يتعامل البعض مع الشخصيات التاريخية من منطلق الانتقاص والوقيعة، دون الأخذ في عين الاعتبار الزمن وحقيقة الصراع والأجواء المحيطة بالتحالفات السياسية والحربية، بل ينسى البعض الصراع المذهبي الذي يسيطر في كثير من الأحيان على مجمل الصراع وأجوائه، ولعل قصة الخلاف بين نور الدين محمود و صلاح الدين الأيوبي كانت إحدى دوافع البعض للنيل من كليهما.


الصراع في الشرق

شهد العالم الإسلامي العديد من الصراعات قبل مرحلة الحروب الصليبية؛ إذ لم تتوقف الحرب بين الخلافة الفاطمية الشيعية وبين الخلافة العباسية السنية، وإن كانت هذه الأخيرة ضعيفة إلا أن السلاجقة استطاعوا أن يضمنوا لها البقاء، ليصبحوا بذلك درعًا وسيفًا لمجرد هيكل سياسي يُجمع السنة تحت راياته، وبينما كانت بغداد تحت حماية السلاجقة الذين صدوا عنها هجمات عدة، كانت القاهرة قد خرجت للتو من أتون مجاعة قاتلة هزت أركان خلافة العبيديين.

لقد نُصب مسرح الصراع بأرض الشام، فكان بيت المقدس والساحل يقع تارة في يد السلاجقة وتارة أخرى في يد الفاطميين، كما كان لدمشق وحلب الجانب الأكبر من ذلك الصراع، ولكن كان هناك عنصر آخر يبرز في الصراع من حين لآخر تمثل في البيزنطيين، تلك الإمبراطورية التي كانت تقاوم من أجل البقاء، هذه المقاومة تمثلت في مقارعة السلاجقة في الأناضول، حرب أخرى شهدت بالمجد للسلاجقة الذين استطاعوا أن يقضوا على بطرس الناسك وزمرته، ولكن الموت فاجأ السلطان ملكشاه بن ألب ارسلان، لتتفكك بعدها الدولة وينشغل قادتها بالصراع فيما بينهم. وبينما كانت القاهرة تتعافى من شدتها مات الوزير الفاطمي بدر الدين الجمالي وقد أسس عهدًا جديدًا، عصر الوزارة الكبرى، حيث أصبح الخليفة الفاطمي مجرد رمز بينما يتحكم الوزير الأكبر في كل شيء.

إذًا هناك خلافتان ممزقتان، ودولة سلاجقة الروم تسقط عاصمتها نيقية، وأنطاكية محاصرة من عدو جديد دخل الصراع، والصليبيون جاءوا إثر حملة بطرس الناسك من أجل تحرير قبر المسيح، ثم انفرط عقد المدن من يد السلاجقة. استغل الفاطميون حصار أنطاكية وهجموا على مدن فلسطين تباعًا، وقد حاول ما تبقى من أتابكة السلاجقة فك حصار أنطاكية ولكنهم فشلوا، سقطت المدينة بيد الصليبيين غير أنهم غدروا بحلفائهم العبيديين، ودخلوا مناطق فلسطين في ربيع عام 1099م في قوة عدادها ألف فارس وخمسة آلاف من المشاة ، فمرو بعكا التي قام حاكمها بتموين الصليبيين، ثم ساروا إلى قيسارية ثم تمكنوا من احتلال الرملة، ثم حاصروا بيت المقدس وسرعان ما دخلوا المدينة التي ارتكبوا بها مذبحة مروعة يشيب منها الولدان، فقد جرت الدماء أنهارًا في المدينة المقدسة، و قتلوا في أنحاء المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا. وقد ذكر بن الأثير أنه لم ينجُ من المدينة سوى الحامية الفاطمية، وبعد وقت وجيز حاول الأفضل بن بدر الدين الجمالي الوزير الفاطمي استعادة القدس، ولكنه انهزم شر هزيمة من حلفاء الأمس.


بداية جديدة

استولى الصليبيون على الساحل تباعًا، وبينما كان السلاجقة يجمعون شتاتهم كانت خناجر الحشّاشين تخترق صدور قادة الصحوة، حتى ظهر بالساحة عماد الدين زنكي الذي استطاع أن يضم حلب لسلطانه، وبقيت دمشق عصية عليه تحت وصاية مملكة بيت المقدس. لقد كان لعماد الدين زنكي دور بارز في الصراع، حيث استطاع أن يسترد مدينة الرها وينهي وجود الإمارة الصليبية في منطقة الجزيرة الفراتية، لكن لم يدم حكم زنكي طويلاً، فقد عاجلته المنية ليخلفه ولده الذي حمل على عاتقه تحقيق حلم أبيه في تحرير بيت المقدس. كان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد، حاصر دمشق الموالية للصليبيين، ثم تمكن من استعادتها فيما بعد.

