تمر عملية تصنيع أي منتج بسلسلة من الخطوات التي يستلزم كل منها عناية واهتمام من عدة زوايا. رغم بزوغ الثورة الصناعية في أوائل القرن التاسع عشر، لم تظهر مفاهيم «ضبط الجودة» و«ضمان الجودة» إلا بعد أن اتسعت رقعة الإنتاج وتضخمت لتبدأ الأسئلة المتعلقة بالجودة والكفاءة في طرح نفسها بقوة، الأمر الذي يمكن تتبعه إلى بدايات القرن العشرين.

آنذاك لوحظ أن ما يقرب من 25% من إنتاج المصانع قد يتم التخلص منه أو إعادته للمصنع بسبب رداءة جودته، الأمر الذي يمكن تقليصه لواحد بالمائة فقط بواسطة تطبيق مفاهيم الجودة.

حينها التقت المفاهيم الإحصائية بالاقتصاد ونشأت أرض متوسطة بين احتياجات المستهلك بما فيها الكفاءة والسعر المنفض وبين تحقيق أعلى هامش ربح للمنتج. هنا نتعرف على مفهوم ضبط الجودة Quality control وعلاقته بضمان الجودة Quality assurance وتأثيره علينا على الاقتصاد المشترك بيننا جميعًا من منتجين ومستهلكين.

تعلقت مشكلة مفاعل «فوكوشيما» النووي بتجاهل معايير الجودة أكثر من تعلقها بمخاطر إنتاج الكهرباء بواسطة الطاقة النووية.
ديميتريس تشورافاس

مادية بحتة

رغم ظاهر الأمر فإن الجودة لم تنشأ كمفهوم إنساني يقوم فيه المنتجون بصنع أشياء ذات جودة مرتفعة لتحقيق «راحة» العميل، بل أتى العمل طبقًا لمعايير الجودة هادفًا لتحقيق أقصى مستوى مبيعات ممكن بأقل كم من الأموال المهدرة يمكن تحقيقه.

نتحدث عن أموال مهدرة من منظور المنتج. هذه الأموال تشمل:

  • دفع تعويضات لعملاء قاموا بمقاضاة المنتج بسبب خلل في المنتج.
  • إعدام شحنة من المواد المصنعة أو إعادتها للمصنع وعدم بيعها لمعدم ملاقاتها لمعايير الأمن والسلامة.
  • انخفاض مستوى المبيعات سواء لخلل في المنتج المصنوع أو خلل في منتج آخر مصنوع من نفس الشركة أو توافر منتج آخر متفوق في جودته.

وغير هذا من المواقف التي لا تصب في مصلحة المنتج أبدًا، يطلق على هذه المعضلات معًا اسم «تكلفة الجودة السيئة» COPQ. ومع أن تطبيق معايير جودة أعلى تأتي في طياته كلفة أكبر، إلا أن معايير الجودة الأقل عادة ما تكون ضامنًا أكبر للفشل في المبيعات في شركات الصناعات الأضخم. لذا بدأت الصناعات المختلفة في وضع رؤيتها لنظم تطبيق الجودة من خلال ثلاثية جوران Juran.

بما أن الجودة تتعلق في جوهرها بالمبيعات، فإن المستهلك أو العميل هو العامل المحدد لمعظم السياسات التي تتخذها الشركات والمصنعون في عملية تحقيق معايير الجودة. لهذا نجد أن من أولى مهام الخطوة الأولى في الثلاثية «التخطيط للجودة» يكمن في تحديد احتياجات المستهلك، كيفية إرضاء المستهلك بإنتاج هذه الاحتياجات وبالطبع كيفية تحديد العملية الصناعية التي ستقوم بالإنتاج المطلوب.


يوتوبيا صناعية

تعتمد أنظمة ضبط الجودة TQM أو total quality management، كما يطلق عليها اليابانيون أصحاب الريادة في تطويرها، على فكرتين محوريتين هما «تقليص الهدر» و«المقارنة».

تأتي فكرة تقليص الجهد والوقت والمواد المهدرة في قلب عملية ضبط الجودة. أنت لا تريد عملية صناعية تتكون من 60 عملية منفصلة لأن كل عملية أو خطوة ستقوم بإهدار جزء من المواد المستخدمة بطبيعة الحال وهو ما يعد تكلفة بحد ذاته تتبع تكلفة COPQ. ولا تريد أيضًا أن تقوم بعملية مبالغ فيها فتقوم بإنتاج مادة مصنعة تفوق احتياجات الطبقة المستهلكة التي تستهدفها أنت وأيضًا تفوق المقابل المتوقع دفعه كمقابل المنتج. هنا نحتاج أرض وسط.

تتوافر هذه الأرضية الوسيطة من خلال نظم ISO. تعد أيزو أو International organization of standardization تجميعة ضخمة من الترتيبات القياسية القومية لأكثر من 150 دولة. أتت فكرة هذه الخطوة من أجل تقريب معايير الجودة في مختلف البلدان لتسهيل التجارة العالمية بينها.

بعد تنفيذ كل المحاولات الممكنة لتقليل الهدر ورفع الجودة وتقليل التكلفة –بترتيب أولويات كل منتج- يأتي دور المقارنة بين الوضع المستهدف والوضع القائم الذي تم تحقيقه منذ أن تم تحديد الهدف، القياس وتحديد الفارق، تحديد الإجراءات التي سيتم تنفيذها، تنفيذ الإجراءات ثم في النهاية إعادة القياس وتحديد التغير الحادث.


