طمس الهوية العربية هو الهدف الذي تسعى إليه دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ اللحظة الأولى لاستيلائها على الأرض والإنسان في فلسطين المحتلة منذ عام 1948، وقد افتعلت عدة محاولات على مدار 69 عامًا لكن أسوأها كانت تُنفّذ على الفلسطينيين الذين لم يتركوا وطنهم واختاروا البقاء في الأراضي المحتلة، إذ عملت على صهرهم في المجتمع الإسرائيلي ومحو هويتهم الثقافية والوطنية والتاريخية عبر عدة محاولات.

فعلى مر سنوات الاحتلال اعتبرت الحكومات الإسرائيلية فلسطينيي الداخل المحتل خطرًا على وجودها وأرغمتهم عبر سياسات الإرهاب والتمييز العنصري على التفكير في الرحيل بما يُحقق مخططاتها في إفراغ الأرض من سكانها الأصليين وأسرلتها، كما غضّت البصر عن العديد من المجازر التي قام بها الجيش الإسرائيلي والعصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين؛ كمجزرة اللد وكفر قاسم وبلد الشيخ، فقط من أجل دفع العرب خارج أرضهم.

ولمّا لم تفلح، اتبعت سياسة قطع اتصال الفلسطينيين في الداخل بكافة طوائفهم الإسلامية والمسيحية في محيطهم العربي، وحاولت من جهة أخرى دمجهم واستيعابهم على هامش المجتمع الإسرائيلي، وإلزامهم بالخدمة العسكرية في الجيش، واستكملت مخططاتها بالتفريق بين العرب المسلمين والمسيحيين، وقسّمت المسيحيين إلى طوائف شرقية وغربية، والمسلمين إلى أحزاب ومذاهب وتكتلات.


قانون الخدمة العسكرية

منذ أن سُنَّ قانون «الخدمة العسكرية» عام 1949، منح البند السادس منه الصلاحية لوزير الأمن الإسرائيلي لدعوة من يراه مناسبًا من مواطني إسرائيل الذكور والإناث الذين تتراوح أعمارهم بين (18 – 29) عامًا لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية باستثناء الشباب العربي الفلسطيني، على اختلاف طوائفهم المسيحية والإسلامية والدرزية.

لكن لم يدم الحال طويلًا وبدأت إسرائيل تبث سُمها في جسد الأقلية العربية، وعمدت عام 1956 إلى عقد اتفاق بيت وزير الأمن الإسرائيلي والرئاسة الروحية للطائفة الدرزية؛ بموجبه يُدعى كل شاب عربي درزي بلغ الثامنة عشرة إلى الخدمة العسكرية، ولم تكتفِّ بذلك فاتجهت عام 1958 إلى ضم الشركس إلى قائمة المدعوين من قبل وزارة الأمن الإسرائيلية إلى التجنيد الإلزامي، واستمرت تضم طائفة تلو الأخرى حتى عام 2014، مما أدى إلى انفجار المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل المحتل بوجه الحكومة ووزارة الأمن الإسرائيلية رافضًا محاولاتها الحثيثة في طمس الهوية الفلسطينية العربية وتغييب الروح الوطنية والانتماء القومي.


الإجبار على الخدمة العسكرية

لم يكن دمج الأقلية العربية في الجيش الإسرائيلي أمرًا هيِّنًا على إسرائيل، فقد انتهجت العديد من وسائل الترهيب بحق المسيحيين والعرب ممن اعتبرتهم مواطنين لديها فكانت تغُض الطرف عن الجرائم العنصرية التي كانت تُحاك ضدهم خلال السنوات العشر الأخيرة والتي كانت تُعرف بـ«تدفيع الثمن» ضد فلسطينيي 48 بطوائفهم العربية والإسلامية والمسيحية، فلم تهتم لحرق المساجد والكنائس، ولم تهتم للاعتداءات المتواصلة بحق مزارعهم وأراضيهم، كما أنها لم تُحرك ساكنًا إزاء مطالبة المتطرفين اليهود لمطران طائفة اللاتين في الناصرة «مركوتسو» بالرحيل مع أبناء طائفته وإلا يتم اغتياله.

لقد تغافلت الحكومة الإسرائيلية عن كل ذلك لأنها تُريد إرهاب المواطنين العرب الأصليين أصحاب الأرض وإجبارهم على التفكير في الهجرة، أو الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي أو الخدمة البديلة له «الخدمة الوطنية» للحصول على حقوق متساوية مع اليهود على الصعيد المدني، مما يُمكّنهم من الانخراط في المجتمع الإسرائيلي.

غير أن تلك المبررات لم تكن صحيحة، وهدفت إلى تضليل الشباب العربي بمختلف طوائفه الدينية، ومن ينظر لحال الطائفة الدرزية العربية التي كانت من أوائل الطوائف التي أُلزمت بالتجنيد في الجيش الإسرائيلي، يجدها تُعاني ويلات العنصرية والتهميش والإقصاء تمامًا كبقية الشعب العربي في الأراضي المحتلة عام 48.


رفض عام

الرفض كان جواب أي محاولة من قبل دولة الاحتلال لصهر المجتمع العربي في الداخل المحتل وتمزيقه وتشتيت أبنائه عبر انضمامهم إلى الخدمة العسكرية، أو الخدمة البديلة «الخدمة الوطنية»، وعلى مدار العامين الماضيين خرجت العديد من الحملات الشعبية التي قوّضت انتشار الفكرة بين أوساط الشباب العربي والمسيحي في الداخل المحتل.

