في خضم العدوان الإسرائيلي على غزة صيف 2014 – «العصف المأكول» حسب تسمية المقاومة الفلسطينية – نفذت وحدة بحرية خاصة من كتائب عز الدين القسام عملية نوعية في 8 يوليو/تموز 2014، فتسللت إلى قاعدة «زيكيم» البحرية الإسرائيلية واشتبكت مع جنود الاحتلال ودمرت دبابة من طراز «ميركافا»، وفي الوقت ذاته كانت طائرات من دون طيار محملة بمتفجرات تهاجم تل أبيب، في سابقة لم تحدث في حرب عربية إسرائيلية نظامية من قبل.قرر الجيش الإسرائيلي شن هجوم مضاد شمال قطاع غزة، وضرب مرابض المدفعية والصواريخ التابعة للمقاومة، التي تنطلق منها القذائف صوب المدن الإسرائيلية الكبيرة كعسقلان، وأسدود، وتل أبيب، ووقع اختياره على القوة البحرية الخاصة «شايطيت 13» (الأسطول 13) لتنفيذ عملية إبرار على شاطئ السودانية شمال غربي قطاع غزة، غير أن القوة المهاجمة وجدت مفاجأة غير محسوبة بانتظارها على الشاطئ.


الوحدة

تشكّلت «شايطيت 13» رسميًا عام 1949 بقيادة «يوحاي بن نون»، خلال مرحلة ضم العصابات الصهيونية إلى الجيش الإسرائيلي بعد «التأسيس الرسمي للدولة» في 14 مايو/آيار 1948، وقبلها كانت تحمل اسم «بال يام» (السرية البحرية) ومكونة من فصيلة ضفادع بشرية وفصيلة قوارب هجومية، ضمن تشكيل «البالماخ»؛ القوة الضاربة أو قوة العمليات الخاصة بمنظمة «الهاجاناه» الصهيونية الشهيرة، التي شكلت النواة الصلبة للجيش الإسرائيلي.

«شايطيت 13» هي أقوى وحدة ضفادع بشرية وعمليات خاصة بحرية في الجيش الإسرائيلي، وهي توازي في أهميتها وحدة «سييرت متكال» الشهيرة بالقوات البرية.

لعبت «بال يام» دورًا مهمًا في إدخال المهاجرين اليهود غير الشرعيين إلى فلسطين إبان فترة الانتداب البريطاني، وعندما اندلعت حرب فلسطين كُلفت الوحدة بإغراق سفن شحنات الأسلحة إلى الدول العربية، وهي التي نفذت عملية إغراق الطوافة التابعة لسلاح البحرية المصري «الأمير فاروق» في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1948.لم تحظ «شايطيت 13» بكبير اهتمام بعد تأسيس الدولة إلى أن أُعيد إليها الاعتبار بعد تولي «يوحاي بن نون» قيادة سلاح البحرية الإسرائيلي عام 1960، فسُمح للوحدة بتصميم وحمل شارة مستقلة، وشاركت بعد ذلك في تنفيذ مهام خفيفة خلال حروب إسرائيل مع الدول العربية.وبالرغم من كونها وحدة بحرية، إلا أنها شاركت في تنفيذ مهام خاصة برية كقوة مشاة أو كوماندوز، خلال الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) وحرب لبنان الأخيرة عام 2006، ومن أشهر العمليات التي شاركت فيها اغتيال القائد العسكري الفتحاوي «خليل الوزير» (أبو جهاد) في تونس عام 1988، والهجوم على السفينة التركية «مافي مرمرة» ضمن أسطول الحرية الذي تحرك باتجاه سواحل غزة في مايو/أيار 2010.إن «شايطيت 13» هي أقوى وحدة ضفادع بشرية وعمليات خاصة بحرية في الجيش الإسرائيلي، وهي توازي في أهميتها وحدة «سييرت متكال» (سرية استطلاع هيئة الأركان) الشهيرة بالقوات البرية، لكن من سوء حظ «شايطيت 13» أن السلاح البحري الإسرائيلي لا يحظى بنفس الاهتمام والعناية الموليين مثلًا لسلاحي الجو والدروع، كما أنها أقل شهرة من «سييرت متكال»، التي قادها وخدم فيها عدد من مشاهير السياسة الإسرائيلية، منهم رئيسا الوزراء «إيهود باراك» و«بنيامين نتنياهو».


