وما نراه اليوم في الجزائر رأينا مثله بالأمس في تركيا وكيف أن الديمقراطية مثل صنم العجوة الذي كان يصنعه المشرك فإذا جاع أكله، فالحكام العلمانيون إذا أحسوا بأي خطورة على مواقعهم وأن الإسلاميين على مقربة من الحكم سيسارعون بحل المجالس النيابية والأحزاب ويكون الجيش مستعدًا دائمًا وفورًا لإجهاض هذه الديمقراطية التي اخترعوها، لهذا وغيره نرى أن الحل البرلماني على ضوء ما طرحناه ليس هو الطريق!

الدكتور ياسر برهامي – السلفية ومناهج التغيير (ما قبل الثورة)

أما عن الشيخ فلم يعد المسجد وحده مكان اللقاء بالأخوة، فقد صار لديه مقر لجمعية وآخر للحزب، ولم تعد كتب الفقه والأصول والرقائق الكتب المقروءة دائمًا وأبدًا، فلا بد من مطالعة كتب القانون الدستوري وقراءة ولو يسيرة عن النظم الانتخابية، صارت الخطب تحوي مصطلحات جديدة مثل «المواطنة» و«الحريات السياسية» بعدما كان الأمر مقتصرًا على نصوص القرآن والسنة، وكلام الفقهاء وشروحهم، اضطر الشيخ لخلع الثوب الأبيض القصير وغطاء الرأس المعتاد، واستبدله ببدلة وربطة عنق على الطراز الغربي المرفوض بالأمس، لا بد من التخفيف من نبرة الهجوم الشرس على الديموقراطية ، أصبح الترشح في المجالس النيابية أمرًا يلزم التفكير فيه، فقد أصبح هذا واجب الوقت!

أما عن المريد فقد وجد طريقًا آخر نحو الجنة، طريقًا لا يلزم له دراسة كتب الفقه وحفظ المتون وإلقاء الكلمات في المساجد بعد الصلوات، حان الوقت للاختلاط بفئات وطبقات أخرى من بعيدًا عن المسجد كان مجرد القرب منها أمرًا مزعجا يمتنع التفكير فيه، ولكنها الدعاية الانتخابية ولوازم حشد الجماهير لصناديق الاقتراع التي فتحت الباب على مصراعيه لتغيير تلك السلوكيات ومن قبلها القناعات، بل والاعتقادات أحيانا.


قانون المتوالية الفكرية: الدعوة السلفية والصعود إلى الهاوية

في كتابه «مآلات الخطاب المدني» [1] يناقش إبراهيم السكران التحولات الفكرية لدى فئات من الحركة الإسلامية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وعلى رأسها الانقلاب الحاد في جدول القيم، وتحول السؤال المركزي لدى بعض الإسلاميين من «كيف ينتصر الإسلام؟» بما يحويه من مفاهيم عدة كتحكيم الشريعة والبحث عن حل إسلامي، والعمل التربوي، إلى سؤال آخر وهو «سؤال الحضارة» بالمعنى المادي البحت، ويعرض ما سماه بقانون «المتوالية الفكرية»، ومقصوده أن الانحراف اليسير في البداية قد يصل في نهاية المطاف إلى أفكار شديدة الغرابة تتناقض من بديهيات ظاهرة، ويزداد الأمر سوءًا مع مرور الأجيال الفكرية، كما يقول ابن تيمية «وإذا كان الغلط شبرًا، صار في الأتباع باعًا، حتى آل هذا المآل».

رفضت الدعوة السلفية قبل ثورة يناير المشاركة السياسية بمختلف أشكالها، فامتنعت من عمل حزب أو طرح مرشحين لبرلمانات مبارك، أو حتى تأييد الأخوان أو غيرهم بالذهاب إلى صناديق الاقتراع، كذلك رفضت المشاركة في أي نوع من أنواع معارضة النظام، لا مظاهرات ولا تقارب مع القوى السياسية المعارضة لمبارك، وإلى آخر أيام مبارك في الحكم امتنعت عن المشاركة في المظاهرات، بل ولم تجرأ على المطالبة صراحة برحيل مبارك في آخر بيان أصدرته قبل 11 فبراير/شباط 2011.