وفي مصر كان البيت العبيدي قد سُنت فيه سنة القتل، خلفاء ضعفاء يقتلون بعضهم بعضًا ووزراء يتحكمون في كل شيء، صراع مرير بين الوزيرين شاور وضرغام على كرسي الوزارة. استعان شاور بنور الدين محمود الذي أرسل معه جيشًا إلى القاهرة بقيادة أسد الدين شيركوه الذي هزم جيش الفاطميين بقيادة ضرغام، كان نور الدين محمود يرغب في توحيد مصر والشام تحت حكم الدولة الزنكية، فتكون هذه أول خطوة نحو تحرير بيت المقدس، ولكن سرعان ما انقلب شاور على حلفائه، وطلب العون من الصليبيين، حروب عدة دارت بين أسد الدين شيركوه والقوات الفاطمية المدعومة من الصليبيين، وقد برز في تلك المعارك دور الشاب يوسف بن أيوب –صلاح الدين الأيوبي- الذي كان قد جاء إلى مصر ضمن جيش عمه أسد الدين شيركوه.

كان شاور يتلاعب بكل الأطراف للبقاء في منصبة، فتارة يهادن أسد الدين شيركوه ويستصرخه للنجدة، وتارة يطلب النجدة من الصليبيين لمجابهة نفوذ الزنكيين المتنامي داخل مصر الفاطمية، وبعد العديد من المعارك نجح أسد الدين فى الدخول إلى القاهرة ليقبض على شاور، وسرعان ما أصدر الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله حكمًا بقتله وتعيين أسد الدين بالوزارة.


صلاح الدين وزيرًا

لم يمكث أسد الدين شيركوه في الوزارة كثيرًا، حيث توفي بعد شهرين فقط من توليته، ليعيِّن العاضدُ صلاحَ الدين خلفًا لعمّه، ولعل صغر سن صلاح الدين هو مما شجع العاضد على توزيره لاعتقاده بإمكانية السيطرة عليه. تولى صلاح الدين الوزارةَ، فكان هو صاحب السلطات الفعلية ككل وزراء العبيديين منذ عهد بدر الدين الجمالي. وتوالت الرسائل من نور الدين محمود بوجوب القضاء على الدولة الفاطمية الضعيفة؛ إذ أن هدف نور الدين تمثل في القضاء على الدولة العبيدية وإعادة مصر إلى مذهب أهل السنة وراية الخلافة العباسية، وبهذا يستطيع مواجهة الصليبيين بقوة واحدة متحدة، وخاصة بعد اكتمال محور الشام مصر، ولكن كان لصلاح الدين رأي آخر، كان يعلم أن اقتلاع دولة الفاطميين أمر صعب، فقد صمدت قرابة الثلاثة قرون، واحتلت مساحة واسعة من العالم الإسلامي، فكان يرى التريّث باتخاذ هذه الخطوة، لا سيّما وأنها دولة لها الكثير من المؤيدين، على عكس رغبة نور الدين الذي كان يعتقد استحالة توحيد الجبهة الإسلامية طالما ظلت دولة الفاطميين، فأخذ يلح على صلاح الدين باتخاذ هذه الخطوة، لكن تأخر صلاح الدين في الخطبة للخليفة العباسي كما أوصاه نور الدين محمود، وقد رويت بعض الروايات عن صراع لاح في الأفق بينهما بسبب ذلك التلكؤ.

إن البعض يضخّم من أمر الخلاف ويصوّر أن صلاح الدين غدر واستأثر بأمر مصر دون نور الدين، على الرغم من أنه نائب لنور الدين فيها، وبالغ هؤلاء عندما تحدثوا عن حربٍ كادت تقع بين الرجلين، وكان الاعتماد على تلك النظريات مستندًا على رواية ابن الأثير الذي يلتمس المناسبات أحيانًا لنقد صلاح الدين وتجريحه، وخاصة عند المقارنة بينه وبين نور الدين، فابن الأثير أو كما يسمى مؤرخ البيت الزنكي في كتابيه «الكامل في التاريخ» و«الباهر في تاريخ الدولة الأتابكية» قد ذكر آراءه في كتابيه والتي نقلها عنه عدد من المؤرخين، وفحواها أن صلاح الدين لم يكن وفيًا لأستاذه نور الدين، بل كان يجتهد منذ استقرار نفوذه في مصر إلى الاستقلال عنه، ومزاحمته السيادة السياسية ببلاد الشام. فكل هذه الآراء كتبها ابن الأثير بعد وفاة صلاح الدين.

