دأب الكثيرون في الآونة الأخيرة على ترديد شعار «ضرورة إصلاح الخطاب الديني» سعيا منهم لمواجهة «الإرهاب». ولعل الأخبار التي ترددت مؤخرا حول نية الوزارات المصرية إلغاء تدريس مادة التربية الدينية لتستبدل بها مادة أخرى عن الأخلاق والمواطنة، ثم تأكيد «محمد مختار جمعة» وزير الأوقاف عدم صحة إلغاء مادة التربية الدينية من جهة، مع تأكيد إدخال مادة الأخلاق والمواطنة من جهة أخرى يُعد حلقة أخرى في سلسلة اللغط حول «إصلاح الخطاب الديني»، وبغض النظر عن صحة الأخبار المتداولة من عدمها، فإن موضوع تدريس الدين في المدارس يعد موضوعا حساسا يكشف لنا الكثير بنظرة فاحصة متأملة.


اللائكية الفرنسية والتعليم الديني

في العام 1905م أقرّت الحكومة الفرنسية للجمهورية الثالثة قانونا للفصل الحاد بين الدولة والكنيسة، أقر مبدأ عُرف فيما بعد «باللائكية»؛ فصل الدولة عن الدين. مثّل مبدأ اللائكية المُعبر عنه في قانون 1905م المبدأ الأساسي للـهوية الفرنسية. ولفهم هذا المبدأ، ولفهم علاقته بالتعليم الديني، يجبُ الوقوف على مرحلتيْ تشكّله: مرحلة ما بعد الثورة الفرنسية عام 1789م، ومرحلة الجمهورية الثالثة (من 1870م- حتى 1940م).

بانتشار أفكار التنوير التي ادعت من جملة ما ادعت: حرية الفرد التامة، وإمكانية قيام أخلاق بمعزل عن الدين، أصبحت الثورة أمرا ممكنا في فرنسا.

في المرحلة الأولى، والتي تبدأ مع انطلاقة الثورة الفرنسية، شهدت فرنسا معركةً ضروسا بين الجمهوريين أنصار الثورة، وبين الــ«يمين الرجعي» وعلى رأسه الكنيسة الكاثوليكية. فقد كانت الكنيسة الكاثوليكية في القرن الثامن عشر كنيسة تتبع مبادئ «مجمع ترينت» الذي رسّخ عدة مبادئ على أنها ثوابت مسيحية لا تقبل النقاش؛ أهمها: رفض هذا العالم باعتباره مكانا للمعاناة، الفصل الحاد بين الديني المقدس والدنيوي المدنس، التركيز على عقيدة الخطيئة الأولى وأن الجحيم هو ما يجب على الإنسان صب اهتمامه عليه تجنبا للهلاك، وأن الأخلاق أمر شديد الحساسية ومرتبط أشد الارتباط بالدين.

وجرَّاء تحالف الكنيسة مع الدولة في ذلك الوقت، أصبحت هذه المبادئ، مبادئ الكاثوليكية الإصلاحية إذا جاز التعبير، هي المبادئ العامة للكنيسة الرسمية. ولأن معظم المجتمع الفرنسي لم يكن على هذه المبادئ، فقد اعتُمدت سياسات تعليمية صارمة من قبل الكنيسة كي تُرسخ مبادئها الجديدة.

وبانتشار أفكار التنوير التي ادعت من جملة ما ادعت: حرية الفرد التامة، وإمكانية قيام أخلاق بمعزل عن الدين اعتمادا على هذه الحرية من جهة، وظهور علامات عدة على سخط جموع العامة من الأساليب المتبعة من الكنيسة ومن الدولة على حدٍ سواء من جهة أخرى، أصبحت الثورة أمرا ممكنا في فرنسا.

