في لقائي الأخير بالدكتور رضوان السيد ناقشته في فكرة وائل الحلاق في كتابه الدولة المستحيلة، فأعطاني مقالين، أو إن شئت فقل دراستين من دراساته، يقرأ في الأولى كتاب الحلاق قراءة أمينة، كما هو عليه في نفس الأمر. وفي الثانية وهي التي لم تُنشر في أي مكان بعد يفند فيها أطروحة الحلاق من كل جوانبها، مرتكزًا على الوعاء الفلسفي والفقهي إلى حدّ ما، وهو نفس المنهج الذي انطلق منه الحلاق.

قرأ في الأولى كتاب الحلاق قراءة أمينة لأن كتاب الحلاق تُجُوذِب من أطراف عدّة، فكلّ يقرؤه حسب قناعاته المسبقة، ومشروعه الفكري الذي يحركه، فكأن رضوان السيد أراد ما يُشبه تحرير المصطلح في البداية، حتى نعرف ماذا نناقش، وفيما نتكلم.

والغريبُ أنّ مقال رضوان السيد الذي يقرأ فيه الحلاق قراءة دقيقة استشهد به البعضُ على أنّ الرجل من مناصري أطروحة الحلاق، مع أنّ الرجل ما أراد سوى قراءته بصدق فقط، حتى ولو كان مخالفاً في نفس الأمر لأطروحته. وهذه دقيقة منهجية، تغافل عنها البعض، فالدراسة الثانية لرضوان السيد ستسدّ هذا الخلل.

ولكي لا تكون مقالات رضوان السيد عُرضة هي الأخرى للقراءة المنقوصة والمؤدلجة، استأذنته في تسجيل فيديو قصير له عن أطروحة الحلاق سيُنشر في إحدى حلقات هذه السلسلة القيمة التي استمتعتُ بها معه. ونظرًا لطول الدراستين فقد قسمناهما إلى عدد من المقالات كي تسهل قراءتها والاستفادة منها والرجوع إليها، واخترنا عنوانًا مناسبًا لكلّ منها.

والملحظ الأخير أننا هنا نعرض وائل الحلاق كما هو في نفس الأمر، ونعرض رضوان السيد كما هو في نفس الأمر، فلا يعنيني كباحثٍ أن يكون رضوان على حق أو الحلاق، بل الذي يعنيني هو معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، والحكم بوجودها تحقيقًا بالبراهين لا أخذًا بالظنّ والتقليد، أو الحدس والتخمين، وهذه غاية الفلسفة، بعبارة صدر المتألهين. أو بعبارة المفسرين في تعريفهم للتفسير: «هو معرفة مراد الله في نفس الأمر». فهذا هو فقه المنهج الذي نبغي من ورائه ترسيخ الفهم، والولوج إلى أعماق النصّ وأحشائه، لا الوقوف عند ظواهره، ولا ليّ عنقه وأدلجته. ثمّ في نهاية الأمر فليقرر القارئ صوابية وحقانية أيّ فريق شاء.

وفي المقال الأخير سأتناول فيه بالتفصيل موقف رضوان السيد من الحلاق بلغة سلسة بعيدًا عن التعقيدات اللفظية واللغوية والفلسفية، وأنقل عنه أقواله التي لم يذكرها في المقالين المتتابعين، في صورة سؤال وجواب، كما دار الحوار بيني وبينه. وأترك القلم للدكتور رضوان السيد الآن في هذه القراءة الماتعة.


حول حلاق ورؤيته

ولد مؤلف الكتاب وائل بشارة حلاق في الناصرة في فلسطين عام 1955 من أسرة مسيحية، وتخرج في جامعة حيفا ثم انتقل إلى جامعة واشنطن للحصول على درجة الدكتوراه. يعتبر وائل حلاق من أهم المتخصصين في الدراسات الإسلامية في جامعات الغرب اليوم. «وائل حلاق» باحث كندي (من أصل فلسطيني ) مختص بدراسات الفقه الإسلامي، وأبرز مؤرخ للفقه وأصوله في حقل الإسلاميات الأكاديمية في الغرب اليوم. فقد درّس في جامعة ماكغيل المرموقة في كندا بين عامي 1985 و2009، ثم انتقل إلى جامعة كولومبيا في نيويورك أستاذاً للإنسانيات والدراسات الإسلامية في قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا.

