الدين والسحر كلاهما قديم قدم الإنسان نفسه، فلا يستطيع باحث أن يقف على أصل وبدايات أي منهما، إلا أن العلاقة بينهما قد شكلت لدى الباحثين الأنثربولوجيين العديد من الأسئلة؛ أيهما أسبق في الظهور: الدين أم السحر؟، أم أن الدين قد ولدُ من رحم السحر في البدايات الأولى للإنسانية؟.

وراحت الإجابات على تلك الأسئلة تختلف تبعًا لاختلاف النظريات والمدارس الأنثروبولوجية العديدة. ومن أوائل تلك النظريات، الأنثروبولوجيا التطورية والتي ظهرت مع بدايات القرن التاسع عشر، حيث اعتقد رواد تلك المدرسة أن المجتمعات البشرية قد مرت بعمليات من التطور إلى أن أصبحت أكثر تعقيدًا وعقلانية وأقل بساطة وبدائية، فعلى غرار التطور الموجود في الحياة البيولوجية هناك تطور موجود أيضًا في الحياة العقلية[1].

ويعتبر «إدوارد تايلور» من أوائل التطوريين الذين تحدثوا عن علاقة الدين بالسحر وذلك من خلال نظرية عن نشأة الدين البدائي من خلال فكرة الأرواحية.

إذا كان الدين يرتكز علي الاعتقاد في كائنات روحية، فإن السحر يرتكز علي الارتباط والتماثل في الأشياء التي يشبه بعضها البعض

والأرواحية هي الاعتقاد بوجود كائنات روحية عديدة مكلفة بشؤن البشر سواء بالخير أو بالشر، ومن خلال تلك النظرية رأى تايلور أن الطقوس التي يقوم بها البدائي ما هي إلا صلوات للتقرب من تلك الأرواح التي تدخل بعد الموت في جسد آخر فتصيبه بالمس أو الجنون، وهذه الأرواح يمكن تقييدها عن طريق «الفتشية»[2]؛ أي التعبد لتلك الأشياء التي تسكنها الأرواح.

وبناءً على تلك النظرية ميز تايلور بين الدين والسحر، فإذا كان الدين يرتكز على الاعتقاد في كائنات روحية فإن السحر يرتكز على التماثل والارتباط في الأشياء التي يشبه بعضها البعض في الفكر السحري يعتقد بأنها متصلة سببيًا أحدهما بالآخر، وباستخدام بعض الأساليب السحرية المعينة من الممكن أن تتأثر تلك الأشياء بما يماثلها، وبالتالى فإن السحر مثل العلم لكنه يرتكز على تعليل باطل[3]، ومن هذا المنطلق صك تيلور مصطلح العلم الزائف لوصف السحر.

كما قام «ماريت» بتطوير النظرية الأرواحية وأضاف إليها فكرة «المانا»، والمانا قوة غير مادية تسيطر على الكون عرفت عند العديد من الشعوب البدائية كما عرفت عند القبائل الهندية باسم «واكان»؛ أي السر المحرك للكون، والمانا حسب اعتقاد تلك الشعوب البدائية لها قوة سحرية تختلف عن القوة الطبيعية التي عرفها البشر لذا من المستحسن[4] السيطرة عليها وتسخيرها لصالح الإنسان.

ويرى ماريت أنه في أقدم العصور ما قبل الإحيائية لم يكن هناك تميز بين الدين والسحر لذلك يرى من الأفضل في صدد الكلام عن تلك الشعوب استخدام تعبير “السحري- الديني” على الرغم من تفضيله للفظ مانا[5].

أما «أندرو لانج» فقد سار على نهج تايلور في أن الإنسان في مراحله الأولى قد أحاط الظواهر الطبيعية بنوع من الروحية، لكنه خالف تايلور في أسبقية السحر على الدين حيث وضع لانج السحر في مرحلة لاحقة بعد وجود الدين.

ومن مقدمات تايلور ولانج انطلق جيمس فريزر في إرساء دعائم النظرية التطورية في الأنثروبولوجيا[6]، فقد حدد فريزر مراحل تطور البشرية على النحو التالي؛ السحر ثم الدين ثم العلم، وبذلك يقرر فريزر أسبقية السحر على الدين، حيث إن الانسان قد عمد في تلك المرحلة السحرية إلى إخضاع الطبيعة لرغباته باستخدام التعاويذ والطلاسم وذلك قبل أن يتقرب إلى الآلهة.