ولما كانت الكنيسة الكاثوليكية حليفا للنظام القديم، فقد لاحقها الجمهوريون أيما ملاحقة. ففي نوفمبر 1789م، وبعد ثلاثة أشهر فقط من اقتحام سجن «الباستيل»، أعلن النظام الجديد للثورة مصادرة ممتلكات الكنيسة. ثم في فبراير من نفس العام أُعلنت كل الجماعات الدينية المنظمة على أنها خارجة عن القانون. وفي يوليو 1790 أصبح السلك الكنسي مدنيا تحت حكم القانون؛ مما أوجب على رجال الدين أن يُقسموا الولاء للدولة.

وبما أن هذا القسم مثَّل تعديا صارخا على معتقدات الكنيسة سابقة الذكر، رفض عدد كبير من رجال الدين القَسَم، الأمر الذي استوجب قانونا جديدا في نوفمبر من نفس العام يُعاقَب بموجبه كل من يرفض القسم. واستمر تعنت النظام الجديد حول القسم حتى أنه أصدر تعديلا على صيغة القسم توجب على رجل الدين لا فقط إعلان الولاء للدولة، ولكن لكل قيمها كذلك؛ وحين رفض رجال الدين القرار انطلق موسم «صيد رجال الدين» في فرنسا منذ 1792م وحتى 1794م، وهي الفترة التي شهدت مقتل الآلاف من رجال الدين، وتحطم واجهات ومبان كنسية كثيرة.

وبالفعل في عام 1795م اتُفق على فصلٍ تام بين الكنيسة والدولة، واستمر الحال على ما هو عليه حتى عام 1879 وبدء الجمهورية الثالثة؛ وهي المرحلة الثانية من اللائكية. فبعد اتفاق الفصل بين الكنيسة والدولة، بدأت الكنيسة تؤيد الدولة في كل شيء مقابل إعلان المسيحية دينَ الجمهورية الرسمي.

وعلى هذا الأساس بدأت الكنيسة تُمارس نشاطها مجددا داخل المدارس تحديدا، لكن هذه المرة لم يكن «الشعب الفرنسي» هو الـ«عامة» التي اعتادت الكنيسة تعليمها؛ فأفكار التنوير وصعود المد القومي الفرنسي بشراسة أجج شعورا لدى الجميع أن هذه الممارسات الكنسية عفى عليها الزمن، وأن الوقت قد حان لإخراج الكنيسة من المدارس مرةً أخرى وإلى الأبد. وبالفعل صدر قانون 1905م. لحصر الكنيسة في مجالها الخاص، وإخراج المظاهر الدينية كافةً من الحياة العامة لفرنسا؛ فيما أصبح يُعرف باللائكية.


اللائكية، والعلمانية، والسيادة

صدر عن هذه النقطة التاريخية؛ اللائكية، اعتقاد سائد حول مفهوم آخر وهو «العلمانية»؛ إذ أصبح يُنظر للعلمانية وسلطتها الممثلة في الدولة على أنها مجرد الفصل الحاد بين ما هو للدين، وما هو للدولة. وينتج عن هذا التصور تصورٌ آخر يفيد بأن الدين طالما لزم المجال العام فلا مشكلة معه.

ولكن يغفل هذا المنطق لُب العلمانية الذي وجد طريقا في اللائكية. إن العلمانية الحديثة لا تسعى لحصر الدين في مجال معين، وإنما هناك ما هو أبعد: فهي تحاول إعادة ترسيم الحدود بين الديني والسياسي لصالح السياسي. لتوضيح هذه النقطة يُمكن اللجوء لتصور السيادة العلمانية الحديثة عن نفسها.

ترى السيادة العلمانية الحديثة أنها تسبق كل تصور عن الوجود البشري؛ فهي تتصور عالما اجتماعيا تضطرب فيه الحدود بين الديني، والسياسي، والأخلاقي، والاقتصادي، وما إلى ذلك، ثم هي تأتي في لحظة معينة لتعلن عن نفسها بوصفها سلطة تستطيع رسم الحدود بين هذه الفئات المضطربة لصالح السياسي؛ فالوجود السياسي وفقا لمنطق الدولة الحديثة يتحدد وفقا لسلطة تستطيع تمييز العدو من الصديق، ومتى برزت سلطة تستطيع التمييز بينهما، يُترك لها حرية الاختيار في رسم سائر حدود الحياة البشرية.