النائب عن التجمع الديموقراطي في القائمة العربية المشتركة بالكنيست الإسرائيلي «باسل غطّاس» عبّر عن رفضه التام لتجنيد العرب في الجيش الإسرائيلي، مؤكدًا أنه يمس بحرية التعبير، ويهدف إلى ذوبان الهوية الفلسطينية في دولة الاحتلال، وقال في تصريح خاص لـ«إضاءات»: «إن محاولات إسرائيل لتجنيد العرب المسلمين والمسيحيين في السنوات الأخيرة يخدم السياسة الصهيونية القائمة على قاعدة (فرق تسد)».


دوافع العرب للخدمة العسكرية

حالة الرفض التي وُجهت بها دعوات تجنيد العرب وبخاصة المسيحيون في الجيش الإسرائيلي، لم تمنع البعض منهم من الموافقة والانخراط في الصفوف الجيش، مما يدعو للتساؤل عن الأسباب التي تدفع العرب من فلسطيني الداخل المحتل إلى الخدمة في جيش الدولة التي احتلت الأرض ومارست بحق الشعب أبشع الجرائم الإنسانية وما زالت تُمارس.

تُشير دراسات وأبحاث إلى أن تلك الدوافع تكون اقتصادية أو أمنية أو ثقافية؛ فهم من جهة يتطلعون للحصول على تسهيلات للحصول على فرص عمل، والحظيّ بأجور عالية، حيث إن الخدمة تكون تطوعية لمدة عامين ونصف العام، ومن ثمَّ يُصرف راتب للجندي يتراوح بين (1100-1200) دولار شهريًا، وقد يحصل على فرصة للخدمة الدائمة في الجيش النظامي أو الشرطة أو حرس الحدود براتب شهري يبدأ من 1200 دولار، ويأخذ بالزيادة كلما تقادم بالعمل.

والبعض يرى أن الخدمة في الجيش تُحقق له فرصة لدخول الجامعات تمامًا كالمواطنين اليهود في الدولة، حيث يعتقد البعض أن الخدمة في الجيش المفتاح السحري للمساواة في الحقوق مع المواطن اليهودي خاصة في الحصول على وظائف في الشركات التي تشترط الخدمة في الجيش كشركة الكهرباء، والمصانع العسكرية أو شبه العسكرية، وفروع الإلكترونيك، والحراسة، وشركة القطارات. ومن جهة أخرى يُريد البعض وبخاصة المسيحيون أن يحملوا السلاح لتوفير الحماية لهم، خاصة بعد العديد من الصدامات الطائفية التي اندلعت في السنوات الأخيرة بين الدروز والمسيحيين أو بين المسلمين والمسيحيين.


12 ألف عربي مسلم في جيش الاحتلال

على مر السنوات الماضية، ومنذ بدأ تجنيد العرب من الطائفة الدرزية في الجيش الإسرائيلي عام 1956، لم يكن هناك أرقام حقيقية حول أعداد الجنود الملتحقين بالجيش، ولكن في عام 2012 أكدت نتائج دراسة بعنوان «الوجود الإسلامي بالجيش الإسرائيلي» أعدها مركز «جافا» للدراسات الاستراتيجية والسياسية التابع لجامعة «بار إيلان» الإسرائيلية أن أعداد العرب بلغت 12 ألف عربي مسلم في صفوف الجيش الإسرائيلي، بينهم 1120 مصريًا.

وبيّنت الدراسة أن أولى مهام المجندين العرب في الجيش الإسرائيلي كانت في الحراسة، ومن ثَمَّ وُزعوا على الوحدات العسكرية العامة، ومن بينها كتيبة واحدة للعرب هي «الدورية الصحراوية»، وتضم 800 جندي غالبيتهم جنود نظاميون والبقية متطوعون مسلمون ومسيحيون.


أهداف خفية

كعادتها في تشويه الحقائق وقلب الوقائع، تدعي إسرائيل أن الهدف من دعوة الشباب العربي والمسيحي للانضمام والتجنيد في صفوف الجيش هو زيادة المنتسبين العرب غير المفروض عليهم الخدمة العسكرية لجيش الاحتلال وتوفير الأمان والحماية لهم.

غير أن الأهداف الحقيقية لا تبعد عن زرع روح التفرقة والعنصرية بين الطوائف المسيحية والكيانات العربية في الداخل الفلسطيني، والمتفحص لما يجري يجد الكثير من الدلائل التي تُشير إلى اتباع دولة الاحتلال سياسة التحريض على الطائفية والتفرقة بين أجزاء الشعب الفلسطيني.

وقد عبّر عن هذه السياسة عضو الكنيست من حزب الليكود «يريف ليفين» عام 2014، حيث نقلت عنه صحيفة «هآرتس» آنذاك قوله: «المسيحيون هم حلفاؤنا الطبيعيون، هم يُشكلون قوة مضادة للمسلمين الذين يُريدون تصفية إسرائيل من الداخل»، مما يُشير إلى رغبة إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة في تفتيت وبعثرة المجتمع الفلسطيني بالداخل المحتل وتمزيقه إلى تكتلات وطوائف، وإنهاء الانتماء القومي واستبداله بالانتماء الطائفي في كافة التعاملات والمعاملات الرسمية.

وهو ما يُشكل خطرًا جسيمًا على الرواية التاريخية والهوية القومية لفلسطينيي الداخل المحتل، كما يُشكل خطرًا على سكان المناطق الحدودية، إذ تعمد إسرائيل إلى استغلال أولئك الجنود لمتابعة التطورات العسكرية هناك ومحاولة ردع أي سبيل للمقاومة ومناهضة الاحتلال، مُعتمدة في ذلك على ما تبثه في عقولهم من أوهام المساواة في الحقوق المدنية الكاملة بينهم وبين مواطنيها اليهود.