أما بعد الثورة فقد تغيرت المواقف ومن ورائها القناعات شيئًا فشيئًا، بدأ الأمر بحشد الجماهير في الإعلان الدستوري، تلاه الموافقة على إنشاء حزب سياسي ومن ثمّ المنافسة في الانتخابات البرلمانية، إلا أن هذا لم يكن آخر التحولات الفكرية والحركية.

رفضت الدعوة السلفية بذراعها السياسي حزب النور في انتخابات 2011 التوافق على قائمة تضم علمانيين وأقباطًا، وأفتى الدكتور برهامي بأفضلية التصويت لقائمة التحالف الإسلامي التي ضمت وقتها حزب النور والأصالة والبناء والتنمية، وقبل الحزب على مضض ترشيح المرأة على قوائمه، وخرج من تلك الإشكالية بوضعها في آخر القائمة، وقيل وقتها أن تواجد إمرأة في البرلمان تعتنق أفكارًا إسلامية هو أقل ضررًا من البرلماني «العلماني».

إلا أن هذه المبررات لم تكن كافية لتبرير المشاركة في انتخابات برلمان 2015، حين رضخ السلفيون لقانون الانتخابات الجديد الذي وضع شروطًا للقائمة منها تمثيل المرأة والأقباط، وفي الأخير كانت محصلة مقاعد حزب النور من القوائم الأربع تساوى صفرًا، وكان النور قد سعى قبل الانتخابات للتوافق مع القوى السياسية لتكوين قائمة موحدة – بعد أن كان هذا من الممنوعات في السابق – إلا أن قائمة «في حب مصر» المسيطرة على المشهد رفضت ضم أي مرشح إسلامي لقوائمها.

من راقب المشهد بشيء من الدقة علم أن حزب النور فقد الجزء الأعظم من شعبيته التي جعلته يحصل على ما يقارب الربع من مقاعد برلمان 2011، بجانب قانون الانتخاب بالقائمة المطلقة، وما صاحب أيام التصويت من مضايقات أمنية لأفراد حزب النور أمام اللجان وصلت إلى احتجاز بعضهم في أقسام الشرطة، في الوقت الذي سُمح فيه لمرشحين آخرين بتوزيع دعاية بل ورشاوى أمام اللجان، ظهر ذلك لكل مدقق إلا متخذي القرار في الدعوة السلفية، لدرجة أن كتب الدكتور برهامي بعد الخسارة الفادحة في العام الفائت «أن تقييم التجربة لا ينبغي أن يُبنى على معطيات ما بعد النتائج؛ فنحن لا نعلم الغيب، والواجب تقييم الأخطاء والتقصير بناءً على المعطيات وقت اتّخاذ القرار».

http://gty.im/493207566

وكأن الواقع قُبيل التصويت كان يدل على عكس ما أظهرته النتائج، على الرغم من أن إقصاء حزب النور من المشهد كان يُصرح به على شاشات التلفاز! في حين أرجع البعض الآخر الخسارة إلى قانون الانتخابات، وكأنهم لم يعوا القانون إلا بعد أن وقعوا ضحية له.

قدم السلفيون كل ما يستطيعون من أجل نيل رضا النظام، فتصدروا المشهد في الإطاحة بالرئيس مرسي، ثم وافقوا على الدستور وحشدوا له، ثم رضوا بعقد الانتخابات الرئاسية قبل البرلمانية، ودعمّوا السيسي كمرشح للرئاسة، وفي المقابل لم يجنوا سوى خفي حنين، فتارة يطلق النظام يدي الإعلام للهجوم على السلفيين بأنهم حلفاء للإخوان وأنهم النواة الفكرية لتنظيم الدولة، وتارة أخرى تُرفع دعاوى قضائية لحل الحزب باعتباره حزبًا دينيًا مخالفًا للدستور، على الرغم من أن خطاب النور في تلك المرحلة لم يعد يردد خطابات عن «تطبيق الشريعة» و«الهوية الإسلامية» وغيرها من المصطلحات التي حشد لها مئات الآلاف في جمعة 29 يوليو، وكانت الصدمة الكبرى بالحصول على 12 مقعدًا في البرلمان بنسبة 2% بعد أن حصد تحالف النور ربع مقاعد برلمان 2011، وظهر الحال كما لو أن الهدف الأسمى للدعوة السلفية هو البقاء خارج المعتقلات، وليس ثمة شيء بعد ذلك.


