بزغت هذه الفكرة في رمضان قبل الماضي، حينها كان مسلسل «جراند أوتيل» ملء السمع والبصر، تتناثر المنشورات الإيجابية بشأنه على مواقع التواصل الاجتماعي كما الشظايا المضيئة المتناثرة من «أسلاك المواعين» المشتعلة تدور بها يد الأطفال في أمسيات رمضان.لم يعجبني المسلسل لكثرة ثغراته وبعده عن المنطق في كثير من الأحيان، غير أني لم أستطع تجاهل ظاهرة إشادة جمهور مواقع التواصل الاجتماعي بالعناصر البصرية، وتبادل الكادرات المنتقاة من المسلسل للتدليل على براعة الديكور، وبهاء الأزياء، وجمال المناظر الطبيعية، ودﻻﻻت الألوان. ثم جاء الموسم الحالي ليشهد توغل هذه الظاهرة ما بين عدد المسلسلات التي اعتمدت على عنصر الإبهار البصري من ناحية، وزيادة منشورات الجمهور من ناحية أخرى، وهو ما طرح سؤالا ذا شقين؛ أولهما عن الدافع وراء اتجاه المنتجين لاقتطاع جزء كبير نسبيا من ميزانية أعمالهم للإنفاق على مكملات الصورة، وبشكل خاص الديكور، وهو ما نجده بارزا في مسلسلات مثل «كفر دلهاب»، و«واحة الغروب»، و«خلصانة بشياكة»، أما الشق الثاني، فيرتبط بالجمهور نفسه ومدى تطور رؤيته لعنصر الصورة والإبهار البصري.وسعيا لاستظهار الأمر بشكل أوضح، قمت بإجراء حوارات منفصلة مع أربعة من أبرز النقاد الفنيين هم «محمود عبد الشكور»، و«رامي عبد الرازق»، و«محمود المهدي»، و«أندرو محسن»، سألتهم عن تعريف المنتج الفني أو الـ«Production Design»، عن عناصر الإبهار البصري ومدى أهميتها في الدراما، وغيرها من الأسئلة، وبدأت في تجميع الإجابات كما لو كانت مكعبات أحجية، لتكوين صورة كاملة أكثر وضوحًا.


من هو المنتج الفني؟

كان أول من تواصلت معه هو الناقد الكبير «محمود عبد الشكور»، أخبرته أنني بصدد كتابة موضوع عن الـProduction Design وأحتاج لرأيه الفني، فأجاب سؤالي بسؤال منطقي، «ماذا تقصد بالـProduction Design؟»وكنت قد قمت ببعض المجهود البحثي قبل التواصل مع النقاد الأربعة، وبحثت وراء مفهوم الـProduction Design أو الإنتاج الفني، فوجدت أن «المنتج الفني» هو الذي يشرف على الرؤية البصرية للعمل ككل، وكان من السائد حتى عام 2012 تسميته بالـArt Director أو المخرج الفني، حتي قامت أكاديمية علوم وفنون الصور المتحركة، والمانحة لجائزة الأوسكار بتغيير الاسم إلى تصميم الإنتاج-Production Design. وهي جائزة مزدوجة تمنح لكل من «المنتج الفني»، و«مصمم الديكور».وعندما أجبت «عبد الشكور» بذلك بدأ في الحديث عما سماه «عشوائية المصطلحات»، وكيف أن الأعمال الفنية المصرية ﻻ تتفق على مسميات ثابتة وموحدة للعناصر الفنية المختلفة وراء الصناعة، سواء في السينما أو التلفزيون، وأن أقرب مسمي لهذا الوصف هو «المشرف الفني» والذي يندرج تحته العديد من المهام الفنية، مثل الديكور والأزياء والإضاءة، والتصوير وغيرها من العناصر التي تقع مسئوليتها في الأخير على عاتق مخرج العمل نفسه، ولهذا ليس لدينا مسمى للمسئول الفني عن العناصر البصرية للعمل سوى المخرج.لم تختلف إجابة محمود مهدي كثيرا، حيث إنه اعتبر الـProduction Design هو كل العناصر المكونة للصورة من ديكور وأزياء ومكياج وغيرها، وعندما سألته عن المصطلح نفسه، أو ما يمكن أن نطلقه على المسئول عن هذا الرؤية، أجاب بنبرة ما بين الجد والسخرية؛ «ما نعرفش نشكر مين»أما رامي عبد الرازق فقد طرحت إجابته الأمر من زاوية مغايرة تماما، فمع اتفاقه على أن وظيفة «المنتج الفني» غائبة في الصناعة المصرية، إﻻ أنه أكد أننا يمكننا أن نجدها في مراحل أقدم حيث يقوم بها المنتج نفسه، وضرب مثالا بالمنتج «رمسيس نجيب»، فقال عنه؛