كما رأى فريزر أن السحر لم يؤدي إلى الدين فقط بل إلى الطقوس والصلوات المصاحبة للدين أيضًا، فكثير من الصلوات والدعوات هي من طبيعة العزائم السحرية وقد تطورت من السحر ودخلت في صلب الدين.


الدين والسحر من منظور الأنثروبولوجيا الوظيفية

رأى رواد تلك المدرسة أن المجتمع مثل الكائن الحي؛ فكما أن لكل عضو من أعضاء الكائن الحي وظيفة محددة كذلك المجتمع أيضًا، لكل وحدة من وحداته وظيفة محددة، وبين هذة الوظائف علاقات تعمل على التكامل والاستمرار[7]، ويمكن القول إن الرؤيا الوظيفية في الأنثروبولوجيا تبدأ من أعمال «إميل دوركايم»، حيث كانت النقطة الرئيسية لدى دوركايم في تعريفه للدين هي التمييز بين المقدس والمدنس.

الطوطمية كائنات تحترمها القبائل المتوحشة ويعتقد كل فرد من أفراد القبيلة بعلاقة نسب بينه وبين طوطمه

فالدين وفقًا لتعريفه نظام موحد من الاعتقادات والممارسات المتصلة بالأشياء المقدسة والتي تعني الممنوع والمرفوض، وتلك الاعتقادات والممارسات التي تتوحد في أخلاق المجتمع الواحد تعرف باسم كنيسة وعلى الجميع أن يلتزم بها[8]، ويرى دوركايم أن «الطوطمية» تمثل ترابط المجتمع وليس الدم، والطوطمية كائنات تحترمها القبائل المتوحشة، ويعتقد كل فرد من أفراد القبيلة بعلاقة نسب بينه وبين طوطمه.

وقد يكون هذا الطوطم حيوان أو نبات وهو يحمي صاحبه، وفي المقابل يحترمه صاحبه ويقدسه، فإذا كان حيوانًا لا يقوم بقتله، واذا كان نباتًا لا يقوم بقطعه، وهكذا رأى دوركايم أن الطوطمية هي أقدم عنصر من عناصر الدين وليس الأرواحية كما تصورها التطوريون وبالأخص تايلور.

وإذا كان الدين قد حظي بالمكانة الأكبر في دراسات دوركايم على القبائل البدائية فإنه لم يخصص للسحر سوى قدر قليل من كتاباته، حيث يرى إن هناك فرقًا جليًا بين الدين والسحر، فالأول يعود لمشاعر جماعية والآخر هو نتيجة إدراك فردي، كما أن الدين هو نظام متماسك من المعتقدات والممارسات التي تتعلق بأشياء مقدسة ومحرمة، أما السحر فهو فردي وينحصر في مفهوم الأمر المدنس، كما اعتبر دوركايم السحر ينحدر من الدين وليس أصلاً زائفًا للدين كما هو الشأن عند فريزر.

وعلى الجانب الآخر نجد «ليفي برول»[9]، وهو أحد رواد الأنثروبولوجية الوظيفية، قد تقارب مع ماريت في أن محاولة فصل الدين عن السحر هي محاولة عقيمة، فالدين والسحر مظهران لفكرة واحدة تميزت بها عقلية الشعوب البدائية وعرفها بظاهرة ما قبل التدين.

أما «مارسيل موس» فقد فرق بين طقوس الدين وتجارب السحر، فالسحر عنده هو بقايا معتقدات قديمة، وأن ما يميز السحر عن الدين هو مفهوم التحريم الذي يضع حدًا فاصلاً بين السحر والدين، فالدين يتعلق بالخير والسحر يتعلق بالشر.

ولقد وصلت الأنثروبولوجيا الوظيفية ذروتها على يد مالينوفسكي[10]، فقد كان أول أنثروبولوجي لا يستقي معلوماته عن الشعوب البدائية من الرحالة والمبشرين، حيث تعايش مع أهالي ميلانيزيا لمدة أربع سنوات، ولقد ابتدأ مالينوفسكي أعماله بنقد نظرية تايلور حيث رأى أنها قد أقيمت على مدى ضيق جدًا من الحقائق، فهذة النظرية تجعل البدائي تأمليًا وعقليًا أكثر من اللازم، كما أوضح أن البحث الميداني الذي قام به على أهالي ميلانزيا أوضح له أن البدائي يهتم بصيده وزراعته أكثر من التفكير حول الأحلام والرؤى.

