لا يشبه التعذيب في السجون الإسرائيلية حالات القمع والتعذيب التي تصفها أدبيات السجون في العالم. فليس هناك حرمان فعلي من الطعام أو الدواء، ولن تجدوا من هم محرومون من الشمس ومدفونون تحت الأرض. لا يُكبَّـل الأسرى كما في الروايات بسلاسل مشدودة لكتلٍ حديدية طوال النهار. فلم يعد الجسد الأسير في عصر ما بعد الحداثة هو المستهدف مباشرةً، وإنما المستهدف هو الروح والعقل… نحن هنا لا في «سجن أبو زعبل» ولا حتى «أبو غريب» أو «غوانتنامو» من حيث شروط الحياة. ففي كل هذه السجون تعرف مُعذبك وشكل التعذيب وأدواته المستخدمة… لكنك في السجون الإسرائيلية تواجه تعذيبًا أشد وطأة «بحضاريته» يحوّل حواسك وعقلك لأدوات تعذيب يومي.

الأسير الفلسطيني وليد نمر دُقة التي قدم بها بحثه في «أسس المخطط الإسرائيلي» لإعادة صياغة الوعي الفلسطيني ككل، ووعي الأسرى بشكل خاص.

وليد دُقة أسير فلسطيني وُلِدَ عام 1961م، حُكمَ عليه بالسجن مدى الحياة بعد إدانته، مع آخرين، بالعضوية في خلية نفذت عملية خطف وقتل جندي إسرائيلي عام 1984م. يُذكر أنه من ضمن ثلاثين أسيراً اعتُقلوا قبل اتفاقية أوسلو ترفض سلطات الاحتلال الإفراج عنهم، وهو الآن على وشك إتمام عامه الثاني بعد الثلاثين داخل السجون الإسرائيلية [1]. وقد كتب وليد بحثه «صهر الوعي: أو في إعادة تعريف العذاب» في أواخر تموز عام 2009م. من داخل سجن جلبوع الإسرائيلي مُعتمداً في ذلك على تجربته الخاصة داخل السجون، وعلى ذاكرته؛ فالمصادر الأكاديمية والعلمية التي اعتمدها في بحثه وثقها من ذاكرته نظراً لتشديد الاحتلال. وقد أُعيد نشر البحث على شكل كتاب عام 2010م. بتقديم الدكتور عزمي بشارة [2].


إسرائيل تخرج عن عقالها

بعد انتهاء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وتحديدًا منذ أواخر عام 2003م وبدايات عام 2004م، بدأت إسرائيل بعدد من الإجراءات «غير المفهومة» في فلسطين. فمن ناحية، أطلقت إسرائيل عدداً من العمليات العسكرية واسعة النطاق خلّفت دماراً هائلاً، وعلى الرغم من التنديد الدولي ومن إعلان المقاومة الاستعداد لوقف القتال، بل ووقفه بالفعل في بعض الأحيان، كانت إسرائيل متمادية في تلك العمليات. ثم بدأت أيضًا في إعادة ترسيم جغرافيا فلسطين على شكل معازل تُشبه معازل الفصل العنصري التي أُقيمت في ظل نظام «الأبرتايد» بجنوب أفريقيا، لكن هذه المرة كان التقسيم لا بين السود والبيض، بل بين الفلسطينين أنفسهم؛ فكل قطاع بما يحوي من فلسطينيين أصبح منفصلاً عن القطاع الآخر على نحوٍ لا يسمح بالتواصل بين هذه القطاعات إلا تحت المراقبة.

ومن جهة أخرى، قامت اسرائيل بتعيين مدير سجون جديد وهو يعقوف جنوت؛ الرجل المعروف بعنصريته وبصداقته المقربة من شارون، كما قامت بزيادة الميزانية المخصصة للسجون بشكل كبير، وقد قام جنوت بتوحيد نظام السجون تحت نظام وبناء هندسي موحّد لا يُسمح فيه بأي خرق. وفور تسلّمه المنصب قام جنوت بافتعال مواجهات دامية مع الأسرى تزامن معها تركيب زجاج يفصل بين الأسير وعائلته وقت الزيارة وتفتيش عارٍ باستخدام الكلاب، مما دفعهم للوصول إلى نقطة الإضراب عن الطعام، وقد قامت إدارة السجون وقتها بحضّ الأسرى على ذلك الإضراب [3]. وفي أثناء الإضراب نفسه، قامت إدارة السجون بعدة إجراءات من شأنها تحطيم الأسرى معنويًا وماديًا، وانتهى الأمر بفض الإضراب وإعلان المضربين تخليهم عنه بشكل فوضوي، لا بشكل موحّد كما دخلوه جماعةً، بالإضافة لتطبيق إسرائيل بعده لسياسة جديدة تماماً. فهل فقدت إسرائيل عقلها فعلاً؟