ألف حلاق عشرات الكتب والمقالات حول تاريخ الشريعة الإسلامية وفلسفتها وما يرتبط بها من علوم بشكل عام، علاوة على الفلسفة الإسلامية وما يرتبط بها من علوم بشكل عام، علاوةً على النظرية السياسية، وقد جعلت منه أعماله الجادّة مرجعاً لدارسي الفقه وأصوله ونظرياته، وخاصّة في العالم الأنغلوفوني. ومن إصداراته السابقة: «الفقه والنظريات الفقهية في الإسلام الكلاسيكي والوسيط» 1995، «تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام» (1997) ، «نشأة الفقه الإسلامي وتطوره» (2005)، و«السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفكر الإسلامي» (2007).

تمثّل كتاباته مساهمة معتبرة في موضوعاتها فهي تثير الذهن للتفكير في قضايا وأفكار قد تعتبر بديهيات أو مسلّمات. فهو في أول مقالة أكاديمية له، يرفض المقولة الشائعة في الكتابات الإسلامية والاستشراقية على حد سواء؛ من أن «باب الاجتهاد قد أُغلق»، ويذهب إلى القول من خلال متابعة تاريخية ونصية إن هذه المقولة لا تمثّل الواقع الفعلي في تاريخ الفكر الإسلامي، كما كان تحدي السائد والمسلّم به في الأدبيات الغربية حول الإسلام مجالاً مفضلاً لحلاق للاشتباك مع الاستشراق.


الدولة المستحيلة

الكتاب الذي نراجعه نُشر بالإنجليزية في نوفمبر 2013 ونقل إلى العربية في أكتوبر 2014. ومحاولته هذه تُعتبر تجديدًا في دراساته وبحوثه. وهي تشبه دراسات نقاد الأيديولوجيات الاستعمارية مثل إدوارد سعيد وطلال أسد، لكنها تتميز بالعمق المقارن الذي لم تعرفه بحوث الآخرين (وقارن بدراسة برتران بادي القديمة: الدولتان في الغرب والإسلام).

يقول المؤلف في مقدمة كتابه إن أطروحة هذا الكتاب بالغة البساطة: مفهوم «الدولة الإسلامية» مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة. فحتى بداية القرن التاسع عشر، ولمدة 12 قرنًا قبل ذلك كان قانون الإسلام الأخلاقي، المعروف باسم الشريعة، ناجحًا في التفاعل مع القانون المتعارف عليه والأعراف المحلية السائدة، وغدا القوة القانونية والأخلاقية العليا التي تنظم شئون كل من الدولة والمجتمع. وكان هذا القانون نموذجيًا (Paradigmatic)، بمعنى أن المجتمعات والسلالات التي حكمها قد قبلته كنظام مركزي للقواعد العامة والعليا. وكما يقول جون رولز، فإن الشريعة كانت قانونًا أخلاقيًا أنشأ «مجتمعًا جيد التنظيم» وساعد على استمراره.

لكن مع بداية القرن التاسع عشر، وعلى يد الاستعمار الأوروبي، تفكك النظام الاقتصادي – الاجتماعي والسياسي الذي كانت تنظّمه الشريعة هيكليًا، أي أن الشريعة نفسها أُفرغت من مضمونها الأخلاقي والقيمي واقتصرت على تزويد تشريعات قوانين الأحوال الشخصية في الدولة الوطنية الحديثة بالمادة الخام. وحتى في هذا النطاق الضيق فقدت الشريعة استقلالها ودورها كفاعل اجتماعي لمصلحة الدولة الحديثة، وأضحت الحاجة إليها مقتصرة على إضفاء الشرعية على مشروعات الدولة التشريعية من خلال اشتقاق مبادئ معيّنة من الشريعة، وهي مبادئ أُعيد تشكيلها وإنتاجها لمواءمة ظروف العصر الحديث.

