استعرضنا في المقال السابق حجة «إبريق راسل» ومفهوم رؤية العالم ودوره في تشكيل المعرفة والاعتقادات، وانتهينا إلى أن تلك الحجة ليس لها أي وزن معرفي عند تطبيقها على الإله في رؤية المؤمن للعالم، على عكس أصحاب الرؤية العلمية التجريبية المادية للعالم. يتبقى لنا تحليل نتيجتين أساسيتين يستخلصهما الكثير من الأشخاص من تلك الحجة:


تحليل النتائج

عدم وجود دليل إثبات للفرضية هو إثبات لخطأ الفرضية، فعدم وجود دليل إثبات للإله، هو إثبات لعدم وجوده.

التعليق: نتيجة حجة راسل معرفيًا هي كالتالي: «إنه من الخطأ أن أقتنع بصحة فرضية (لا يمكن إثبات صحتها) لمجرد إنه لا يمكن إثبات عدم صحتها». ولو مددناها على استقامتها معرفيًا، فسنجد أنها تسير في الاتجاهين بمعنى أنها أيضًا تقول التالي: «إنه من الخطأ أن أقتنع بخطأ بفرضية (لا يمكن إثبات عدم صحتها) لمجرد إنه لا يمكن إثبات صحتها».

إن الاكتفاء باتجاه واحد فقط من النتيجة هو مثال حرفي لمغالطة الاحتكام للجهل، حيث يكون «عدم وجود دليل إثبات للفرضية هو إثبات لعدم صحتها» و«عدم وجود دليل لخطأ الفرضية هو إثبات لصحتها».

ولهذا فالحكم المعرفي هو نقطة توازن بين أدلة الإثبات وأدلة النفي، ولهذا فالنتيجة الصحيحة معرفيًا عند غياب أدلة الإثبات والنفي معًا هي اللا أدرية وليس الإلحاد كما يدعي البعض.

فالملحد الذي يرفض الإله بدون دليل نفي لمجرد عدم وجود دليل إثبات، هو مخطئ بقدر المؤمن الذي يؤمن بالإله بدون دليل إثبات لمجرد عدم وجود دليل نفي (كالمؤمنين بإله الفجوات)، كلاهما يرتكب مغالطة الاحتكام للجهل. فالأرض كانت تدور حول الشمس من قبل إثبات ذلك، بل أن حتى في الرياضيات تجد أن من أهم نتائج مبرهنة عدم الاكتمال لجودل، هو الفصل بين الحقيقة وبين قابلية الإثبات.


عبء الإثبات على صاحب الادعاء!

نصل لأشهر نتيجة لحجة راسل، والتي يستعملها الملحدون بسبب عجزهم عن الإتيان بدليل نفي موضوعي، في إزاحة عبء الإثبات على المؤمنين. ومن الناحية الأخرى، يستعملها المؤمنون بسبب عجزهم عن الإتيان بدليل إثبات موضوعي، في إزاحة عبء الإثبات على الملحدين. لنبدأ أولًا بتحليل مفهوم «الادعاء» معرفيًا، من خلال بعض المرادفات الأكثر وضوحًا:

الفرضية الموجبة

كما قلنا سابقًا، ولو استبدلت «إبريق مصنوع من الخزف الصيني» بـ«لب» كوكب بلوتو، فستجد أي الفرضتين الأكثر قابلية للتصديق، «لا يوجد لب لكوكب بلوتو» أم «يوجد لب لكوكب بلوتو»؟.

من المؤكد أن الأكثر قابلية للتصديق هي «يوجد لب لكوكب بلوتو» بدون حتى الحاجة لدليل تجريبي؛ لأن معلوماتنا الفلكية والجيولوجية في شبكتنا المعرفية المسبقة ستقول ذلك. ولو استبدلتها بـ«مخ زميلك في العمل» ، فستجد أي الفرضتين الأكثر قابلية للتصديق؟، «لا يوجد مخ لدى زميلك في العمل» أم «يوجد مخ لدى زميلك في العمل»؟.

من المؤكد أن الأكثر قابلية للتصديق هي «يوجد مخ لدى زميلك في العمل» بدون حتى الحاجة لدليل تجريبي؛ لأن معلوماتنا البيولوجية والإنسانية في شبكتنا المعرفية المسبقة ستقول ذلك.

