محتوى مترجم
المصدر
Philosophy Now
التاريخ
2017/02/01
الكاتب
Patrícia Fernandes

من أجل محاضرته التي ألقاها بجامعة أكسفورد تحت إشراف منظمة العفو الدولية، قدّم الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي ورقة بحثية ستصبح واحدة من أشهر نصوصه: «حقوق الإنسان والعقلانية والعاطفية»، جادل فيها لصالح الأفكار التالية:

1) لا نستطيع تبرير حقوق الإنسان؛

2) المنطق أداة لا تفيد في الترويج لحقوق الإنسان؛

3) يجب أن نركز طاقاتنا عوضًا عن ذلك على التعليم العاطفي.


عرَضِيَّة المنطق

لفهم ما قصده رورتي بهذا، علينا العودة لأول كتبه: الفلسفة ومرآة الطبيعة (1979). قدم فيه رورتي تحليلا للسياق الفلسفي للنصف الثاني من القرن العشرين. تبعًا له، منذ ديكارت ولوك وكانط في القرنين السابع والثامن عشر، تركزت الفلسفة في أسئلة عن المعرفة (كالعلاقة بين الإنسان والواقع)، وفي دراسة العقل (بصفته الكيان القادر على إقامة تلك العلاقة). من هذا المنظور، المعرفة هي مسألة إقامة علاقة تمثيلية بين الأفكار والواقع. كما يكتب رورتي: «المعرفة هي التمثيل الدقيق لما هو خارج العقل» (ص3). يقول رورتي إن هذا هو لُبُّ النموذج التمثيلي، وإن الفلسفة التحليلية هي وريث هذا النموذج.

مع ذلك، يستخدم رورتي تطويرات القرن العشرين للتقليد التحليلي (ساهم بها لودفيج فيتجشتاين، وويلفريد سيلرز، وويلارد كواين، ودونالد ديفيدسن، من بين آخرين) ليجادل بأن النموذج التمثيلي هو عرضي فحسب، وبالتالي غير إلزامي فلسفيًا.

تلعب اللغة دورًا هامًا هنا. بالنسبة لرورتي، ليست اللغة مجرد وسيط بين الذات والواقع. للغة، بالأحرى، دور تأسيسي في الفكر: تحدد طريقة تفكيرنا. توافر كلمات معينة وقواعد محددة، على سبيل المثال، يقرر كيفية تفكيرنا بخصوص الواقع. واستخدام اللغة مطلق الوجود. لا نستطيع النفاذ إلى الواقع بغيرها. يعني ذلك أننا لا نستطيع معرفة ما إذا كانت اللغة التي نستخدمها تمثل العالم بدقة. باستخدام تعبير هيلاري بوتنام، ليس بمقدورنا الخروج عن اللغة لننظر إلى العالم من «وجهة نظر العين الإلهية».

بهذا المعنى تكون لغتنا عرضية: نستخدم لغة معينة لأسباب تصادفية، وليس بالضرورة لأن هذه هي الطريقة التي يعمل العالم من خلالها. ففي النهاية، كما قال رورتي بعد عشر سنوات في كتاب العرضيّة والسخرية والتضامن، «لا يتكلم العالم. فقط نحن من يفعل» (ص6).

يعني هذا الموقف الفلسفي أن علينا التخلي عن مشروع الفلسفة كبحث عن الحقيقة. نحن عالقون في ظروفنا التاريخية ولغتنا العرضية، ولا نستطيع توقع الخروج عنها لنصل إلى الحقائق المطلقة أو الواقع في ذاته. في النهاية، لا نستطيع تقديم أيّ أساس مطلق لمعتقداتنا، ولا نستطيع إيجاد تبريرات مطلقة في مقدورها إقناع كل شخص عاقل بأننا على صواب. ما يعني التخلي عما سمّاه نيتشه «الراحة الميتافيزيقية». رغم ذلك، يريد رورتي إقناعنا بأننا نستطيع الفوز بشيء أفضل. فما هو؟

إذا تخلينا عن فكرة المعرفة كتمثيل، نستطيع التفكير في نموذج أكثر فائدة للمعرفة. في المجلد الأول من كتابه «بحوث فلسفية» (1991)، يقترح رورتي أنه ينبغي علينا استخدام نموذج لا-تمثيلي بدلا عن النموذج التمثيلي. يجادل بأن هذا النموذج الجديد سيجدد شعورنا بالمجتمع وسيكون أكثر فائدة من أجل تحقيق أهدافنا الاجتماعية. بهذا المعنى، يرى رورتي أن الفلسفة تخدم أغراضًا سياسية: إذا كانت قيمنا السياسية، الموروثة من عصر التنوير، تهدف لخلق مجتمع أكثر ديمقراطية وللترويج التضامن الإنساني، إذن فالنموذج اللا- تمثيلي أو البراجماتي أكثر نفعًا لتحقيق هذا من النموذج التمثيلي.