وهنا تظهر سلطة الدولة العلمانية؛ إذ هي تسعى دوما لطرح أسئلة مُلحة على الديني تجعله دوما في حالة تشكك من مواقفه كي ينصهر في الأخير في بوتقتها. إن العلمانية لا تسعى لتحديد دور الدين، وإنما لتسييس الدين.

ففي حالة فرنسا، برزت مع الثورة الفرنسية سلطة سيادية ميَّزت إلى حد ما بين عدو الأمة وصديقها؛ لا عن طريق ممارستها وحسب، وإنما عن طريق استجابتها للأفكار العلمانية التي انتشرت في فرنسا وقتها، وبمرور الوقت ترسخت هذه الأفكار، وبرزت الدولة على أنها الكيان السيادي الوحيد؛ مما جعل قضية الدين أمرا محلولا بالنسبة لها عن طريق وضعه دوما في حالة مُساءَلة.

فقد انتشر وقتها إيمان بحرية الأفراد التامة، وبأن الأخلاق ممكنة الانفصال عن الدين بشكل عام، وعن الكاثوليكية الفرنسية بشكل خاص. وبدأت المحافل تُعقد قبل إصدار قانون 1905م، حول إمكانية وجود تعليم «علماني»، وحول اللاعقلانية المُصاحبة للدين، وحول الحرية والمساواة كقيم «عالمية» يجب اتباعها بالتخلص من الدين.

هذا الأفكار، مدعومةً بمنطق السلطة العلمانية الممثلة في الدولة، تمكنت من جر الكنيسة للصراع؛ فبدأت الكنيسة في محاولات الدفاع عن نفسها استنادا لافتراضات العلمانية ذاتها، مما أنهى الأمر بفشلها وطردها من الحياة الفرنسية العامة، ومن المدارس تحديدا.


مصر وسلطة العلمانية

برزت مع الثورة الفرنسية سلطة سيادية ميَّزت بين عدو الأمة وصديقها؛ لا عن طريق ممارستها وحسب، وإنما عن طريق استجابتها للأفكار العلمانية التي انتشرت في فرنسا وقتها.

وبالعودة لمصر، ولخطاب «الإصلاح الديني» الذي بدأ يطرق أبواب إمكانية عزل التعليم الديني من المدارس، في خطوة مشابهة لخطوة لائكية فرنسا. يجب طرح عدة أسئلة: ما الداعي إلى هذا «الإصلاح»؟ وهل ينجح في تحقيق أهدافه؟ بل ما هي أهدافه حقا؟

يغفل منطق عزل التعليم الديني عن المدارس لصالح الأخلاق، النظرة الكونية للشريعة الإسلامية حول الأخلاق؛ إذ تختلف اختلافا جذريا عن النظرة الغربية التي تشكّلت مع الحداثة.

إن أسئلة كهذه تحتاج مدادا عريضا للجواب عنها. لكن، يُمكن القول إن الخطاب «الإصلاحي» في هذه الحالة يرد نفس المنبع الذي وردته السلطة العلمانية. فبحسب هذا الخطاب يُعد الهدف من الإصلاح هو «إنهاء الإرهاب» كأولوية.

ولعلنا نتساءل: من الذي صنف «الإرهاب» وجعله ضرورة؟ الإجابة هي سلطة الدولة السيادية نفسها؛ فالدولة ترى خطرا وجوديا في جماعات معينة تتبنى خطابا معينا من جهة، ومن أخرى فتلك الجماعات بالفعل تستعمل مفردات إسلامية؛ مما يجعل الخطاب الإسلامي في نظر الدولة محل تساؤل، الأمر الذي يستنفر المعنيين للدفاع عن أنفسهم وتمييز أنفسهم من فئة «العدو» لصالح فئة «الصديق».