في الحالتين، على عكس إبريق راسل، نجد أن الفرضية الموجبة – التي تثبت وجود شيء – أكثر قابلية للتصديق من الفرضية السالبة. بل سنجد أيضًا أن صاحب الفرضية السالبة هو المطالب بتقديم دليل. إذًا فالمشكلة ليست في الفرضية الموجبة، ولكن في كون الفرضية ذات احتمال حدوث أقل، واحتمال حدوث تلك الفرضية أقل؛ لأنها تخالف الشبكة المعرفية المسبقة التي تكون رؤيتنا للعالم.

لذا يمكن القول إن الشبكة المعرفية الحالية تعمل كدليل نفي ضد الفرضيات التي تخالفها، وكدليل إثبات للفرضيات التي توافقها.

الفرضية الأحدث زمنيًا أو الفرضية المخالفة للمعتاد أو الفرضية ذات الاحتمالية الأقل

الثلاثة مترادفات السابقة كلها تشير لبعضها البعض، فالفرضية الأحدث زمنيًا تخالف المعتاد في مجتمع ما؛ أي أنها تخالف الشبكة المعرفية المشتركة في مجتمع ما. والفرضية ذات الاحتمال الأقل، تخالف الشبكة المعرفية المشتركة في مجتمع ما.

هنا ستجد أن في مجتمع المؤمنين يرى أن المعتاد هو وجود الإله، وبالتالي فالفرضية الأحدث زمنيًا، والمخالفة للمعتادة، وذات الاحتمالية الأقل بالنسبة لهم هي نفي وجوده، وبالتالي فنفي الوجود هو ما يحتاج لدليل بالنسبة لهم.

وعلى العكس، ستجد أن المعتاد في مجتمع الملحدين هو نفي وجود الإله، وبالتالي فالفرضية الأحدث زمنيًا، والمخالفة للمعتادة، وذات الاحتمالية الأقل بالنسبة لهم هي إثبات وجوده، وبالتالي فإثبات الوجود هو ما يحتاج لدليل بالنسبة لهم.

فالمعتاد يتحدد وفق الشبكة المعرفية التي تكون رؤية شخص ما للعالم، وبالتالي يتغير من شخص لآخر. فإذا كان عبء الإثبات على صاحب الادعاء، فكل فريق يرى أن صاحب الادعاء هو الآخر، وكلاهما محق وفق شبكته المعرفية. لذا نجد أيضًا أن «المعتاد» يعمل كدليل نفي ضد الفرضيات التي تخالفه، وكدليل إثبات للفرضيات التي توافقه.

عبء الإثبات

يظهر لنا بوضوح أن التحليل المنطقي لأي فكرة أو اعتقاد، دائمًا ما يظهر لنا المسلمات الخفية في لا وعينا والتي نأخذها مسلمًا بها في رؤيتنا للعالم، فالطبيعي المعتاد لنا، لا يضيف إلى معلوماتنا أي جديد، ولهذا فنحن لا نفكر فيه قبل كل حكم معرفي، وعلى الأغلب لا نتحدث عنه أثناء النقاشات. ولهذا فنحن لا ننتبه للمسلمات (مثل الشبكة المعرفية) والتي تعمل كدليل نفي أو إثبات في الخفاء. ولنضرب مثالين من النظام القضائي:

– في حالات الاتهام نجد أن «البينة على من ادعى»؛ لأن المعتاد في المجتمع هو الوضع الحالي (قبل الاتهام) إلى أن يثبت العكس، ولهذا فالمعتاد هنا يعمل كدليل نفي في ذاته يقر به النظام القانوني والأفراد التابعين له في المجتمع. ولهذا عند عدم وجود دليل إثبات على الاتهام، تقول مسلمة قانونية “إنه يبقى الحال كما هو عليه” لأن دليل النفي هنا أقوى من دليل الإثبات.