نهج رورتي البراجماتي للترويج لحقوق الإنسان

هذه أهم أفكار رورتي. لكن كيف نستطيع تطبيقها على مسألة حقوق الإنسان؟ يقوم رورتي بهذا في «حقوق الإنسان والعقلانية والعاطفية» (منشور في المجلد الثالث من بحوث فلسفية، 1998). هدفه الأساسي هو تبيين أن النموذج البراجماتي سيكون أكثر فاعلية في الترويج لـ «ثقافة حقوق الإنسان» (مصطلح إدواردو رابوسي) من المشاريع التي تحاول منح أساس لحقوق الإنسان داخل الحقيقة الموضوعية. هيّا نرى كيف يفعل هذا.

بداية، بالنسبة لرورتي، حاول الفلاسفة التأسيسيون كأفلاطون وتوما الأكويني وكانط، إيجاد مقدمات منطقية عن أن البشر تُعرف عنهم القدرة على اختيار الصواب باستقلالية عن بديهياتنا الأخلاقية والقدرة على تبرير هذه البديهيات الأخلاقية. لكن كما رأينا، من منظور رورتي لا نستطيع إيجاد تلك الأساسات؛ إنما، يحدد مجتمعنا الأخلاقي ما هو جيد أخلاقيًا، ولا نستطيع تجاوز لغتنا وظروفنا التاريخية لإيجاد الحقيقة الأخلاقية في ذاتها. بذلك المعنى:

«أقصى ما بمقدور الفلسفة أن ترجو فعله، هو تلخيص بديهياتنا المتأثرة ثقافيًا عن التصرفات الصحيحة في المواقف المختلفة. يُتمَم التلخيص بصياغة تعميمٍ نستطيع استنتاج هذه البديهيات منه … لا يُفترض بذلك التعميم أن يكون أساسًا لبديهياتنا، لكن أن يلخصها.» (بحوث فلسفية، المجلد الثالث، ص171)

ثانيًا، يجب أن نضع في اعتبارنا أن رورتي براجماتي – ليس همّه الأساسي إثبات صحة المقولات الأخلاقية، لكن إيجاد ما ينفع، وبالتالي أفضل طريقة لتحقيق الرؤية اليوتوبية التي رسمها عصر التنوير:

«إذا كانت أنشطة الساعين لبلوغ هذا النوع [التأسيسي] من المعرفة لا تبدو قادرة على تحقيق هذه اليوتوبيا، فذاك سبب للاعتقاد بأنه لا وجود لتلك المعرفة. إذا بدا لنا أن أغلب التغييرات في بديهياتنا الأخلاقية تحدث بفعل التلاعب بمشاعرنا لا بزيادة معرفتنا، فذاك سبب للاعتقاد بأنه لا وجود لمعرفة من النوع الذي أمل الفلاسفة كأفلاطون والأكويني وكانط الحصول عليه.» (ص172)

لمناشدات المنطق والمعرفة تأثير ضئيل في فكر رورتي. يجب التركيز على ما ينفع، كما يقول، واستنتاجه هو «يبدو أن ظهور ثقافة حقوق الإنسان غير مدين في شيء لزيادة المعرفة الأخلاقية، ومدين في كل شيء لسماع القصص الحزينة والعاطفية» (ص172). بما أنه على الأرجح لا توجد معرفة من النوع الذي تخيله أفلاطون، فلا جدوى من الإشارة إلى العقلانية كالشيء المشترك بيننا جميعًا. يستخدم رورتي مثال المعذِّبين الصرب الذين لم يميزوا إنسانية ضحاياهم المسلمين، أو النازيين بالنسبة لليهود:

«لا تفيد الإشارة لهؤلاء الذين وصفتهم، بأن المسلمين والنساء يجيدون الحساب أو الهندسة أو فلسفة القانون. كان الشباب النازيون القساة الحانقون مدركين تمامًا أن كثيرًا من اليهود أذكياء ومتعلمون، لكن هذا لم يُضف سوى للمتعة التي نالوها من ضرب أولئك اليهود. ولا يفيد كثيرًا جعل أمثال هؤلاء يقرأون كانط والاتفاق على أن المرء ينبغي ألّا يعامل الكائنات العاقلة كمجرد وسائل. لأن كل شيء يرتد إلى من يُعدّ زميلا في الإنسانية، ككائن عاقل بالمعنى الوحيد ذي الصلة – المعنى الذي تكون فيه الكينونة العاقلة مرادفة للعضوية في مجتمعنا الأخلاقي.» (ص177)

ثالثًا، بالطبع يجب أن نظل ممتنين للغاية لأفلاطون وكانط، «لا لأنهما اكتشفا حقائق، لكن لأنهما بشّرا بيوتوبيات عالمية» (ص173)؛ لكن إذا وضعنا التأسيسية خلفنا، لاستطعنا «تركيز طاقاتنا على معالجة العواطف، على التعليم العاطفي» ولكانت هذه أفضل طريقة للترويج لتلك اليوتوبيات العالمية:

«يمنح ذلك النوعُ من التعليم البشرَ من مختلف الأنماط، معرفة جيدة ببعضهم البعض بما يكفي ليقل ميلهم للتفكير في هؤلاء المختلفين عنهم كمجرد أشباه بشر. هدف هذا النوع من معالجة المشاعر هو توسيع إحالة المصطلحات ’نوعنا من البشر‘ و ’الناس الذين يشبهوننا‘.» (ص176)

يتوافق هذا مع ما أطلقت عليه عالمة الأخلاق آنيت باير «تقدم للعواطف a progress of sentiments» – حيث التقدم في اتجاه تزايد رؤية التشابهات بين أنفسنا والآخرين بدلاً عن الاختلافات.

أخيرًا، كمناهض للتأسيسية، لا يعتبر رورتي ’الأشخاص السيئين‘ مجرّدين من المعرفة الأخلاقية. بل يعتقد أن ثقافةَ حقوقِ إنسانٍ فاعلةٌ بشكل جيد تَنتج عن شرطين؛ الأمان والتعاطف:

«بـ’الأمان‘ أعني ظروفًا حياتية خالية من المخاطر بما فيه الكفاية لجعل اختلافات المرء عن الآخرين غير جوهرية بالنسبة لاحترامه الذاتي، لشعوره بقيمته … بـ’التعاطف‘ أعني تلك الاستجابات العاطفية التي زادت لدى الأثينيين بعد مشاهدة مسرحيةالفرس لأسخيلوس عما كانت لديهم قبلها ولدى البيض في الولايات المتحدة بعد قراءة كوخ العم توم عما كان لديهم قبلها، ولنا بعد مشاهدة برامج التليفزيون عن الإبادة الجماعية في البوسنة.» (ص180)


استلهام رورتي للتعامل مع أزماتنا الراهنة

تفسير رورتي في محله على الأخص حاليًا. الموجة الجديدة من الحركات الكارهة للأجانب في أوروبا، وعداء الهجرة في كثير من الدول، وكل الجدل المحيط بمنح الدعم للاجئين اليائسين – لا شيء من هذا مستقل عن الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية. لم يصبح الناس فجأة أشد جهلا بخصوص حقوق الإنسان، ببساطة ازداد شعورهم بعدم الأمان، وهذه عقبة أمام المزيد من التعاطف. كما يقول رورتي: «كلما صعبت الأمور، ازدادت دواعي خوفك، وأصبح وضعك أكثر خطورة، وقل احتمالك لمنح الوقت أو الجهد للتفكير فيما قد تكون عليه الأمور بالنسبة لأناس لا تتطابق هويتك معهم بشكل مباشر» (ص180).

لهذا تفسير رورتي مثير للإعجاب. فمن ناحية، تحررنا فكرة العرضية من بحثنا اللانهائي عن الحقيقة واليقين والطبيعة. ومن الناحية الأخرى، تحررنا من عبء التبرير المنطقي لعواطفنا الأخلاقية التي حملناها طوال المائتي عام الماضية. أخيرًا، منظور رورتي رائع للتفكير في التحديات التي تواجهنا في الوقت الراهن. «للتعليم العاطفي تأثير فقط على من بمقدورهم الاسترخاء لوقت طويل بما يكفي للاستماع» كما يكتب رورتي (ص180) – إذن فلنسترخِ ولنستمع لمعاناة الآخرين. بهذه الطريقة نستطيع بناء وتحسين ثقافة حقوق الإنسان.