ما الذي فعلته السياسة بالسلفيين؟

يستخدم الباحث خليل العناني اقترابين [2] لفهم تفاعلات الحركات الاجتماعية مع محيطها السياسي والاجتماعي لتفسير التغيرات التي طرأت على التيارات السلفية في مصر بعد ثورة يناير، الأول هو اقتراب «هيكل الفرص المتاحة» وهو الذي يقدم إطارًا تفسيريًا لانخراط بعض الحركات الاجتماعية في المشاركة السياسية بعد أن كانت ممتنعة مع وجود انفتاح في المجتمع، والثاني هو اقتراب «العملية السياسية» الذي يفسر مآلات انخراط الحركات الاجتماعية على المجال السياسي، ويفسر كذلك تأثير الواقع السياسي على رؤى هذه الحركات.

لا شك أن مناخ الحريات الذي ساد بعد ثورة يناير قد أتاح الفرصة لمشاركة فئات واتجاهات قد أحجمت عن العمل السياسي من قبل، وهو ما دفع سلفيي النور لاستغلال الفرص والانخراط في العملية السياسية،فوجود حزب له أعضاء ونواب برلمانيين ومقرات بمختلف المدن والقرى هو مجال رحب للتأثير في المجتمع، وكذلك لم يكن السلفيون ليدعوا جماعة الإخوان لتمثيل التيار الإسلامي وحدهم في المشهد السياسي.

كذلك أثرت الدعوة السلفية أحيانًا في المشهد وتأثرت في أحايين، كمشهد 19 مارس، وجمعة 29 يوليو، ونجح النظام الجديد/القديم في فصل النور عن باقي فصائل التيار الإسلامي بضمه لمشهد الإطاحة بمرسي، كما لو أنه لا يعادي التيار الإسلامي السياسي.

في الوقت نفسه تأثرت الدعوة السلفية على مستوى الحركة والفكر، وإن أكد قادتها في كل مناسبة أنها لا زالت ثابتة على منهجها، ففي أقل من عدة سنوات استبدلت الدعوة السلفية بآراءها وأطروحاتها أخرى مضادة لها، وبفتوى أُنشئ الحزب، وبأخرى ترشحت المرأة في البرلمان، وبثالثة استعانوا بأقباط على قوائهم، ونسى السلفيون أو تناسوا أطروحات ظلوا يرددونها ما يزيد عن ثلاثين عامًا.

وأخيرًا ساهم في كل ذلك حالة الجمود الكامنة في عقل الدعوة السلفية، وعجزه عن إيجاد حلول في التعامل مع الواقع، والاجتهاد في تبني أفكار وأطروحات جديدة تناسب الواقع الجديد بعد الثورة، مع إعادة تقييم مواقفهم قبل الثورة.

لم يستقر الحال بالدعوة السلفية الآن إلى مآلات السكران، من التخلي «الكامل» عن الهوية الإسلامية في الفكر والحركة، واستبدالها بالنزعة «المادية»، ولكن على ما يبدو أنهم يسير في اتجاهها، وتظل مراجعة الذات ونقدها نقدًا مجردًا «فريضة غائبة» في الدعوة السلفية، والحركة الإسلامية، بل ومختلف التيارات السياسية في بلادنا.

المراجع
  1. إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني، صـ40.
  2. خليل العناني، "التيارت السلفية في مصر، تفاعلات الدين والأيديولوجيا والسياسة"، ورقة بحثية ضمن كتاب "الإسلاميون ونظام التحول الديموقراطي"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.