لقد كانت الهجرة حلاً قاسيًا على نفس الرسول والصحابة؛ ففضلاً عن كونها انطلاقة للأمام، إلا أنها كانت مفارقة للخلف والأهل والديار، تضحية بكل شيء أرضي لأجل خير سماوي!

لقد حُرم مشركو مكة الخير كله، منذ جحدوا الرسالة وقعدوا بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن به، ويبغونها عوجًا. ولئن نجحت دعايتهم الكاذبة في منع قبائل كثيرة من دخول الإسلام، فإن الحق لابد أن يعلو، وأن يثوب إليه المضللون والمخدوعون على شرط أن يظلّ أهله أوفياء له، حراصًا عليه، صابرين محتسبين، وقد قيّض الله للإسلام من استنقذه من البيئة التي صادرته، فأنس بعد وحشة، واستوطن بعد غربة، وشقّ طريقه في الحياة بعد أن زالت الجلامد الصادة الملقاة في مجراه[1].

إن الهجرة كانت نسقًا متماسكًا لجماعة آمنت بالتوحيد، آمنت بفكرة وضحّت من أجلها، كانت نتيجة لثلاثة عشر عامًا من التعب والرهق والصبر والشهادة، كانت نتيجة لهجرتين سابقتين في أرض الحبشة، ورغم الاستضعاف والتشريد، لم تفتأ هذه الجماعة في العلو يومًا بعد يوم، بشهادة سادة قريش قبل غيرهم، لكنه علو الإيمان الممزوج بالتضحية!

ويكشف لنا ابن إسحاق –وهو من أقدم من أرّخوا للسيرة النبوية– نماذج لافتة من التضحية والبذل لأولئك المهاجرين الأولين، لقد تركوا كل شيء خلفهم لأجل الله ورسوله، قال:

وَتَلَاحَقَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَبْقَ بِمَكّةَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، إلّا مَفْتُونٌ أَوْ مَحْبُوسٌ، وَلَمْ يُوعَبْ[2] أَهْلُ هِجْرَةٍ مِنْ مَكّةَ بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَإِلَى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَهْلُ دور مسمّون: بنو مظعون من جُمَحٍ؛ وَبَنُو جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، حُلَفَاءُ بَنِي أُمَيّةَ؛ وَبَنُو الْبُكَيْرِ، مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ، حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنّ دُورَهُمْ غُلّقَتْ بِمَكّةَ هِجْرَةً، لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ[3].

فهذه العوائل خرجت كلها عن بكرة أبيها خلف رسول الله، حتى أضحت بيوتها في مكة لا صارخ فيها، فاستولى عليها أبو سفيان ولم يكن قد أسلم بعد، فباعها لآخرين، فلما علم بنو جحش أن بيوتهم صُودرت وبيعت دون وجه حق، ذهب عبد الله بن جحش لرسول الله يشكو إليه، فقال له رسول الله ((صلى الله عليه وسلم: «أَلَا تَرْضَى يَا عَبْدَ اللهِ أَنْ يُعْطِيَك اللهُ بِهَا دَارًا خَيْرًا مِنْهَا فِي الْجَنّةِ؟ قَالَ: بَلَى؛ قَالَ: فذلك لك»[4].

لقد «سَعَتْ قريشٌ بشتى الطرق إلى عرقلة الهجرة إلى المدينة، وإثارة المشاكل أمام المهاجرين، مرة بحجز أموالهم ومنعهم من حملها، ومرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم، وثالثة بالاحتيال لإعادتهم إلى مكة. لكن شيئًا من ذلك لم يَعُقْ موكبَ الهجرةِ، فالمهاجرون كانوا على أتمّ الاستعداد للانخلاع عن أموالهم وأهليهم ودنياهم كلها تلبية لداعي العقيدة»[5].

كان إيمان المهاجرين بهجرتهم ودينهم خلف رسول الله عجيبًا، ففي كل سيرة تضحية بأغلى الأشياء وأنفسها، وهذه أم سلمة رضي الله عنها نموذج من مئات هذه النماذج السامقة، تقول:

«لَمَّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ رَحَلَ لِي بَعِيرَهُ ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إلَيْهِ، فَقَالُوا هَذِهِ نَفْسُكَ غَلَبْتنَا عَلَيْهَا، أَرَأَيْتَ صَاحِبَتَكَ هَذِهِ؟ عَلَامَ نَتْرُكُكَ تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلَادِ؟ قَالَتْ: فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذُونِي مِنْهُ.

قَالَتْ: وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ، رَهْطُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالُوا: لَا وَاَللَّهِ، لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إذْ نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا. قَالَتْ: فَتَجَاذَبُوا بَنِي سَلِمَةَ بَيْنَهُمْ حَتَّى خَلَعُوا يَدَهُ، وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إلَى الْمَدِينَةِ.