ضبط مقابل ضمان

يأتي مصطلح ضبط الجودة Quality Control كثيرًا مع مصطلح ضمان الجودة Quality assurance لكن ليس مرادفًا له. بالطبع يمكن دمج الفكرتين في منظومة كبيرة لكنهما في ذاتيهما منظوران مختلفان ومراحل متباينة من تحقيق الجودة.

يتعامل ضبط الجودة مع المنتج النهائي من حيث صفاته ومقارنتها بحدود الأمن والسلامة وأدائها في القيام بوظيفتها ومدى ثباتها واستقرارها. فيما يحاول ضمان الجودة تصميم عملية صناعية تقوم بطبيعتها بضمان خروج منتج يمتلك الكفاءة المطلوبة كحد أدنى، يعني ذلك أن ضمان الجودة هو وضع مخطط صناعي يحتوي على أقل هدر ممكن، أقل فرصة ممكنة لافتقار المنتج لجودته.

يظهر هنا أنه فيما يتركز ضبط الجودة في مرحلة بعد نهاية التصنيع وقبل الطرح في الأسواق، تتشعب معايير ضمان الجودة وتنتشر في أنحاء العملية الصناعية بأكملها لتجعل من كل خطوة خطوة رشيدة في موقعها تتسبب في أقل ما يمكن من الهدر والتلوث وتعطي أعلى نتائج.


قليل من الإحصاء، كثير من المعلومات

تحدثنا حتى الآن عن الأفكار العامة التي تطبق على أساسها أنظمة الجودة في مختلف الصناعات. تختلف التفاصيل التنفيذية لكل صناعة –أدوية أو أغذية أو برمجة أو بترول مثلا-بحسب تخصصها وطبيعة الشريحة التي تستهدفها من المستهلكين. مع هذا فإن طريقة النظر للنتائج عادة ما تكون على أساس رياضي ثابت مستمد من علم الإحصاء.

فيما تقوم كل صناعة بجمع المعلومات المستخدمة في ضبط وضمان الجودة بطريقتها الخاصة، تتم معالجة هذه المعلومات ليتم استخراج ما بحوزتها من معلومات وانطباعات تنعكس عن العملية الصناعية لتعطي صورة واضحة لمدى كفاءتها. هنا تأتي مفاهيم مثل المتوسط والوسيط والتباين وبالطبع الانحراف المعياري.

لنفترض أن لدينا عددًا من القيم الرقمية هي 1 و2 و3 و4 و5 و6. يألف الكثيرون منا مصطلح «المتوسط» أي مجموع هذه القيم مقسوما عددها، بحيث يكون المتوسط هنا هو (1+2+3+4+5+6) /6.

أما الوسيط، فهو الرقم وسطي القيمة بين القيم الموجودة، وبما أن عدد الأرقام زوجي فنحصل على رقمين وسطيين هما 3و 4.

يعني «النطاق Range» المسافة بين أعلى قيمة وأقل قيمة من القيم التي نتولاها بالدراسة، وتأتي أهمية هذه الفكرة في القياسات التي تتطلب إعادة إجرائها عدة مرات لتحديد ما اذا كانت الفوارق بين نتائجها تدل على خلل في القياس أم أنها فوارق دقيقة. نضيف على ذلك أهمية فكرة النطاق في تحديد أعلى وأقل قيمة مقاسة لخاصية ما في منتج ما تحافظ على كونه ضمن نطاق الجودة والأمان. إذا كنت من المنتمين لصناعة الأغذية فإن النطاق سيساعدك في معرفة أقل وأعلى تركيز ممكن للملح يمكنك استخدامه على سبيل المثال.

يحاول «التباين Variance» أيضًا معرفة مدى دقة طرق القياس أو أن الخاصية المقاسة متجانسة وموحدة في عينات المنتج المختلفة. تنبع قيمة التباين المعرفية في معرفة مدى ابتعاد القيم الرقمية المختلفة عن قيمة الوسيط. إذا زاد الابتعاد ظهر أن الخاصية ليست متجانسة في أرجاء العينة أو العينات مما يسترعي الانتباه وطبعًا يؤدي العكس لمزيد من الثقة في المنتج.

في النهاية إذا قمت بجمع التباينات المختلفة وأخذت متوسطها فإنك تكون قد حصلت على الانحراف المعياري. ما إن نقوم بتجميع هذه المعطيات الحسابية، يصبح من السهل استخدامها في وضع رسم توضيحي يبين لنا بدراسته المكثفة أماكن القصور والهدر في العملية الصناعية.

مع الاعتراف بالخلل والقصور الواضح في تطبيق معايير الجودة في المجتمعات المتخلفة اقتصاديا وارتباط ذلك بالتأخر في الاهتمام بمعايير التطوير والبحث research and development، إلا أن أقسام الجودة تمتلك القدرة على وضع منتج معين في بؤرة الحدث الاستهلاكي فقط بالدراسة الجادة لوضع المنتج بالنسبة لوضع السوق واحتياجات المستهلك.

فبينما تنتشر فكرة «صناعة الاحتياج» في أسواق القرن الحادي والعشرين، يتبقى جزء يتعامل في منطقة الاحتياج الموجود مسبقًا وهو الأمر الذي يستوجب دراسة وتطوير مستمرين. وبالنسبة لسوق يفتقر للكثير من التخطيط ويمتلك الكثير من التخبط، فإن معايير الجودة تعد من يهتم بتطبيقها بالكثير والكثير.

المراجع
  1. Dimitris N. Chorafas: Quality Control Applications
  2. Amitava Mitra: Fundamental of quality control and improvment
  3. David Kealey, P J Haines: BIOS Analytical Chemistry