ربما لا نستطيع أن نجزم إلى أي مدى يكون الأديب ابن بيئته وظروف نشأته وعصره، فربما يتخطى أديب ما كل هذا؛ فيسبق عصره أو يخرج بأدبه عن نطاق بيئته المحيطة إلى العالمية، وربما التزم بما تمليه ظروف عصره وهموم مجتمعه، ولكن ما يستحق التوقف في تأمل أديب مثل «مصطفى صادق الرافعي» ذلك الجانب الذي يجهله أو يتغافل عنه كثير ممن تناولوا شخصية الرافعي وأدبه.

لقد حاول الرافعي طيلة حياته الأدبية الالتزام بما تمليه ظروف العصر، ووحي قلمه الذي تقطر منه البلاغة والفصاحة والجزالة، مشدودًا إلى هموم مجتمعه ومشكلاته بخيوط الواجب، ودوره الإصلاحي الذي كلف به نفسه دون إشفاق، ربما نبع ذلك الالتزام والإحساس بالمسئولية تجاه المجتمع من عائلته التي كثر بها القضاة، ومنهم والد الرافعي، لكنه مع هذا كله لم يكن يستمتع بفعل ذلك، كما يستمتع كل أديب بالتعبير عما يحسه ويلمس روحه.

فلم يكن الرافعي محبًا للقيود بل كان ضائقًا بها؛ ولم يكن ملتزمًا بمواعيد عمله في المحكمة الشرعية، كما يحكي تلميذه «محمد سعيد العريان» في كتابه «حياة الرافعي»، ويكفي أن نشير إلى هجره الشعر بعد أن أصدر أكثر من ديوان في بداية حياته الأدبية، أَلِأنَّ النثر أطوع أم أنه قد ملَّ قيود الشعر فألقاها إلى غير رجعة، إلى أن دق قلبه بحب «مي زيادة»؟

اقرأ أيضا:جبران ومي: حب صادق على الورق

لقد كتب الرافعي في تلك الفترة ثلاث رسائل؛ «رسائل الأحزان»، و«السحاب الأحمر»، وأخيرًا «أوراق الورد»، والتي سرح فيها بخواطره وخياله إلى أبعد مدى، حتى ليخيّل إلينا أن من يكتب ليس الرافعي الذي نعرفه جيدًا؛ فلقد راح الرافعي يبث فيها خواطره وأشعاره عن الحب والجمال، ولا نبتعد عن الصواب إذا قلنا إن أوراق الورد خواطر شعرية خالصة؛ فهي ما بين منثور يبوح بشاعرية المعنى والإيقاع الداخلي؛ مثل قوله: «يا زجاجة العطر، اذهبي إليها، وتعطري بمس يديها، وكوني رسالة قلبي لديها».

وما بين شعر خالص تقليدي يذوب من فرط الرقة والعذوبة، كما في قوله:

ألا ليت لي قلبين: قلب بحبه || مريض، وقلب بعد ذاك طبيبي وكيف بقلب واحد أحمل الهوى || عجيبًا على طبعي وغير عجيب فو الله إن الحب خير محاسني || و والله إن الحب شر عيوبي

وهنا يتضح أحد ملامح شخصية الرافعي الحائرة بين ما هو مفروض واقع، وبين ما يجب فعله؛ فلقد سبق الرافعي جميع المجددين في أوزان الشعر العربي وقوافيه بإعلان ضيقه من قيود الشعر، ولكنه لم يقدر على مخالفة تقاليد الشعر العربي المتوارثة، ولا العبث في النمط التقليدي المقدس للقصيدة العربية عند المحافظين من الأدباء.

وكانت أهم مظاهر حيرة الرافعي تتجسد في علاقته بالمرأة؛ فلقد كانت تلك الفترة التي لمس الحب فيها قلب الرافعي، أكثر الفترات خروجًا عما رسمه الرافعي لحياته، التي تتسم بالجدية؛ لذا فإنها الفترة التي يمدحها ويذمها، في صراع نفسي ذاتي، يفوق في عذابه عشقه لـ«مي»، ولعل ذلك يتضح من بعض رسائله إليها في «أوراق الورد» إذ يقول:

تريدين أن أكتب أوصاف الألم وفلسفته؟ ألا فاعلمي أن آثارك فيَّ هي كتابي إليكِ … لا … لا، بل سأتكلم عن أخرى مثلك هي … هي الحياة

نعم؛ إن ألمه ما يكتبه هنا في تلك السطور من وحي وجدانه، لا من وحي القلم وسطوره المحددة، الألم عنده هنا حيرة وتناقض داخلي، وصراع كان الرافعي في غنى عنه، وبخاصةٍ بعد أن أبعده الصمم عن أغلب مهاترات الحياة منذ صغره.

لم يكن موقفه من الحب فقط، هو الدليل الوحيد أو الباعث الوحيد لحيرته، وصراعه – كما أسلفنا- بل إن ذلك يبدو أيضًا في تداخل الأجناس الأدبية لديه؛ من شعر وقصة ومسرح، ولا نقصد بذلك التنويع بين هذه الأجناس، ولكن نقصد التداخل بينها؛ مثل تداخل بعض خصائص الشعر في المقال، أو القصة، وفي ذلك – خلاف ما ذكرنا في أوراق الورد- أمثلة كثيرة، منها قوله وقد استخدم اللغة الشعرية في مقاله «وحي القبور»؛

أحمل نفسي بنفسي إلى المقبرة، وقد مات لي من الخواطر موتى لا ميت واحد؛ فكنت أمشي وفي جنازة بمشيعيها؛ من فكر يحمل فكرًا، وخاطر يتبع خاطرًا، ومعنى يبكي، ومعنى يبكى عليه

ونراه في مقال آخر، يسرد لنا نوعًا من الصراع الذي يصلح أن يكون صراعًا مسرحيًا من الطراز الأول، أو لنقل صراعًا دراميًا، يتناسب أكثر مع قصة أو رواية، وهو الصراع الداخلي في نفس امرأة راقصة، ولكنها تصلي!. ويظهر هذا التناقض الذي يخلق ذلك الصراع الدرامي في وصف هذه المرأة، الذي تظهر بوادره في تفسير الرافعي لموقف هذه الراقصة المصلية، فيقول:

وهي في رقصها إنما تفسر بحركات أعضائها أشواق الحياة وأفراحها وأحزانها، وتزيد في لغة الطبيعة لغة جسم المرأة، وكأن الليل والنهار في قلبها؛ فهي تبعث للقلوب ما شاءت ضوءًا وظلمة.

ولنا أن نقول إن ذلك التداخل إنما يشير أيضًا إلى تمكن الرافعي وقدرته -بقصد أو بغير قصد- على خلق هذا التداخل الممتع، من كاتب متميز، عاش مخلصًا لمجتمعه، منشغلًا بهمومه ومشكلاته، مستخدمًا كل ما يملك من قدرات إبداعية فذة، مقيدًا إلى الواجب، محاولًا الفكاك من أعباء النمطية المقيتة، التي طالما سعت روحه المبدعة للتخلص منها، ما بين وحي القلم ووحي وجدانه؛ ليبقى قامة شامخة في تاريخ آداب العربية على مر العصور.