قَالَتْ: فَفَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي. قَالَتْ: فَكُنْتُ أَخْرُجُ كُلَّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ بِالْأَبْطُحِ، فَمَا أَزَالُ أَبْكِي، حَتَّى أَمْسَى سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا حَتَّى مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّي، أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَرَأَى مَا بِي فَرَحِمَنِي فَقَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ: أَلَا تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ، فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا! قَالَتْ: فَقَالُوا لِي: الْحَقِي بِزَوْجِكَ إنْ شِئْتِ.

قَالَتْ: وَرَدَّ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ إلَيَّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي. قَالَتْ: فَارْتَحَلْتُ بَعِيرِي ثُمَّ أَخَذْتُ ابْنِي فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجْتُ أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ. قَالَتْ: وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَتَبَلَّغُ بِمَنْ لَقِيتُ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيَّ زَوْجِي، حَتَّى إذَا كُنْتُ بِالتَّنْعِيمِ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَقَالَ لِي: إلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ؟

قَالَتْ: فَقُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ. قَالَ:أَوَمَا مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: لَا وَاَللَّهِ، إلَّا اللَّهُ وَبُنَيَّ هَذَا. قَالَ: وَاَللَّهِ مَا لَكَ مِنْ مَتْرَكٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقَ مَعِي يهوى بى، فو الله مَا صَحِبْتُ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ قَطُّ، أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ، كَانَ إذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، حَتَّى إذَا نَزَلْتُ اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي، فَحَطَّ عَنْهُ، ثُمَّ قَيَّدَهُ فِي الشَّجَرَةِ، ثُمَّ تَنَحَّى (عَنِّي) إلَى شَجَرَةٍ، فَاضْطَجَعَ تَحْتَهَا، فَإِذَا دَنَا الرَّوَاحُ، قَامَ إلَى بَعِيرِي فَقَدَّمَهُ فَرَحَلَهُ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، وَقَالَ: ارْكَبِي.

فَإِذَا رَكِبْتُ وَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ، فَقَادَهُ، حَتَّى يَنْزِلَ بِي. فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتَّى أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بقُباءٍ، قَالَ: زَوْجُكَ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ- وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا- فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى مَكَّةَ.

قَالَ: فَكَانَتْ تَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الْإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَمَا رَأَيْتُ صَاحِبًا قَطُّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ»[6].

لم تكن الهجرة عند هؤلاء الجبال إذن مجرد انتقال من بلد قريب حبيب إلى بلد ناء بعيد، ولا ارتحالا طلبًا للقوت والرغد في أرض مخصبة، ولا محبة للدنيا وزينتها، لقد كانت «إكراه رجلٍ آمن في سربه، ممتدّ الجذور في مكانه على إهدار مصالحه، وتضحية أمواله والنجاة بشخصه فحسب، وإشعاره – وهو يُصفّي مركزه – بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخّض عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل: مغامر طيّاش، فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها يحمل أهله وولده؟ وكيف وهو بذلك رضي الضمير، وضاء الوجه؟! إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش! إيمان بمن؟ بالله الذي له ما في السموات والأرض .. وهذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن، أمّا الهيّاب الخوّار القلق، فما يستطيع شيئًا من ذلك»[7]!

هذه التربية الناجحة لم تكن لتقفز بهؤلاء القمم إلى عرش الإنسانية في كل شيء دون إيمان قد اختلط باللحم والعظم، ولم يكن قيصر الروم كاذبًا وهو يقول لأبي سفيان بن حرب حينما سأله عن دين الإسلام، وصفات النبي وأصحابه: «وَسَأَلْتُك هَل يرْتَدُّ أحد مِنْهُم عَن دينه بعد أَن يدْخلَهُ سُخْطَة لَهُ؟ فَزَعَمتَ: أَن لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذا خالطَ بشاشة الْقُلُوب»[8].


*باحث في التاريخ والتراث

[1] محمد الغزالي: فقه السيرة ص109. ط دار الشروق.

[2] أوعب القوم: خرجوا كلهم لم يبق ببلدهم منهم أحد.

[3] السهيلي: الروض الأنف في شرح السيرة النبوية 4/ 237. ط 1، دار إحياء التراث العربي – بيروت.

[4] سيرة ابن هشام 1/ 499. تحقيق مصطفى السقا وآخرين. ط البابي الحلبي وأولاده – القاهرة، 1955م.

[5] أكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/ 202. مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة.

[6] سيرة ابن هشام 1/ 470.

[7] الغزالي: فقه السيرة ص120.

[8] ابن سيد الناس: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير 2/ 326. ط1، دار القلم – بيروت.


السيرة والتأريخ لحدث الوحي

مستشرقون ومهتدون في موسم الحج الأعظم!