بدأت قصة الحضارة على الأرض منذ أن غادرت الكائنات الحية الماء وتنفست الأكسجين الهوائي ومشت على السطح الصلب. كانت تلك هي مرحلة التطور التي شكلت مسار تاريخنا الكبير. ولكي نحافظ على هذه الحضارة التي استغرق نموها ملايين السنين سنعود مرة أخرى للماء.

عانى مختلف بقاع الأرض من دمار موجات التسونامي –كلمة يابانية بمعنى أمواج الميناء- والزلازل المدمرة. زأر البحر الأبيض المتوسط في قلب الإمبراطورية الرومانية عام 365 ميلادية ليدمر قرى جزيرة كريت وامتد نحو قبرص وليبيا حتى قتل ما يقرب من 50 ألف مصري على السواحل، وصب ويلاته على الإسكندرية خاصة. لم تكن تلك هي المرة الأخيرة بالطبع لهذا النوع من الكوارث الذي قتل ربع مليون إنسان وشرد مثلهم.

مع تطور المعرفة واكتشاف «خط النار» للأماكن النشطة جيولوجيا وظهور علوم الزلازل والمحيطات، حاول البشر جاهدين اكتشاف علامات ولو على استحياء تمكننا من ترقب غضب الطبيعة القادم، لكن الماء يحجب عنا الكثير.

لهذا كان من الضروري أن «نتعمق» كثيرا، أكثر مما تتوقع.


إلى الماء نعود

يتعذر فهم طبيعة قشرة الأرض وقلبها في المناطق المغطاة بالمياه؛ لأن وسائل القياس المستخدمة على الأرض تعتمد على ثبات أجهزة القياس. تتسبب حركة المياه في التأثير على الطاقة التي تقوم أجهزة الاستشعار بتسجيلها، فيصيب النتيجة بتداخل خطر لا يسمح لنا بالثقة في النتائج.

على كوكب يغطي الماء 70 بالمائة منه احتاج علم الجيوديسيا – علم تقسيم الأرض بشكل عام وليس المصطلح الإغريقي المحدود- لقياسات أدق حتى يتمكن من تحديد الحركات الخفيفة لأرضية المحيطات، والتي عادة ما تتراكم أو تشير إلى حدث جيولوجي ضخم في الأفق. في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ظهر الاعتماد على موجات الصوت في القياسات البحرية بدلا من الإشعاع الكهرومغناطيسي.

في السباق الذي شارك فيه العديد من الدول وقادته اليابان والولايات المتحدة (هاواي وكاسكاديا)، واقتحمته تشيلي مؤخرا، يستمر تطوير المجسات المحيطية وتطوير حساسيتها وقدراتها. في كاسكاديا نجد الجهد الأحدث لشركة باروساينتيفيك ومؤسسها رائد الأعمال جيري باروس.


جواهر تحت الماء

قد تكون اعتدت رؤية الكوارتز في الحلي جميلة الشكل، لكن الكوارتز كبلورة له جانب خاص جدا، فالكوارتز يمتلك خاصية تسمى بالكهربية الانضغاطية Piezoelectricity. طبقا لهذه الخاصية تقوم بعض المواد (خاصة البلورات والسيراميك) بتوليد تيار كهربائي عندما تتعرض للانضغاط أو تنضغط عندما تتعرض لتيار كهربي.

تم اكتشاف هذا السلوك للكوارتز على يد بيير وجاك كوري عندما استطاعوا قياس شحنة على سطح البلورة بعد تعريضها للضغط. من الجلي أن هذه الخاصية أبدت نفعا كبيرا للعمل تحت الماء، وهو الأمر الذي استغلته غواصات الحرب العالمية الأولى، وبني السونار على أساسه.

في القرن الحادي والعشرين نبتعد قليلا عن التطبيقات المدمرة ونحاول استخدام مجسات الكوارتز في قضايا حاسمة أيضا، لكن موجهة لإنقاذ الأرواح بدلا من إزهاقها. وهي التقنية التي يعتمد عليها جيري باروس في شبكة مجساته الجديدة.

قامت شركة باروساينتيفيك paroscientific بصنع الكثير من المجسات المعتمدة على الكوارتز والكهربية الانضغاطية لشركات البترول الكبرى، الأمر الذي لا يعد خاصة أو مختلفا بحد ذاته. لكن المشروع الجديد للمؤسسة هو ما ينطوي على التجديد الجذري.

يريد باروس صنع شبكة ضخمة من المجسات البللورية التي تستطيع قياس التغيرات شديدة الخفة في ضغط الماء على عمق عدة كيلومترات لمراقبة حركة المياه وتقييم إذا ما كانت تتجه نحو كارثة أم لا. لهذا المشروع تبرع باروس بما يصل إلى مليوني دولار لجامعة واشنطن لتقوم باختبار مجساته الجديدة في شمال غرب المحيط الهادي.

بمجسات باروس يصبح من الممكن التفرقة بين الحركات البريئة والحركات الكارثية لقشرة الأرض.


الهادي ليس هادئا تماما

تمتد منطقة انخفاض كاسكاديا من شمال جزيرة فانكوفر على شواطئ كندا لشمال كاليفورنيا الأمريكية في المحيط الهادي. تعد هذه المنطقة قنبلة موقوتة ضخمة رغم ظهورها بمظهر المحيط المسالم، حيث إن انخفاض كاسكاديا هو منطقة تلاقٍ ثم انغراز لأربع صفائح تكتونية Subduction Zone.

عندما تتلاقي صفيحتان تكتونيتان تبدأ إحداهما في الانحناء والانغراز عمقا في وشاح الأرض mantle بينما تتحرك الأخرى لأعلى. مع حركة كل من الصفيحتين في اتجاهين متقابلين وزيادة تصادمهما فإنهما ما إن يتحررا من بعضهما حتى تنطلق كميات رهيبة من الطاقة مؤدية لأكثر موجات الزلازل والتسونامي عنفا.

لذا يقبع الساحل الشمالي الغربي بأكمله في مرمى نيران منطقة انخفاض كاسكاديا وخطرها الذي يواجه العلماء مشكلة عميقة في تقديره. حتى الاّن لا تستطيع المجسات الأرضية التقاط أي نشاط للمنطقة مما يعني أن الكارثة ستكون مفاجئة، لأن الأبحاث نفسها تشير لاحتمالات ضخمة لحدوث كارثة طبيعية في المنطقة. يأمل باروس أن مجساته ستعطينا عيونا قريبة جدا من الانخفاض، مما سيعطينا فرصة لرؤية مستقبل المنطقة.

لطالما استعادت الطبيعة توازنها بعد كارثة طبيعية تلو الأخرى، لا نتمتع كبشر بهذه الرفاهية بعد أن أصبح لدينا الكثير لنفقده، ومن ثم لدينا الكثير لنقوم به للحفاظ على الأرواح وعلى المدن. مع الفهم المتزايد لطبيعة المواد التي نمتلكها وطبيعة الكوكب الذي نحيا عليه، يمكننا أن نصمد قليلا في وجه الكوارث إذا قدمنا الاهتمام الكافي والموارد المادية المطلوبة. لن تتهاون الطبيعة في الرد على إنكارنا لقدرتها وتكاسلنا في حماية أنفسنا من غضبتها.

المراجع
  1. Seafloor Pressure Sensor