راجل عنده وجهة نظر فنية سواء في الموضوع اللي بيختاره أو في الممثل اللي بيقرر إنه ينتج له موضوع. وبناء على الرؤية الفنية دي بيبدأ تشكيل العمل فنيا ثم إنتاجيا

وأكد عبد الرازق أن الأزمة تكمن في العملية الإنتاجية نفسها، فقديما كانت هذه العملية تبدأ باختيار النص، سواء كان رواية أو قصة، بعدها يبدأ اختيار الممثلين وباقي العناصر الفنية المسئولة عن خلق هذا النص وصناعة منتج فني. أما الآن فما يحدث هو العكس تماما، حيث يتم اختيار الممثل، ثم اختيار النص الذي يليق بشخصيته وأدائه وذوقه الخاص، ثم أضاف؛

وبكده انت موّت فكرة المنتج الفني، ﻷن المنتج هنا جاب آخر طرف في العملية وخلاه هو الأساس.

«أندرو محسن»، الناقد الشاب، وعضو لجنة المشاهدة بمهرجان القاهرة في دورته المقبلة، يرى أن جودة الصورة هي مسئولية مشتركة بين المخرج ومدير التصوير، فقد يتوفر للعمل مصمم ديكور موهوب، لكن عمله قد يضيع هباء لتراجع مستوى مدير التصوير، أو المخرج الذي لم يستطع توظيف هذا العنصر الفني بالشكل الأمثل. وضرب مثلا بمسلسل «خلصانة بشياكة» فقال؛

الديزاين كان كويس جدا، لكن المخرج ماقدرش يستفيد بيه، على العكس من جراند أوتيل مثلا، المخرج قدر يوظف الديزاين بشكل ممتاز

الإبهار وحده ﻻ يكفي

قبل أن ألتقي بالناقد «رامي عبد الرازق» كنت قد طرحت عليه الموضوع في مكالمة هاتفية، فبادرني بقوله «مينفعش تتكلم عن الـProduction Design من غير ما تربطه بالمحتوى» فنبهني تعليقه إلى أحد الأسئلة الهامة التي طرحتها على النقاد الأربعة فيما بعد.

السينما هي الأقدر على نقل الثراء البصري

هكذا بدأ عبدالشكور إجابته، بأن عناصر الإبهار البصري في الدراما ليست مطلوبة لذاتها ولكنها مجرد مكملات، فمخرج الدراما يجب أن يهتم بالسرد وبالحوار، وليس بالرؤية البصرية، لأن ما يهم مشاهد التلفزيون هو الدراما وليس الصورة.وهو ما اتفق عليه عبدالرازق عندما أشار إلى أن الأعمال التلفزيونية قديما لم تهتم بعناصر الإبهار البصري ومع ذلك كانت ناجحة وقادرة على جذب المشاهد، يقول عبد الرازق؛

زمان مكانتش الصورة بالإبهار ده، وكانت الديكورات فقيرة جدا، ومع ذلك كان المحتوى قادر على إنه يغطي على الصورة ويجذب المشاهدين، لأن في النهاية المحتوى بيمس المتلقي أكتر من الصورة

محمود مهدي اتفق كذلك على أولوية المحتوى على الصورة في الدراما، وضرب مثلا بمسلسل «خلصانة بشياكة» الذي توفر له set، أو موقع تم بناؤه بشكل جيد، ومؤثرات محترفة تتناسب مع القصة الخيالية، لكن المحتوى لم يرق إلى جودة هذه العناصر، وأضاف؛

في أعمال تانية مش محتاجة، ومكملات الصورة ليس فيها ما يبهر، وده ﻻ يعيبها في شيء

أما أندرو محسن فذهب إلى أن العناصر البصرية تكتسب قيمتها من أهميتها بالنسبة للمشهد وهنا يأتي دور المخرج وتوظيفه لأدواته المختلفة، وضرب مثالا بمسلسل «هذا المساء» حين قال؛

الفاصل بين البيئة الغنية والبيئة الفقيرة، لما بيجيب الفيلا بتاعة أكرم عمره ما بيلف في المكان وﻻ بيحاول يبهرك بيه، لأنه مش مفيد في الدراما، لكن لما بيجيب البيئة بتاعة الحي الشعبي بيجيب تفاصيلها لأن ده مهم في الدراما.

