في الأسبوع الأخير من مايو 2013 أعلنت الحكومة التركية عن خطة لإعادة تخطيط ميدان تقسيم الشهير وسط إسطنبول، تبدأ بإزالة متنزه «غازي بارك» وهو أحد المتنزهات العامة الكبيرة الموجودة في الشطر الأوروبي من المدينة، ليتم استبداله بمبنى يضم مركزًا تجاريًا، ومجموعة من الشقق الفاخرة – وتم الحديث عن إعادة بناء ثكنة عسكرية عثمانية قديمة.

اندلعت الاحتجاجات حينئذٍ مطالبةً حكومة أردوغان بالتراجع عن القرار الذي يخدم في جميع الأحوال مجموعة من الأثرياء في مقابل حق الآلاف من مواطني إسطنبول في امتلاك مساحة عامة خضراء مشتركة داخل مدينتهم. في الوقت الذي هاجم فيه مؤيدو أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم المحتجين بوصفهم سكارى، عراة، متطرفين، ومنحرفين جنسيًا، و وصفهم أردوغان نفسه بأنهم «متطرفون ومستهترون».

يتأكد يومًا بعد يوم أن هذا هو مبدأ الحكومة التركية في التعامل مع معارضيها، وهو مبدأ أساسي لأنظمة سلطوية تَدّعي احترام الديمقراطية. يضاف إلى ذلك بالطبع قمع الآلة الأمنية متمثلة في الشرطة وأجهزتها المختلفة للتظاهرات و ملاحقتها المعارضين والصحفيين و غلق الصحف. في دولة تتكفل بحبس ثلث عدد الصحفيين المعتقلين على مستوى العالم.

والآن نجح السيد أردوغان في تمرير تعديلات دستورية ستحول نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، تعديلات ستمنحه سيطرة استثنائية على السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. مع استعراضه السينمائي لعرش العثمانيين بأحد لقاءاته التليفزيونية الأخيرة، إلى جانب استعراض مؤيديه وأعضاء حزبه طموحاتهم علانية في استعادة الخلافة واعتبارهم التعديلات الأخيرة الخطوة الأولى في سبيل تحقيق ذلك.

سياسات أردوغان نيوليبرالية منحازة للأغنياء بلا شك تصب أكثر فأكثر بمرور الأعوام في صالح نخبة ضئيلة ثرية، والرجل لا يعارض هذا ولا ينفيه، نعم لقد أجرى العديد والعديد من الإصلاحات الاقتصادية المشهودة خلال فترة حكم العدالة والتنمية، وقفزت تركيا في عهده إلى مستويات غير مسبوقة من التصنيع وحركة التجارة وتبلور طبقة متوسطة مستقرة نسبيًا تحظى بمعدلات تعليم ووعي اجتماعي مرتفع، لكن هل يعني ذلك حق التأييد المطلق لما يتخذه من قرارات؟ لقد عارض كل مدافع عن الديمقراطية – سواء من الليبراليين أو اليساريين – في أمريكا صعود ترامب إلى السلطة، لكن لنفرض عبثًا أن ترامب نجح في تحقيق وعوده الانتخابية – وهي احتمالية ضئيلة جدًا – بجعل «أمريكا عظيمة مرة أخرى» وتحقيق طفرة اقتصادية خلال الفترة التي سيحكم خلالها البلاد، بل وتحقيق نسب أمان وظيفي واجتماعي مرتفعة للأمريكيين – حتى ولو كانوا فقط من البِيِض– فهل يعني هذا تراجع مؤيدي الديمقراطية عن معارضة رجل عنصري شعبوي يقسم المجتمع إلى فئات بعضها – في نظره – يستحق الطرد – المسلمين والمهاجرين – وبعضها يستحق الحياة كمواطنين من الدرجة الثانية – الأمريكيين من أصول أفريقية – في عودة جريئة بالزمن خمسين عامًا إلى الوراء.

قد تُسوّل لأحدهم نفسه أو خيالات البارانويا المريضة لديه إحكام خطة للانقضاض على المبدأ الذي صعد به إلى الحكم، لا يصح معاملة الديمقراطية بازدواجية تأخذها وقتما تشاء وتسحقها وقتما تشاء، خاصةً وأن التجربة لم تثبت – على الأقل – في حدود الشكل الحالي للتنظيم السياسي والاجتماعي على مستوى العالم حتى الآن ما هو أفضل من الديمقراطية الليبرالية الغربية – على المستوى المحلي الخاص بها على الأقل بعيدًا عن سياساتها الخارجية.