وقد ذكر عماد الدين الأصفهاني -وزير نور الدين محمود- أن صلاح الدين كان لا يخرج عن أمر نور الدين، ويعمل له عمل القوي الأمين ويرجع في جميع مصالحه إلى رأيه المتين. ولعل تلك الشهادة من وزير الدولة الزنكية تمحو ما بدا من ابن الأثير، كما أن القارئ في التاريخ يرى كم التضارب في تلك الأقوال التي تمنح صلاح الدين الأحقية في ضم ممتلكات الدولة الزنكية بعد وفاة نور الدين محمود، والصراع الذي نشب بين الأتابكة للحصول على الكرسي.


نهاية الفاطميين العُبيدين!

قد يكون للرجلين – نور الدين وصلاح الدين – أفكار ورؤى مختلفة، فحين كان يريد نور الدين محمود أن ينهي وجود الدولة العبيدية، كان صلاح الدين يرى وجوب التريث في الأمر، ولعل ذلك يتضح من الرحمة والوفاء الذي تعامل به صلاح الدين مع الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله، فقد كان العاضد شيخًا مريضًا، وكانت خطوات صلاح الدين هادئة متريثة، ففي بادئ الأمر استكثر من الجند الموالين له، وتمكن من إعفاء الكثير من قادة العبيديين من مناصبهم، ومنح بعض أمرائه سكنًا بقصر الخلافة مما جعل رواد القصر يحظون بمكانة تساوي مكانة الخليفة الهَرِم، والذي لم يكن له من الأمر شيء. وقد عزل صلاح الدين العديد من الولاة مما أثاروا ريبته ونقمته، فقامت عليه ثورات عدة أهمها ثورة النوبة حيث كانت أسوان مركزًا قويًا للعُبيديين، فأرسل أخاه العادل الذي تمكن من تحقيق نصر منح صلاح الدين القوة في اتخاذ الخطوة التالية، فقام بعزل قضاة الإسماعيلية – الشيعة – وعيّن مكانهم قضاة سنة، كما كان الحدث الأبرز قيامه بفتح القاهرة لعامة الناس، فأصبحوا يخرجون منها ويبنون حولها كما يحلو لهم، فقد كانت القاهرة مدينة خاصة للخلفاء الفاطميين ورجالهم، وسرعان ما عاد للأذهان مرة أخرى قضية نسَب العبيديين، وتشكك العامة في هذه القضية، مما هيأ العامة لأي خطوة قادمة، وكلّل صلاح الدين مجهوده بالسيطرة على دار الحكمة التي كانت بمثابة القلعة الفكرية للمذهب الإسماعيلي.

لقد كان لصلاح الدين منهجية في تبديل المناخ الفكري والفقهي لدى العامة، فكانت خطواته بطيئة بالنسبة للبعض، بينما يراها هو مترفقة هادئة دون مواجهات تجعله يخسر الكثير، فأسس مدارس سنية تقوم على تفقيه الناس في الأقطار الفاطمية، كما أوقف خطبة الجمعة من الجامع الازهر ليفتّ من عضد فقهاء المذهب الشيعي، استغرق الأمر ثلاث سنوات لاتخاذ الخطوة الحاسمة بقطع الخطبة عن العبيديين الفاطميين، وإعادتها إلى العباسيين، وهو ما تمّ في شهر المحرم سنة 567هــ/1171م، عندما قطع صلاح الدين الخطبة بمصر للعاضد الفاطمي، وأقامها للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله، وأعاد السواد شعار العباسيين، وما هي إلا أيام ومات العاضد لدين الله الفاطمي، لتُطوى صفحة الخلافة العبيدية الفاطمية في مصر.

بعدما أصبح صلاح الدين في سدة حكم مصر منفردًا، طلب منه نور الدين محمود أن ينضم إليه في هجومه على مدينة الكرَك بالأردن، ولكن صلاح الدين لم يكن في عجلة من أمره وأراد أن يرتب أموره الداخلية أولاً، فاعتذر عن المشاركة في الهجوم وتعلل بمرض والده -فكما ذكرنا سابقًا كان لكل من الرجلين وجهة نظر ورؤية خاصة-، فقد رأى صلاح الدين أن يتصدى للفتن الداخلية التي كانت تحاك ضده، حيث حاول بعض المنتسبين للبيت العبيدي إعادة الخلافة الفاطمية، فتآمروا ضد صلاح الدين واتصلوا بالصليبيين ودفعوا إليهم بالأموال ليهاجموا الشواطئ المصرية، ولكن صلاح الدين تصدى لتلك المحاولة وعاقب المتمردين.

المراجع
  1. تاريخ الفاطميين في شمالي إفريقية ومصر وبلاد الشام – محمد سهيل طقوش
  2. صلاح الدين الفارس المجاهد، والملك الزاهد المفترى عليه – شاكر مصطفى
  3. التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية – ابن الأثير
  4. الكامل في التاريخ – ابن الأثير
  5. الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية – أبو شامة المقدسي