ترقي المشاهد

كما ذكرت سابقا، ففكرة هذا المقال نبعت أساسا من ظاهرة تعليق المشاهدين علي عناصر الإبهار البصري، ومشاركتهم لأبرز الكادرات والمشاهد التي تحوي العديد من الصور المبهرة علي مستوى الألوان والديكور والأزياء وغيرها. ولهذا كان لابد أن أسأل عن المشاهد، ومدى محوريته في العملية الإنتاجية.أكد عبدالشكور أن التطور الحاصل في العناصر البصرية بالطبع سيرفع من ذائقة المشاهد، كما أن هذا الأمر يرتبط بشكل أو بآخر بالمنافسة بين السينما والتلفزيون، فبادرته بالسؤال عن هجرة بعض المخرجين السينمائيين إلى التلفزيون في السنوات الماضية، خاصة بعد تراجع إقبال الجمهور على السينما في السنوات التي أعقبت الثورة، فأجاب بالنفي، وأكد أنها هجرة قديمة ومتبادلة، وضرب مثالا بأسماء مثل «خيري بشارة»، و«علي عبد الخالق»، و«إنعام محمد علي».رفض محمود مهدي الجزم في هذا الأمر، فهو يرى أن المشاهد ترقى وأصبح على درجة أعمق من الوعي بالعناصر الفنية، ولكن هذا لا يمكن أن ينسحب على الشريحة العظمى من الجمهور، فأغلب المعلقين على مواقع التواصل الاجتماعي هم شريحة أكثر تقدما، وخاصة من هم في دوائره الخاصة بصفحته الشخصية على موقع فيس بوك، أو على قناته «فيلم جامد» على موقع يوتيوب، أو كما قال؛

الدواير بتاعتي أدفانسد أو متقدمة، ما أقدرش أحكم من خلالها على الجمهور ككل

أما عبدالرازق فيرى أن تلقي الفن هو أمر فطري بالأساس، لكن تلقي المشاهد للمستويات المختلفة داخل الفن، وفهمه لدرجة عمقها، هو ما يحتاج ثقافة، وقد شهدت الفترة الماضية تطورا في الثقافة الفنية لدى المشاهد، فكما يقول عبد الرازق؛

معظم الناس اللي ابتدت تلاحظ ده، هي ناس حصلت على قدر من الثقافة البصرية والدرامية من خلال متابعة أعمال أخرى أكثر نضجا وأكثر اكتمالا وأكثر إبهارا على مستوى الصورة، فبدأت تاخد بالها من التفاصيل، وبدأت تدور على المصطلحات

ويرى محسن أن الإبهار البصري قد ﻻ يكون مطلبا أساسيا بالنسبة للمشاهد، ففي حال وجود هذه العناصر ستلقى إعجابه بالتأكيد، ولكن في حال غيابها فلن يتأثر المشاهد، ولكن ذلك قد يتغير مع الوقت، فكما يقول؛


لماذا ينفق منتج الدراما على الصورة

مع الوقت ممكن ده يبقي مطلب المشاهد، لما أقدم حاجة كويسة لفترة طويلة الناس هتبتدي تاخد بالها لو المستوى قل

من الظواهر التي أكد عليها موسم الدراما الرمضانية هذا العام، أن العناصر الفنية المرتبطة بالإبهار البصري حظيت باهتمام بالغ من المنتجين، حيث شهدت مسلسلات مثل «كفر دلهاب»، و«واحة الغروب»، و«خلصانة بشياكة» بذخا ﻻفتا في الإنفاق على عناصر مثل الديكور والمؤثرات البصرية، وهو ما دفعني لسؤال النقاد عن هذا التطور الواضح في توجه المنتجين للإنفاق على مثل هذه العناصر الفنية التي سبق وأكدنا أنها تعتبر مكملة وليست أساسية في الدراما، ومدى ارتباط هذا التطور بتوجهات المشاهدين.يرى عبدالشكور أن أحد الأسباب المباشرة لهذا التطور تتمثل في منافسة المسلسل السوري، والتركي، والهندي لنظيره المصري، فقد شهدت السنوات الأخيرة انتشارا واسعا للمسلسلات الأجنبية المدبلجة في الفضائيات المصرية، وضرب مثالا بارعا بعام 2005 الذي شهد عملين دراميين أحدهما مصري والآخر سوري، عن شخصية الحاكم المملوكي «الظاهر بيبرس».وكان المسلسل السوري من إخراج «محمد عزيزية»، وتأليف «نعمان زكريا»، ومن بطولة «عابد فهد»، أما المسلسل المصري فمن إخراج «إبراهيم الشوادي»، وتأليف «طه شلبي»، وبطولة «ياسر جلال»، مع فارق كبير في جودة المنتج الفني لصالح المسلسل السوري.وعلى الرغم من أن تفوق المسلسل السوري لم يأت على مستوى الإبهار البصري، إﻻ أنه كان شاهدا علي قوة المنافسة وصعوبة التحديات التي واجهتها الدراما المصرية في هذا التوقيت، وخاصة المنافسة مع المنتج التركي ذي الصورة المبهرة، وهو ما يعتبره عبد الشكور أحد الأسباب المباشرة التي فرضت مستوى معينا على المنتج المصري، أو على حد قوله؛

