم المسلمين السنة يرونه بطلهم، ويخلعون عليه قيماً كثيرة منها البطولة والشجاعة والنبل. وينمي هذا في وعي الجماعة وجود مثال يمكن أن يُحتذى به يتمتع بتلك الصفات. فالإمام في المسجد مثلاً حين يخطب الجمعة ويدعو أن يعود صلاح الدين، فهو ليس مخبولاً يريد عودة شخض صلاح الدين، وإنما يريد عودة «البطل»؛ البطل الذي يتمتع بصفات صارت الجماعة تفتقدها. وبالتالي، لا عجب من أن ينتفض ضد مقالة زيدان أو غيره الكثيرون محاولين الإبقاء على صورة صلاح الدين؛ فهي صورة تخدم الجماعة، وتجعلهم يشعرون بوجود بريق من الأمل وسط كل ما يعانونه من تخبط واستبداد.

وبالجمع بين رؤية المؤرخين الغربيين لصلاح الدين الأيوبي، والحاجة اللاشعورية لوجود بطل لدى الأمة المسلمة بشكل عام تحققت في شخص صلاح الدين بالفعل، يمكن القول إن صلاح الدين الأيوبي كان بالفعل شخصية نبيلة؛ نبيلة تاريخياً وفي وجدان الجماعة: فهو من الأبطال الذين جاءت سيرتهم الذاتية مليئة بالنبل والكرام ومحاسن الأخلاق، ومن ثم مكنت الجماعة من اعتباره بطلاً بلا منازع. ويبرز في الأخير وصف يوسف زيدان لصلاح الدين الأيوبي على أنه «حقير» ضد كل التحقيقات المدققة، بشكل صارخ، بل قد يُقال إن صلاح الدين الأيوبي يمكن أن يوصف بأي شيء ما عدا أنه «حقير»!

المراجع
  1. Robert Irwin, «Saladin and the Third Crusade: a case study in Historiography and the Historical Novel», in: «Companion to Historiography», ed. Michael Bentley, (New York, Routledge, 1997)
  2. James France, «Saladin, from Memory to Myth in the Continuations», in: «Deeds Done Beyond the Sea», (New York, Colombia University Press, 1943)
  3. Efraim Karsh, «Islamic Imperialism: a History», (New Haven and London, Yale University Press, 2013)
  4. Yaacov Lev, «Saladin in Egypt», (Netherlands, Brill, 1999)
  5. John Davenport, «Saladin», (USA, Chelsea House Publishers, 2003)
  6. Andrew Samuels, «Jung and the Post-Jungians», (New York, Routledge, 1986)