صهر الوعي

يرى وليد دقة أن هذه العمليات والإجراءات كانت ممنهجة؛ فالمقصود بها كان تصدير صورة للعالم مفادها أن «إسرائيل قد جُـنَّـت، ولا أحد أصبح يستطيع إيقافها»، مع أن واقع الأمر هو أن تلك الإجراءات المجنونة كانت تتبع خُطة شاملة شديدة العقلانية. فمع الانتفاضة الأولى، أدركت إسرائيل أن معركتها مع المقاومة والشعب، لا مع السلطة الباحثة عن أفق الحلول السياسية. ولذلك، فقد بدأت في خطة تعتمد على نظريات من علم النفس والهندسة البشرية تسعى من ورائها إلى صهر الوعي الفلسطيني، وتفكيك المقاومة ككل. فأي حركة مقاومة تستند إلى ركنين أساسيين: ركن مادي يشتملُ على السلاح والمال والعنصر البشري والحيز المكاني للتدريب والاختباء، وركن معنوي وهو البنية التحتية للمقاومة ويتمثل في القيمة الجامعة لأفراد تلك الحركة؛ وفي حالة فلسطين فإن ما يجمع أفراد الشعب والمقاومة هو مقولة «فلسطين: ذلك الوطن الواحد». ولذلك عملت إسرائيل لإرساء إجراءات تهدف إلى تفكيك الركن المادي عن طريق هدم المؤسسات والبيوت لجعل المقاومة تبدو مكلفة للغاية، وإلى تحطيم المقولة الجامعة للمقاومة عن طريق: خلق حالة من الصدمة تُسهِّل على إسرائيل إرساء قيمها الخاصة داخل الفرد الفلسطيني. ولفهم تلك الخطة استعان وليد بأداتيْ تحليل: رؤية نعومي كلاين عن «عقيدة الصدمة»، وتحليل ميشال فوكو لـ «مشتمل بينتام»، ثم وضع عناصر تلك الخطة في إطار عام استعان فيه بنظرية زيجمونت باومن عن الزمن السائل.

فترى نعومى كلاين أن عقيدة الصدمة هي تعريض الإنسان/الجماعة إلى صدمة كارثية تدمر موضوعها – أي الإنسان/الجماعة – بأن تجعله يفقد الشعور بالزمان والمكان، ويبدأ في الشعور بالعجز وعدم القدرة على الفهم بحيث يتحول إلى صفحة بيضاء يمكن لأي سلطة أن تكتب عليها ما تريد من قيم جديدة، وقد قدّمت أمثلة على ذلك تتضمن حرب أمريكا على العراق التي هدفت، وفق كلاين، إلى تجهيز الشعب العراقي إلى الانصياع لأمريكا. والصدمة الأولى هنا كانت هي تلك الأفعال «الجنونية» التي قامت بها إسرائيل عقب الانتفاضة، إلى جانب الإجراءات المهينة الممارسة تجاه الأسرى في السجون. وأما الصدمة الثانية، وفقاً لوليد، فهي دفع الأسرى نحو الإضراب ثم اتباع مجموعة إجراءات قاسية للغاية تجاه الأسرى، دفعتهم للتخلي عن إضرابهم كما ذكرنا، وقد وقعت هذه الصدمة الثانية داخل السجون الإسرائيلية تجاه الأسرى، لأن الأسرى هم «طليعة النضال» الفلسطيني من جهة؛ ولأن السجن بيئة مناسبة لإجراء تلك التجربة التي ستعمم على فلسطين ككل بعد ذلك، وقد دفعه هذا إلى استخدام تحليل فوكو للمشتمل.

فالمشتمل (Panopticon) هو الصورة الهندسية التي طبقتها إسرائيل على سجونها. والمشتمل هو مبنى دائري يتوسطه برج مراقبة به نافذة مفتوحة على الوجه الداخلي للحلقة، ويُقسم البناء الجانبي إلى غرف معزولة بها شباكان: شباك من الداخل مواجهاً لنافذة البرج، وشباك من الخارج ليتيح نوراً خافتاً. ويكفي وضع مراقب، أو أداة مراقبة، داخل هذا البرج ليكشف كل غرفة منعزلة بكليتها. والهدف من ذلك هو: منع التقاء السجناء ككلتة واحدة؛ فكلٌ معزول على انفراد، بالإضافة إلى جعل السجين مكشوفاً أمام المراقِب بصورة تجعله مرئي ولا يرى؛ فهو جسم موضوع سلبي، لا ذاتاً فاعلة. وفي تحليل فوكو، فإن هذا النظام يحوِّل السجين إلى ممارِس سلطة على نفسه؛ فهو لمعرفته بأنه دوماً تحت مراقبة غير ملموسة، سيسعى لضبط نفسه وفقاً لمراد هذا المراقِب. إن هذا النظام يكفل لإسرائيل سيطرة كاملة على الأسرى، كما يكفل لها عزل الأسرى عن بعضهم البعض، بعد تعريضهم للصدمة، من أجل تفكيك مقولة “فلسطين: الجسد الواحد”.