– عند حدوث جريمة ما من وجهة نظر معرفية موضوعية، نجد أن كل إنسان نسبة ارتكابه للجريمة هي 50% ونسبة براءته هي 50%. لكن بسبب وجود مسلمة قانونية تقول “إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته”، فإن كل متهم بريء بنسبة 100% حتى تثبت إدانته، فتلك المسلمة هي دليل نفي لارتكاب شخص ما للجريمة وتحاول جهات التحقيق إيجاد ما يكفي من أدلة الإثبات، تلغي تأثير دليل النفي هذا بالإضافة إلى أدلة النفي الأخرى التي يقدمها المتهم. وأمام المحكمة، يقوم القاضي بموازنة أدلة الإثبات والنفي حتى يصل للحكم.

وهنا يطرح السؤال نفسه، من عليه عبء الإثبات؟ نجد أن الإجابة أعقد مما يمكن اختزاله في قاعدة واحدة.

فالحكم المعرفي، كما قلنا سابقًا، هو نقطة توازن بين أدلة الإثبات وأدلة النفي، ولكن وزن تلك الأدلة معرفيًا يختلف حسب القواعد المشتركة بين الأشخاص والتي تحددها مسلماتهم ورؤيتهم للعالم، ما بين أدلة نفي وإثبات أو أدلة قوية أو ضعيفة.

بمعنى أنه كما قلنا سابقًا، ستجد أن في مجتمع المؤمنين يرى أن المعتاد هو وجود الإله، وبالتالي فالفرضية الأحدث زمنيًا، والمخالفة للمعتادة، وذات الاحتمالية الأقل بالنسبة لهم هي نفي وجوده، وبالتالي فنفي الوجود هو ما يحتاج لدليل إثبات بالنسبة لهم ليوازن تأثير شبكتهم المعرفية التي تعمل كدليل نفي مسلم به.

وعلى العكس، ستجد أن المعتاد في مجتمع الملحدين هو نفي وجود الإله، وبالتالي فالفرضية الأحدث زمنيًا، والمخالفة للمعتادة، وذات الاحتمالية الأقل بالنسبة لهم هي إثبات وجوده، وبالتالي فإثبات الوجود هو ما يحتاج لدليل بالنسبة لهم ليوازن تأثير شبكتهم المعرفية التي تعمل كدليل نفي مسلم به.

لكن لو تجردنا من معظم المسلمات والشبكات المعرفية واكتفينا بما يجمع معظم البشر العاقلين من مبادئ المنطق فقط، سنجد أن عبء الإثبات على صاحب الإثبات ولكن أيضًا سنجد أن عبء النفي على صاحب النفي.

فالموقفان، قبل أي أدلة، متساويان معرفيًا، أي على نفس الوزن المعرفي. ولكن ما يغير الأوزان المعرفية لهذه المواقف هو رؤية كل شخص للعالم، والمسلمات التي تحكمها، وشبكته المعرفية الناتجة عنها.

ولهذا فالوسيلة الوحيدة للحكم بينهما، هي البحث عن مجموعة قواعد، على مستوى أعمق معرفيًا، تجمعهما في رؤية مشتركة للعالم، وتكون شبكة معرفية مشتركة، فنستطيع من خلالها أن نحكم على بقية المسلمات عند كل طرف وعلى نتائجها المعرفية، وهذا هو معنى «الموضوعية».

نلاحظ أن ما كان «موضوعيًا» داخل مجتمع ما، أصبح «ذاتيًا» بين المجتمعات. لهذا فقبل أن نجيب على السؤال، لابد وأن نسأل عن رؤية العالم لكل طرف، وهل توجد رؤية ما تجمعهم؟، هل توجد مجموعة قواعد مجردة تجمعهم؟.

– لو كانت الإجابة بنعم، فسيكون معنى «الادعاء» هنا هو الفرضية المخالفة للمعتاد، أو الفرضية ذات الاحتمالية الأقل في شبكتهم المعرفية المشتركة التي تحددها رؤيتهم المشتركة للعالم، وبالتالي فعبء الإثبات يكون على صاحبها؛ لأنها ستحتاج لدليل إثبات ليوازن تأثير الشبكة المعرفية التي تعمل كدليل نفي مسلم به.