المصيدة

بعد معركة قاعدة «زيكيم» وسقوط قذائف صاروخية في تل أبيب، كانت القيادة العسكرية في «حماس» تنتظر هجومًا مضادًا طبيعيًا من الجيش الإسرائيلي، فرفعت درجة الاستنفار في وحدات الاستطلاع التابعة لها.مساء 12 يوليو/تموز 2014، رصدت مفرزة استطلاع تابعة لكتائب القسام تحرك قطع بحرية تضم قوارب إنزال من قاعدتي «أسدود» و«عتليت» الإسرائيليتين باتجاه قطاع غزة، ووضعت تقدير موقف استنتجت فيه أن هجومًا سيتم على إحدى النقاط الساحلية بقطاع غزة، وانتخبت عدة نقاط محتملة منها شاطئ السودانية، كونه نقطة ضعف لوقوعه في نهاية مساحة واسعة مكشوفة، تنتهي بالبحر وتبدأ بالمدخل الغربي لمدينة جباليا ومخيم الشاطئ.قبل خمسة أيام من هذا التاريخ، كانت قوة النخبة القسامية نصبت كمينًا من خمس نقاط تمركز على شاطئ السودانية، أفراده مسلحون ببنادق هجومية ورشاشات ثقيلة وقنابل صاروخية مضادة للدروع وألغام مضادة للأفراد وبنادق قنص، وظهرت الفائدة العظمى لهذا الكمين عندما رست القافلة البحرية الإسرائيلية مقابل شاطئ السودانية بالفعل، وبدأت قوارب الإنزال الحاملة لأفراد الوحدة «شايطيت 13» تتحرك باتجاه الشاطئ نحو منتصف الليل.ترك أفراد الكمين عناصر الوحدة الإسرائيلية ينزلون على الشاطئ دون الاشتباك فورًا معهم، كي يتقدموا باطمئنان إلى نقطة متفق عليها سلفًا بين أفراد الكمين، يبدأ فتح النار عند وصول القوة الإسرائيلية إليها، وما إن وصل أفراد العدو إلى نقطة الشرك حتى أمطرهم أفراد الكمين بوابل من نيران الرشاشات الثقيلة والبنادق الهجومية والقنابل الصاروخية.سرعان ما انسحبت قوة الإنزال تحت غطاء نيران الطائرات والسفن الرابضة بالقرب من الشاطئ، التي تدخلت لتوفير فرصة إخلاء الجرحى والانسحاب الآمن نحو الزوارق مرة أخرى والابتعاد عن مسرح الاشتباك، أو بعبارة أوضح: فشل الهجوم الإسرائيلي.


الفيلم

توقعت القسام الهجوم الإسرائيلي قبل وقوعه بخمسة أيام، ونصبت كمينًا تم تنشيطه بناءً على معلومات استخبارية رصدت خروج القوة الإسرائيلية من قواعدها.