إعادة تعريف العذاب

أدركت إسرائيل أن معركتها مع المقاومة والشعب، لا مع السلطة. ولذلك، فقد بدأت في خطة تعتمد على نظريات من علم النفس والهندسة البشرية تسعى من ورائها إلى صهر الوعي الفلسطيني.

بعد تجهيز السجن وفقاً لنظام «المشتمل»، وبعد إحداث صدمتين كبرتين: صدمة العمليات العسكرية والمداهمات، وصدمة فشل الإضراب، بدأت إسرائيل في تنفيذ إجراءات جديدة تكفل لها القضاء على ما تبقى من قيم جماعية لدى الأسرى بهدف إرساء قيمها الخاصة بعد ذلك. فيذكر وليد من تلك الإجراءات الجديدة:

أ) تقسيم الأقسام بحسب الاعتبار الجغرافي للتقسيم الإسرائيلي لفلسطين وتأجيج الخلافات بين تلك الأقسام وفقاً لهذا الاعتبار. ب) انزال عقاب شديد على أي مظهر «جماعي» مثل: التعزية أو حمل صورة لشهيد فلسطيني. ج) إجراء تنقلات مكثفة للأسرى. د) استقبال طلبات الأسرى الفردية دون الجماعية. هـ) صرف رواتب شهرية للأسير [4]. و) تحويل مستوى معيشة أسرة كل أسير إلى مستوى أعلى من الأسرة العادية. ز) تسيير الحياة داخل السجن وفقاً لمواقيت محددة وشديدة الانضباط. ح) جعل المشرفين فتيات لم يبلغن العشرين من العمر أو معاقين [5]. ويرى وليد أن الهدف من هذه الإجراءات، وغيرها، هو تحويل الأسير الفلسطيني من ذاتٍ فاعلة إلى متلقٍ سلبي يعتمد في وجوده على ما تقدمه له إسرائيل من حاجات مادية؛ فيتحول تدريجياً إلى مهتم بحياته اليومية وغير مكترث بما هو خارج عنها.

ويجمع هذا النظام كله رغبة في إحداث شعور بالتناقض المستمر لدى الأسير؛ فهو من جهة يخلو بنفسه في زنزانته ويشعر أنه أصبح يمتلك زمانه الخاص، لكن واقع المراقبة المستمرة والمخفية يحرمه من هذا الشعور بتملك زمنه الخاص، كما أن تحويل المراقبة إلى إليكترونية قد خلق تناقضاً لدى الأسير بين شعوره بوجود رقيب، وبين واقع غياب التواصل الجسدي مع هذا الرقيب. والتناقض الأشد خطورة، هو تناقض واقع الزمن المنضبط داخل السجن، وواقع الزمن السائل سريع الحركة، بلُغة باومن، خارجه. كل هذه التناقضات تؤدي إلى تعميق شعور الضياع الناتج عن الصدمة، ويجعل الأسير عرضة للانهيار التام والتخلي عن كل قيمه في أي لحظة. وبما أن السجن نموذج تجربة لما يُراد بفلسطين ككل، فيمكن القول إن الزمن داخل فلسطين سيتحوُّل هو الآخر لزمن منضبط، بينما الزمن خارجها سيكون هو الزمن السائل بحيث يشعر الفلسطيني بعُزلة وتناقض يصلان به إلى حدهما الأقصى.

إن مثل هذا الطرح يُقدم تحليلاً دقيقاً لأُسس المخطط الإسرائيلي تجاه فلسطين، وتجاه الأسرى تحديداً. وقد قام الأسير الفلسطيني وليد دقه في هذا الطرح بإعادة تعريف العذاب الممارَس على فلسطين ككل؛ فهو تعذيب ممنهج يسعى إلى خلط جميع المفاهيم لدى الفرد الفلسطيني. وقد أنهى وليد بحثه بجملةٍ لمدير السجون الإسرائيلي السابق وجهها لرئيس الوزراء الإسرائيلي عام 2006م، تكشف الهدف النهائي لمثل ذلك العذاب الجديد؛قائلاً:

«عليك أن تكون واثقاً بأنني ساجعلهم (الأسرى) يرفعون العلم الإسرائيلي ويُنشدون التكفا»[6].
ويتبقى السؤال: هل يوجد مخرج من هذا المخطط الشامل؟

[1] لمزيد من معرفة سيرة الأسير وليد نمر دقة، انظر: موقع أسرى 48 على الرابط التالي: http://assra48.com/Asser_Profile.aspx?XID=4[2] وليد نمر دقة، “صهر الوعي: أو في إعادة تعريف العذاب” تقديم: عزمي بشارة، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، لبنان، 2010 [3] المرجع السابق، صـ: 16، 17 [4] مع العلم أن شركات الغذاء والشراب كلها اسرائيلية باتفاق مع وزارة شئون الأسرى، مما يجعل تلك الرواتب تذهب لتلك الشركات في الأخير.[5] ذلك لإزالة صور السجان الوحش من المخيال الفلسطيني واستبدالها بصورة سجان ضعيف يشعر الأسير نحوه، مع ذلك، بانعدام القدرة على المقاومة.[6] المرجع السابق، صـ 32