– لو كانت الإجابة بلا، فلابد أن نبحث عن مجموعة قواعد مجردة توجد في رؤية كل منهما للعالم، لتكون رؤية مشتركة بينهما للعالم، يمكن من خلال مسلماتها أن نحكم معرفيًا على أدلة الإثبات والنفي. ولكن هذه الحالة صعبة الحدوث في معظم الأحيان. ولهذا فسنرى أن كل رؤية منهما هي «ذاتية» وأنه لا يوجد طريقة «موضوعية» لحسم الخلاف بينهما، فمن المفترض أن يكون عبء إثبات كل موقف على صاحبه، وبالتالي فلا يوجد عبء إثبات من الأساس.

الإلزام

يستتبع مفهوم الادعاء، مفهوم الإلزام أو الإقناع؛ بمعنى أن الكثير يتساءل لماذا لا يقتنع الطرف الآخر بما أنا مقتنع به رغم صحته؟، هنا يجب أن ننتبه للفارق بين أن تكون المعرفة مبررة وبين أن تكون ملزمة للآخرين أي مقنعة لهم، ففكرة الإلزام تخضع لنفس القواعد الي ناقشناها في مفهوم «الادعاء».

فلو حللنا مفهوم الإلزام، سنجد أنه نتيجة الادعاء الذي ثبتت صحته وبالتالي فهو يثبت خطأ قضية معرفية داخل نسق ما، فيستبدلها. وبالتالي يلزم كل من هم داخل هذا النسق بها؛ أي أنه ملزم فقط لمن تجمعهم نفس المسلمات المعرفية ولديهم رؤية مشتركة للعالم.


خاتمة

سيتبادر هنا إلى ذهن الكثير منكم السؤال التالي: هل معنى الكلام السابق أن لا أحد معرفيًا مخطئ؟ الإجابة لا، بالطبع الكثير مخطئ، لكنه مخطئ إذا ثبت خطأ فرضية ما داخل نسق وفق قواعد مسلماته المعرفية ورؤيته للعالم أو إذا لم تبرر مسلماته المعرفية. فمن يقتنع بالمنطق مثلًا، لابد وأن يقتنع بنتائجه أيًا كانت.

وكما قلنا سابقًا فإن الوسيلة الوحيدة للحكم، هي البحث عن مجموعة قواعد، على مستوى أعمق معرفيًا، تجمعنا في رؤية مشتركة للعالم، وتكون شبكة معرفية مشتركة، نستطيع من خلالها أن نحكم على بقية المسلمات عند كل طرف وعلى نتائجها المعرفية.

كما يحاول المؤمنون إثبات وجود الله كضرورة ميتافيزيقية ومنطقية بافتراض أن الطرف الآخر مقتنع بالمنطق ونتائجه، أو إن بعدم وجود دليل نفي فإن أي دليل إثبات ذاتي هو كافٍ، أو عن طريق أدلة عقلانية لإثبات وجود الإله.

وكما يحاول العلمويون أن يدحضوا التجارب النفسية الإيمانية الذاتية علميًا على أساس أن المؤمنين مقتنعون بنتائج العلم، أو أن يحاولوا تفسير آثار الله كما تظهر في الأديان بالقوانين العلمية وبالتالي ينفوا الحاجة إلى فرضيته، فينفوا وجوده، أو بنقد أدلة إثبات وجود الإله عقلانيًا.

ويستمر الجدال على تلك الأرضية المشتركة بين حجيتها كدليل إثبات أو نفي، قد يوافق الطرفان على مسلماته، فتتعدد المواقف بين الطرفين.

وفي الأخير فكلا الموقفين غير محسوم يقينًا، لأن كليهما به قفزات إيمانية لسد الفراغات العقلانية، غير اليقينية، بمبررات نفسية ذاتية والتي تفتح باب الشك أو لأن كليهما مبرر عقلانيًا بمسلمات رؤية معينة للعالم، لا ننتبه لها في تفكيرنا كما بينا سابقًا. وفي كل تلك الحالات، بدون رؤية مشتركة للعالم، فهي غير ملزمة للآخر لا بعبء الإثبات ولا بضرورة الاقتناع، ولكن تظل مبررة معرفيًا إلى أن يثبت خطؤها وفق قواعد المسلمات المعرفية ورؤية العالم التي شكلتها.