ويرى حلاق أن لدى أغلب المسلمين رغبة في عودة الشريعة بشكل أو بآخر، لكن في سياق حديث، لكن ذلك ينطوي على معضلة. فقد قبل المسلمون بمن فيهم كبار مفكريهم بالدولة الحديثة كأمر مفروغ منه، وكحقيقة طبيعية. وهم يرون أن الدولة القومية، وهي ظاهرة حديثة غير مسبوقة كعنصر تكويني من مكوّنات الدولة الحديثة، قد دشنت وأطلقت عبر الدستور الإسلامي (صحيفة المدينة)، الذي وضعه النبي محمد في المدينة المنورة قبل 14 قرنًا. كما يعتبرون أن مفاهيم المواطنة والديموقراطية وحق الاقتراع من إنجازات المجتمعات الإسلامية المبكرة.

ويواجه المسلمون اليوم تحدي التوفيق بين حقيقتين: الأولى هي الوجود الحقيقي للدولة وحضورها القوي الذي لا يمكن إنكاره، والثانية هي الحقيقة الديونطولوجية المتمثلة في ضرورة استعادة شكل من حكم الشريعة. ويزيد من صعوبة هذا التحدي أن الدولة في المجال الإسلامي لم تقم بالكثير في سبيل إعادة تهيئة أي شكل مقبول من حكم الشريعة الأصلي.

وخير شاهد على ذلك، المعارك الدستورية للإسلاميين في مصر وباكستان، وفشل الثورة الإيرانية كمشروع سياسي وقانوني إسلامي، وخيبات أخرى مماثلة. مع ذلك تظل الدولة الحديثة التي لا تتعارض مع تطبيق الشريعة هي القالب المفضل للإسلاميين والعلماء المسلمين والإخوان المسلمين.

وإذ يعتبر الإخوان المسلمون في وثيقة لهم عام 2011 أنه لا تعارض للدولة (المدنية أو القومية) مع الشريعة الإسلامية، فإن الكاتب يرى أن التناقض وارد بالتأكيد، وأن أطروحة كتابه توضح أن أي تعريف لدولة إسلامية حديثة، متناقض ذاتيًا بصورة جوهرية، وأن المسلمين يمثّلون اليوم نحو خمس سكان العالم وهم يعيشون في العصر الحديث وهم جزء من مشروع الحداثة.

وأطروحة الكتاب هي أن ذلك التناقض الذاتي الأصيل في مفهوم الدولة الإسلامية الحديثة يقوم في الأساس على مأزق الحداثة الأخلاقي. وعلى الرغم مما للسياسة والاقتصاد من ارتباط وثيق بهذا التناقض، فإنهما ينبعان من هذا المأزق الأخلاقي، ما يعني أن حل تلك التناقضات كقضايا أخلاقية يفضي بالضرورة إلى حل المشكلات السياسية والاقتصادية.

إن التناقضات الجوهرية في أي مفهوم لدولة إسلامية حديثة، بحكم التأثير القوي للدولة الحديثة، لا تلتقط الطيف الكامل لما يوصف بـ«أزمة الإسلام الحديث» فحسب، بل تنطوي أيضًا على الأبعاد الأخلاقية لمشروع الحداثة في عالمنا من البداية إلى النهاية. وعلى هذا الأساس – يقول حلاق – فإن هذا الكتاب هو مقال في الفكر الأخلاقي أكثر من كونه تعليقًا على النواحي السياسية أو القانونية.

ويوضح الكاتب أنه لشرح أطروحته يجب عليه أولًا أن يصل إلى وصف ما يسميه «حكمًا إسلاميًا نموذجيًا» و«دولة حديثة نموذجية»، وهو ما سيتناوله الفصلان الأول والثاني على التوالي. فالفصل الأول وعنوانه «مقدمات»، يرسم حدود مفهوم «النموذج» لأنه مفهوم مركزي في الأطروحة الكلية للباحث. يرسم الفصل الأوّل مفهوم «النموذج» كما سيجري استخدامه بوصفه مفهومًا مركزيًّا في أطروحة الكتاب الكلية.