بالطبع هناك القديم والجديد الذي يطرحه اليسار والحركات الاجتماعية المعاصرة المناهضة للرأسمالية والمجموعات النيوكينزية، لكن بالحديث عن اللحظة الراهنة، يظل المبدأ الإنساني الجوهري في الديمقراطية أو الجمهورية (حكم الشعب) مهددًا باستمرار من قبل أناس كأردوغان وحركات اليمين المتطرف في الغرب والتي تستخدمه بالمناسبة كفزاعة لتدعيم رؤيتها، الرجل يحارب حكم الشعب بحجة الأغلبية، والمدافعون عنه يرفعون طوال الوقت راية «الديمقراطية تقرر ذلك» استنادا إلى نتائج استفتاءات وانتخابات تكاد تكون مقسومة إلى شطرين طوال الوقت – معبرة عن تباين شعبي حاد في الآراء وليس عن أغلبية ساحقة.

لقد حان الوقت لإدراك مدى ازدواجية هؤلاء في التعامل مع الحداثة وما أدخلته من تغييرات في العملية السياسية، هؤلاء أعداء لهذا الشكل من التنظيم للعملية السياسية – ليس على أساس أكثر تقدمية أو مساواة كما تفعل بعض أشكال اليسار التحرري – لكن على أساس رجعي يعبر عن نفسه في أحلام طوباوية بالعودة إلى إمبراطورية قديمة بائدة، إلى حكم الفرد الواحد، الذكر الواحد، الأب الذي يحتوي الشعب تحت جناحي رعايته، والأسرة الخادمة المطيعة لعمليات التدجين الدعائي القومي المعادي للأقليات والقوميات الأخرى التي تشكل المجتمع التركي، يريد أردوغان تقسيم المجتمع إلى فئات بعضها – من وجهة نظره – صالح والآخر طالح كي تتم معاملتهم على هذا الأساس؛ وليس على أساس احترام الدستور والقانون الحيادي تجاه جميع الاعتقادات الشخصية التي تخص فقط مالكيها، الخيار بين أردوغان والديمقراطية، أو بين ترامب والديمقراطية، ليس خيارًا على أساس من يا ترى حقق أعلى معدلات للنمو؟ لكن على أساس احترام مبادئ ناضل ويناضل لأجلها الملايين في الغرب فحققوا بعضها، ويناضل لأجلها الملايين في الشرق الأوسط وأقصى الشرق ولا يزالون في سعي حثيث إليها.

دعونا نفرض عبثًا أن 51% أو حتى 99% من المواطنين الألمان قد وافقوا على عودة الحزب النازي كحزب شرعي يمارس السياسة داخل النظام البرلماني الألماني فهل ينفي هذا ضرورة المعارضة وبقوة؟

لنضع أولًا الأرضية السياسية الصلبة التي نقف عليها كي نعلن انحيازاتنا، نحن هنا لا نتحدث عن إجراء انقلابات مسلحة أو عسكرية «Coup d ’ état» – كما يقول الفرنسيون – للانقلاب على الصناديق لأننا ببساطة نرفض مثل تلك الأعمال كما رفضناها ورفضها بالفعل معارضو أردوغان في الداخل في يوليو الماضي؛ بوقوفهم إلى جانب الديمقراطية في مواجهة انقلاب عسكري، لكننا نقف ضد كل محاولة لجعل الديمقراطية مجرد عملية اقتراع مباشر حر نزيهة منقولة مباشرة على التليفزيون وفقط، مع إقصاء مبادئها الأصيلة، نحن لا نريد مجتمعًا أعور يمرر فيه حزب ديكتاتوريته من خلال الصناديق، مدعيًا أن البروباجندا الإعلامية المضللة وخرق القوانين و اعتقال الآلاف دون تهم أو أسباب واضحة ومعلنة، وتقسيمهم إلى مواطنين جيدين وآخرين سيئين على أساس ميولهم أو اعتقاداتهم الشخصية هي مكونات لمجتمع ديمقراطي سليم، ترامب صعد بإجراء ديمقراطي، وكذلك هتلر قبل 80 عامًا، وللسخرية فقد انقلب في بدايات حكمه على الديمقراطية باستخدام وسائل ديمقراطية، نابليون الثالث الذي فاز بانتخابات الجمهورية الفرنسية الثانية بنسبة ساحقة من الأصوات – خمسة ملايين ونصف المليون من أصل سبعة ملايين ونصف المليون صوت – ثم لم يلبث أن انقلب على الجمهورية لتمكين نفسه من الحكم مدى الحياة مانحًا لنفسه سلطات إمبراطور.