المنافسة وضعت المنتج المصري في مأزق حقيقي

يتفق عبد الرازق مع هذا الرأي، ولكنه يرى أن الأمر لن يدوم طويلا، فالمنتج الفني يجب أن يهتم بكافة تفاصيل العمل بحيث تكون على مستوى النص أو محتوى العمل، وأن عناصر الإبهار البصري هي عناصر شكلية ﻻ تعدو كونها قشرة خارجية تكسو المحتوى، ومهما كان لهذه القشرة من بريق، فبدون محتوى قوي سيتحول العمل إلى كيان هش.ولهذا فهو يرى أن هذا الاهتمام من المنتجين لن يدوم طويلا، فعلى حد قوله؛

لأن اللي بيتقبله المشاهد السنة دي مش هيتقبله السنة الجاية، وده مثلا حصل في «جراند أوتيل»، و«ﻻ تطفئ الشمس»، كل العيوب اللي كانت موجودة في «جراند أوتيل» واللي الناس مكانتش شايفاها ومنبهرة بالمسلسل، هي هي موجودة في «ﻻ تطفئ الشمس»، والناس واقفة قدامها ومش عاجباها، لأن خلاص بقى في خبرات من سنة لسنة

أما محمود مهدي فاستشهد بمسلسلي «خلصانة بشياكة»، و«ريح المدام»، للتأكيد على أن الاهتمام بالصورة في الأول وإهمالها في الثاني، لم تحدث فرقا في النتيجة النهائية على مستوى حجم المشاهدات وتلقي الجمهور، كما أكد أن الأمر خاضع لتقدير المنتج في المستقبل، فكما يقول؛

المنتج هيقرر السنة الجاية هيعمل ايه، هيتعاقد مع مين، وهيهتم بالأبهار البصري وﻻ ﻷ

كانت رؤية أندرو محسن مقاربة لرؤية المهدي، حيث أشار إلى تصريح مدحت العدل بأن مسلسل «واحة الغروب» بلغت تكلفته 80 مليون جنيه، ويرجع جزء كبير منها إلى التكاليف الهائلة الخاصة بالديكور وبالقرية التي تم بناؤها خصيصا لهذا المسلسل، ويرى «محسن» أن مثل هذا البذخ الإنتاجي قد ﻻ يكون له مردود على مشاهد الدراما، فكما يقول؛

أنا شخصيا بختار «واحة الغروب» تقنيا كأفضل مسلسل، لكنه لم ينجح جماهيريا

وأخيرا يمكننا القول إن هناك تطورا ملحوظا، سواء على مستوى تنفيذ العناصر الفنية المختلفة، أو على مستوى تلقي المشاهد وهضمه للأعمال المعروضة من عام لآخر، وأيضا على مستوى الإنفاق الإنتاجي على مثل هذه العناصر، لكننا ﻻ نستطيع الخروج بنتيجة فاصلة فيما يخص هذا التطور، فكما يقول رامي عبد الرازق؛

الوضع متغير بشكل كبير من سنة لسنة ومن موسم لموسم، وممكن السنة الجاية نلاقي الوضع اتقلب تماما، هنوصل لغاية فين؟ لسه ما نعرفش، وإمتى؟ برضه لسه ما نعرفش، لأن دي حاجة مرتبطة بقاعدة عريضة من الجمهور، انت بتتكلم عن 50 مليون مشاهد بيتابعوا الدراما، فدي مش قاعدة هينة هتتغير تغير بسيط في اتجاه واحد، وده جمهور متنافر مختلف الثقافات والأذواق والخلفيات التعليمية والاجتماعية

ولكن ﻻ يسعنا في هذا المقام إﻻ رصد هذه الظواهر المتغيرة على مدار السنوات المتعاقبة، والتي قد تحمل تطورًا واضحًا بوصولها لنقطة استقرار في المستقبل، وهو ما حاولنا فعله في هذا التقرير لحين أن نلقاكم بتقرير مماثل العام المقبل.