ويسعى الفصل الثاني، وعنوانه «الدولة الحديثة»، إلى تحديد خصائص الشكل الذي يمثّل الصفات الجوهرية للدولة الحديثة. ويقول حلاق إنه سيقوم بتفكيك هذه الخصائص لأغراض تحليلية. ويصف الكاتب في هذا الفصل «الدولة الحديثة النموذجية» ويقوم بتفكيك خصائصها، معترفًا بالتغيرات المتزامنة والتنوعات المتلاحقة في تكوين تلك الدولة.

في الفصل الثالث وعنوانه «الفصل بين السلطات: حكم القانون أم حكم الدولة؟» يناقش الإرادة السياسية وحكم القانون فيما يخص مبدأ الفصل بين السلطات وتطبيقه، هادفًا من وراء هذه المناقشة إلى استعراض الأطر والبنى الدستورية لكلٍّ من الدولة الحديثة والحكم الإسلامي، وتسليط الضوء على الاختلافات الدستورية بين نظامَي الحكم هذين.

أما الفصل الرابع فهو بعنوان «القانوني والسياسي والأخلاقي»، ويسلط الضوء على الاختلافات الدستورية بين نظامي الحكم في الدولة الحديثة والحكم الإسلامي. واعتمادًا على هذه الاختلافات، يستكشف الباحث معنى القانون وعلاقته بالأخلاق. ويؤكّد هذا العرض الفلسفي أساسًا الاختلافات النوعية بين المفهوم الأخلاقي للدولة الحديثة والحكم الإسلامي. ويتحوّل في الجزء الثاني من الفصل الرابع إلى عرضٍ ذي طابع سياسي. وستتعزّز هذه التباينات القانونية-الأخلاقية بفعل التباينات السياسية كاشفةً عن مجالٍ آخر من عدم التوافق بين الدولة الحديثة والشريعة.

والفصل الخامس بعنوان «الذات السياسية والتقنيات الأخلاقية لدى الذات»، ينتقل من المستوى الكلي إلى المستوى الجزئي، ومن أنظمة التفكير والسياسة إلى عوالم الذات والذاتية. ويرى الكاتب في هذا الفصل أنّ الدولة القومية الحديثة والحكم الإسلامي يميلان إلى إنتاج مجالين مختلفين من تكوين الذاتية، وأنّ الذوات التي ينتجها هذان المجالان النموذجيان تتباين تباينًا كبيرًا، الأمر الذي يولّد نوعين مختلفين من التصورات الأخلاقية والسياسية والمعرفية والنفسية والاجتماعية للعالم.

وتلك الاختلافات العميقة بين أفراد الدولة القومية الحديثة ونظرائهم في الحكم الإسلامي إنّما تمثّل التجليات المجهرية المصغّرة للاختلافات الكونية المادية والبنيوية والدستورية، وكذلك الفلسفية والفكرية.

والفصل السادس بعنوان «عولمة تفرض حصارها واقتصاد أخلاقي»، فيبحث الأشكال الحديثة للعولمة ووضع الدولة في هذه الأشكال المتعاظمة القوة. ويحاجج حلاق في أنّ الأشكال الحديثة للعولمة ووضع الدولة في هذه الأشكال المتعاظمة القوّة، يكفيان لجعل أيّ صورة من الحكم الإسلامي إمّا أمرًا مستحيل التحقّق، وإمّا غير قابل للاستمرار على المدى البعيد، هذا إذا أمكن قيامه أصلًا.

وبعبارة أخرى، يصل المؤلف إلى نتيجة مفادها: إذا جرى أخذ كلّ العوامل في الحسبان، فإنّ الحكم الإسلامي لا يستطيع الاستمرار نظرًا للظروف السائدة في العالم الحديث.

أما الفصل السابع والأخير، وعنوانه «النطاق المركزي للأخلاقي»، فيبحث مآزق أخلاقية حديثة، مع الإشارة إلى أسسها المعرفية والبنيوية، بصفتها تؤسس لأصل الأزمات الأخلاقية التي واجهتها الحداثة في كل صورها الشرقية والغربية. ويتفحص الكاتب هذه المآزق الأخلاقية الحديثة مع الإشارة إلى أسسها المعرفية والبنيوية بصفتها تؤسّس لأصل الأزمات الأخلاقية التي واجهتها الحداثة في كلّ صورها الشرقية والغربية.