انقلب الإخوان المسلمون في مصر على ثورة بأكملها من خلال الديمقراطية مستبدين خلال تلك الفترة بالحكم، نعم كانت حرية التعبير مكفولة – ليس لأنهم كانوا مؤيدين لها لكن لعجزهم عن قمعها – وتمت معاملة المعارضة – التي لم تكن نزيهة في جزء كبير منها – على أنها مجرد فئة ضالة خارجة عما يعتقده هؤلاء في معاملة السياسة كمسابقة على الغفران يفوز فيها صاحب البسملات والتهليلات الكثيرة، والزبيبة الكبيرة، ورحلات الحج والعمرة؛ وليس من يمتلك برنامجًا سياسيًا محايدًا منطقيًا، ونزيهًا يحاسبه علي أساسه الشعب، ولا أدري أو لا أجد تفسيرًا حتى الآن لموقف إسلامِي – دعنا لا نقول مُسلمي – الشرق الأوسط الذين يؤيدون أردوغان، والذين يستكثرون على مؤيدي ترامب الابتهاج بتوليه منصب الرئاسة الأمريكية، أم أن ترامب عبثًا يحاول تفتيت الديمقراطية التي لا سمح الله يخشى الإسلاميون من ضياعها!

حديثي هنا ليس على أساس هَويَاتي يضع الإسلاميين تلقائيا في خانة الرجعية المعادية للديمقراطية – تمامًا كما تفعل أنظمة عربية مستبدة ورجعية ربما هي أكثر معاداة للديمقراطية – لكن حديثي يقوم على أساس أمر واقع؛ تجربة حقيقية عاصرنا وتابعنا تداعياتها لسنوات بل لعقود، ازدواجية مقيتة تعارض سلطوية عبد الفتاح السيسي وديكتاتوريته العسكرية ولا تقدر أن تتعرض لسلطوية أردوغان -التي هي بالضرورة أخف وطأة- بكلمة، ولا تكتفي بالصمت بل ترحب وتفرش الورود في استقبال نتائج استفتاء سيحول الديمقراطية الوحيدة الباقية في الشرق الأوسط – إذا استنثينا ديمقراطية تونس الناشئة وديمقراطية الكيان الصهيوني المحتل – إلى مجرد دُمية في يد من يسمونه «خليفة»، ولا أجد أي أفضلية لأردوغان على ترامب فيما يخص حججه على خصومه السياسين، كلاهما شخصان شوفينيان يرغبان في العودة ببلديهما مائة عام إلى الوراء، يريدان معاملة المواطنين على أساس: من الأكثر إسلامًا أو ذكورًة أو تركيًة ومن الأكثر مسيحيًة أوذكورًة أو بياضًا.

مهمتنا هي مقاومة المنحدر «الترامبي» و«الأردوغاني» الذي يتهدد أوروبا والعالم، لأن أوروبا ميركل بالتأكيد هي أفضل – بالنسبة للديمقراطية وبالنسبة لي كمواطن شرق أوسطي – من أوروبا «البديل من أجل ألمانيا».

أعود للتذكير بأن الديمقراطية ليست عبارة عن صندوق نذور تفتحه لتربح السلطة مدى الحياة، لكنها مجموعة متكاملة من القواعد والمبادئ في مقدمتها على أقل تقدير: الحرية وحقوق الإنسان الأساسية وهي أشياء غائبة عن نظام مهووس بحظر شبكات التواصل الاجتماعي، و مطاردة النشطاء المعارضين عليها، نظام يمارس التعذيب المنهجي داخل سجونه.

حقيقة أن ستالين قد حول الاتحاد السوفياتي من دولة زراعية متخلفة إلى دولة صناعية عظمى لا تنفي كونه ستالين ذلك الحاكم الفرد المستبد، المقارنة قد لا تكون في محلها، بالطبع لم يرتكب أردوغان أو غيره واحدا على ألف في المائة مما فعله ستالين، لكن علينا الاحتفاظ بعقولنا حتى النهاية، علينا التنبيه -نظريًا وعلى الأرض- مرارًا وتكرارًا لأن الديمقراطية ليست مجرد صناديق، لأن ذلك يُسهّل عند بعضهم الإدّعاء بأن ما يفعله السيىسي وطغمته الحاكمة في مصر أو ما تفعله نصف الأنظمة العربية – النصف الآخر يحكم بالحق الإلهي دون حاجة لتبرير صوري – هو الديمقراطية، وهي إحدى التداعيات والتناقضات الجوهرية المأساوية في علاقة الغرب بتلك الأنظمة التي تبرر شرعيتها في المحافل الدولية لمجرد أن الناس يذهبون إلى الصناديق مرة كل 4 أعوام لاختيار مرشح واحد، الانتخابات والاستفتاءات في تركيا نزيهة بالطبع، ولم يظهر حتى الآن ما يشوبها، ونحن نكتب كي ندافع عن ديمقراطية تركية شاملة ونزيهة، ولمعارضة حاكم سلطوي يثابر كي يعود بها مائة عام إلى الوراء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.