يرى مالينوفسكي أن السحر فن عملي له أساليب محددة كالتعويذة، أما الدين فهو في تركيبه معقد ولا يخضع لمثل هذا الأسلوب من التبسيط

كما وجّه نقده أيضًا إلى فكرة المانا عند ماريت، ورأى مالينوفسكي أن تلك النظريات التي تضع المانا على قاعدة السحر تتجه كليًا في الاتجاه الخاطئ[11]. أما عن العلاقة بين الدين والسحر من وجه نظره، فكلاهما يعمل على مواقف الضغط الانفعالي التي يتعرض لها الإنسان في حياته مثل الموت والحب والكراهية، فالدين والسحر بمثابة مخرج للخروج من تلك الأزمات حيث لا يوجد طريق عملي تجريبي للخلاص من تلك الأزمات سوى مشاعر الإيمان بعالم غيبي.

كما يرى أن الدين والسحر متشابهان فكلاهما يوجد في جو من المعجزات كما يحاط كل منهما بالمحرمات «تابو»، أما ما يميز السحر عن الدين عند مالينوفسكي فالسحر فن عملي له أساليب محددة كالتعويذة، أما الدين فهو في تركيبه معقد ولا يخضع لمثل هذا الأسلوب من التبسيط، كما أن السحر قائم على مبدأ التوريث من جيل إلى جيل مثل توارث المهن، أما الدين فإنه شأن من شؤون الجميع يساهم فيه كل فرد بدور نشيط، فكل فرد من أفراد القبيلة يجب عليه المرور بطقوس التأهيل، وهو نفسه سيقوم بتأهيل الآخرين.

تلك كانت إطلاله سريعة عن علاقة الدين بالسحر من خلال عرض بعض النماذج من المدارس الأنثروبولوجية، استثنينا منها -لضيق المقام- المدرسة البنيوية ورائدها ليفي شتراوس، كما لم نتطرق لعلاقة السحر بالعلم التجريبي، إلا أننا سنضع في خاتمة المقال قائمة بعنوان بعض المراجع لمن أراد أن يتوسع في الإلمام بموضوع السحر عمومًا وتاريخه وعلاقته بكل من الدين والعلم.

المراجع
  1. أحمد محمد جاد: المناهج الأنثروبولوجية في دراسة الأديان، (مجلة كلية دار العلوم – جامعة القاهرة، عدد خاص، 2007، ص1).
  2. علي سامي النشار: نشأة الدين، (دار السلام – القاهرة، 2009، ص36 وما بعدها).
  3. أحمد محمد جاد: المناهج الاجتماعية لدراسة الأديان، (مجلة الجمعية الفلسفية المصرية – مصر، ص35).
  4. دينكين ميشيل: معجم علم الاجتماع، ت: إحسان محمد حسان، (دار الرشيد – بغداد، وزارة الثقافة، 1980، ص24).
  5. إيفنز برتشارد: الأناسة المجتمعية، ت: حسن قبيسي، (دار الحداثة، 1982، ص190).
  6. جيمس فريزر: الفولكلور في العهد القديم، ( ص 21و72).
  7. جاك لومبار: مدخل إلى الأنثروبولوجيا، ت: د. نبيلة إبراهيم (رؤية للنشر -القاهرة، ص195).
  8. أحمد محمد جاد: المناهج الأنثروبولوجية في دراسة الأديان، (مصدر سابق، ص13). انظر أيضًا: علي عبد الواحد وافي: الطوطمية أشهر الديانات البدائية، (عدد سلسة اقرأ 194).
  9. سامية الساعاتي: السحر والمجتمع، (دار النهضة العربية، 1983، ص138).
  10. شمس الدين الكيلاني: من العود الأبدي إلى الوعي التاريخي، (ص76 وما بعدها).
  11. مالينوفسكي: السحر والعلم والدين عند الشعوب البدائية، ت: فيليب عطية (الهيئة المصرية العامة للكتاب – مصر، 1995، ص 82، 94).