لكن، هناك ما هو أعمق في تعامل العلمانية مع الدين. إن العلمانية تنزع طابع الخصوصية عن كل الأديان لتجمع بينها تحت اسم «الدين» وفق سمات محددة وثابتة؛ فلا فرق كبيرا بين المسيحية والإسلام في نظرها. وعن هذا المنطق يصدر دُعاة الإصلاح أيضا، في استجابةٍ أخرى لسلطة العلمانية.

ففي حين كان العدو التاريخي للدولة الفرنسية منذ الثورة عام 1789 هو الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية بسماتها اللاهوتية والاجتماعية المحددة، نجد أن العدو في حالة خطاب «الإصلاح» الإسلامي ليس هو تلك الكنيسة، بل هو عدو آخر يستلهم منطقا مختلفا تماما، ولكن بما أن العلمانية تعامل الأديان كافة كدين موحد، وتحاول دوما إعادة ترسيم الحدود من حوله، فلا عجب أن تُعامَل هذه الجماعات على أنها تابعة لـلدين، ويمكن أن يسري عليها ما قد سرى على الجماعات الدينية الأخرى في أوروبا. وبالطبع يُغفل هذا المنطق الاختزالي أن علاقة الأخلاق بالشريعة مثلا في الإسلام السني، مختلفة تمام الاختلاف عنها في السياق الكاثوليكي الفرنسي.

كذلك، يغفل هذا المنطق الذي يحاول عزل التعليم الديني عن المدارس لصالح الأخلاق، أن النظرة الكونية للشريعة الإسلامية حول الأخلاق، بل حتى للمسيحية الشرقية في بعض مواطنها، تختلف اختلافا جذريا عن النظرة الغربية التي تشكّلت مع الحداثة وكشفت عن وجهها السلطوي بعد ذلك؛ فمنطق إبعاد الديني لصالح الأخلاقي يعرض الأخلاق على أنها مجال حُر من الفعل الإنساني الفردي لا الجماعي حتى وإن صب لصالح الجماعة، وينتج عن هذا تحرر الإنسان من قيد الدين نفسه من جهة، ومن قيد المجتمع من جهة أخرى. مما يُنشئ مشكلة لدى الدولة؛ لأن الإنسان بذلك يُصبح غير مقيد بأي قانون، وهو الأمر الذي يدفعها لكي تتدخل قانونيا لتحجيم هذه الحرية بمعزل عن الدين لصالحها، حتى وإن تم ذلك تحت اسم «المواطنة».

إن تاريخ منع التعليم الديني في المدارس بفرنسا تحديدا يحمل بداخله عددا كبيرا من المراحل التاريخية، ومن الافتراضات الفكرية النابعة من التجربة الفرنسية ذاتها، وأي محاولة لكسر السياقات الثقافية، وتجاهل الافتراضات المختلفة لكل نظام فكري لن تؤدي إلى «إصلاح»، حتى وإن أُعلن أن هدفه هو تدعيم «الأخلاق والمواطنة»؛ لأن الأمر سيفتح مجالا آخرَ أمام تدخل الدولة في مناحي المجتمع كافة بطريقة لا ترى المجتمع وفق شروطه الخاصة، وإنما وفقا لافتراضات غريبة عنه.

المراجع
  1. William Fortescue, «the Third Republic in France: 1870-1940», (NY, Routledge, 2001)
  2. Ralph Gibson, «a social history of French Catholicism: 1789-1914», (NY, Routledge, 1898)
  3. T. Gunn, «Religious Freedom and Laicite: a comparison of the United States and France», BYU Law Review, vol 2004, Issue 2, Article 5
  4. Gareth Heywood, «Education, Sociability, and the politics of culture in Fin-de Siecle France», an Honours Dissertation, (Northumbria University, Departent of Humanities, 2016)
  5. Carl Schmitt, «The Concept of the Political», (New Brunswick, Rutgers University Press, edition of 1976)
  6. وائل حلاق،»الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي«، ترجمة: عمرو عثمان، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)