مؤخرًا تنبهت أطراف كثيرة لأهمية توثيق العمليات العسكرية بصريًا، والحصول على شهادات المشاركين فيها، وصناعة أعمال فنية عالية الجودة مبنية على وقائع عمليات حقيقية، وبث هذه المواد الوثائقية كأحد تكتيكات الحرب النفسية.في الفيلم الوثائقي الذي كشفت حركة حماس النقاب عنه منذ أيام بمناسبة الذكرى الثالثة لحرب العصف المأكول، وعملية التصدي لإنزال الوحدة «شايطيت 13» على شاطئ السودانية، حرصت الحركة على بث عدد من الرسائل الصغيرة المبطنة في تفاصيل الفيلم، خدمة لرسالة رئيسية أرادت المقاومة توصيلها للعدو ولأفرادها على السواء.والرسالة الرئيسية تلك هي أن كتائب القسام لم تعد ميليشيا مسلحة بالرشاشات الخفيفة والقنابل اليدوية المحدودة، وتنفذ عمليات تعتمد على الشجاعة الفردية أكثر من التخطيط المدروس، كما هو التصور الشائع عن الميليشيا كفكرة، وإنما أصبحت جهازًا عسكريًا على درجة عالية من التنظيم، لديها أفرع متخصصة في مهام العمليات الحديثة، وتضع خططًا ثابتة للدفاع عن قطاع غزة يتلقى أفرادها التدريب على أساسها، بدلًا من الاعتماد على الخطط الارتجالية حسب الموقف.

الرسالة الأساسية للفيلم هي أن كتائب القسام لم تعد ميليشيا بدائية، وإنما أصبحت جهازًا عسكريًا عالي التنظيم، لديه أفرع متخصصة في مهام العمليات الحديثة.

ظهر ذلك على الأقل في إحدى رسائل الفيلم الفرعية، مثل الأوصاف المستخدمة للإشارة إلى تخصصات أفراد الكمين القسامي؛ فهناك ضابط استخبارات، وضابط عمليات، وضابط ميداني، ومسئول تفجير ألغام بسلاح هندسة، وقناص، ومسئول رماية بسلاح مضاد للدروع، وهناك منظومة اتصالات وإمداد تعتمد على سلاح المقاومة الاستراتيجي: الأنفاق.هناك أيضًا الكشف عن أنه كانت هنالك خطة ثابتة معدة سلفًا للدفاع عن ساحل قطاع غزة، هي خطة «الخط الأحمر»، المعتمدة على نصب كمائن بطول الساحل ذات عدد أفراد صغير وقوة نيران كثيفة نسبيًا، لصد عمليات إنزال الأفراد أو المركبات المعادية على طول الساحل.رسالة مبطنة أخرى هي الفشل الاستخباراتي الذي وقع فيه العدو الإسرائيلي، فهو لم يكتشف نقاط تمركز الكمائن المعدة بموجب خطة «الخط الأحمر» ولم يكشف الخطة ذاتها، ووراء ذلك لم يكشف خريطة الأنفاق التي استُخدمت لإعداد الكمائن ونقل الأسلحة إليها، بل لم يكشف قدرة المقاومة على رصد تحركات أسطوله من خلال عناصر الاستطلاع، ولم يكشف عناصر الاستطلاع نفسها.إن عمليات الكوماندوز (الكمائن والإغارات بالأساس) هي الميدان الوحيد المتاح لتفوق حركات المقاومة، أو أي ميليشيات عمومًا، على الجيوش النظامية؛ فباستثناء الصواريخ أرض–أرض غير الموجهة بدقة والمقذوفات المضادة للدروع، لا تتوافر لدى الميليشيات أسلحة ثقيلة يُعتد بها أو طيران أو دروع، ومن ثم تركز الميليشيات جل جهدها التدريبي في العمليات الخاصة المعتمدة على الأسلحة الخفيفة وعنصر المفاجأة.وفي هذا الميدان نجحت حركات المقاومة ضد إسرائيل مثل حماس وحزب الله – بغض النظر عن المآخذ على مسلكها السياسي – في البرهنة على قدرتها على إتقان هذا النوع من العمليات، والأهم من ذلك البرهنة على وجود نقاط ضعف لدى الجيش الإسرائيلي، الذي يعتمد على تفوقه الساحق في قوة النيران الجوية والمدفعية والدروع، لكنه يرتبك إذا ما أُجبر على خوض التحامات مباشرة للمشاة والقوات الخاصة.