هل تظنّ أننا حقًا ندرك حقيقة ما يجري؟

كانت تأتيك أخبار وفاة النشطاء، أخبار العثور على جثث بعضهم ملقاةً في صحراء أو خرابةٍ أو على جانب طريقٍ ما، والآن تأتيكَ أخبار وفاة معتقلين تحت التعذيب، ووفاة آخرين بسبب الإهمال الطبّي، وإصابة البعض بلوثات عقلية وبأمراض عصابية مُزمِنة بسبب التعذيب.

تقرأ الشهادات والشكاوى المتكرّرة عن تردّي الحالة الصحيّة والذهنية لأغلب المعتَقلين، تمرّ عليك استغاثات واستنجادات أهالي المعتقلين وهم يحكون صدماتهم وذهولهم المُقبِض من آثار ما رأوه على ذويهم في الزيارات الخاطفة المرتبكة، أو ممّا سرّبه لهم محامٍ أو ناشطٌ حقوقيٌ ما. ليظلّ السؤال القاسي يُعربد في العقول: ما الهدف من وراء ما يجري للمعتلقين السياسيين في مصر؟!

حسنًا، ثمّة خبرة «إنسانية» معيّنة، تراكمت عبر عشرات السنين الأخيرة ابتداءً من النازية، مرورًا بالفردوس السوفييتي الشيوعي، والشيوعية الصينية، وخبرات دول أمريكا اللاتينية، إذا استدعينا بعض ملامحها فيمكنك أن تمسك طرف إطار الصورة المُخيفة التي لا زالت تتوارى خلف حُجُب الاستبداد والقهر، وسيكون من حقّك – آنئذٍ- أن تتوقّع إمكانية معرفتنا بحقيقة بعضٍ ممّا يجري.

إنني أخاف، لكني لا أخاف من الضرب ولا من الموت، لكني أخاف أن أموت بين هؤلاء الناس. أريد بعد هذا الضرب المبرح أن أعود إلى السقيفة رقم خمسة. وأسلم الروح بين المرضى، فالموت بينهم سهل. ويخيل إلي أنه سيكون مريحا. عيناي مغلقتان أرى الذين ينازعون الموت في زاوية السقيفة رقم خمسة. أريد أن أختلط بهم وأن أموت معهم. إنهم عباد الله السعداء.
جنكيز ضاغجي، السنوات الرهيبة

معسكر «أومان»، واحدٌ من المعسكرات النازية التي كانت معدّة للأسرى السوفييت على تعدّد أعراقهم وأعمارهم، وهو كسائر المعسكرات النازية؛ يُلقى فيه البشر طبقًا عن طبق، ينتظرون أن يتخطّفهم الموت الذي يحومُ حول كل منهم، ويتمنّونه ولا ينالونه. في مأساويته «السنوات الرهيبة» يذكر الضابط القرمي الأصل السوفييتي الجنسية «جنكيز ضاغجي»، بعضًا من صور الإبادة الجماعية البطيئة الممنهَجة التي كان يمارسها النازيون ضدّ الأسرى السوفييت.

الأسير حيٌ طالما ظلّ جسدُه صامدًا منيعًا ضد الأمراض والبرد القارس والجوع والجنون والإرهاق، وطالما ظل سامعًا مطيعًا ذليلًا. وإلا فمصيره الانضمام لكومة المرضي في ركن أحد المهاجع ينتظر دوره في طابور الموتى، أو يُلقى في الجليد عاريًا ليتحوّل إلى كتلة متخشّبة وفق الوضعية التي لفظ فيها آخر أنفاسه، أو يتمّ جرّه ببساطة إلى غرفة أحد الضباط ويتم اغتصابه أو تعذيبه حتى يموت أو يملّ منه الضابط فيخرق رأسه برصاصة.

هكذا كانت تجري الأمور في ذاك المعسكر. في معسكرات أخرى، كان الأسرى يخضعون لتجارب رهيبة على سبيل البحث العلمي التجريبي، وقد أثمرت تلك الخبرة النازية الممنهجة نتائج علمية مذهلة ومربكة في الوقت ذاته، ولم يُكشف عن جزء كبير منها حتى اللحظة. لكن الأمر المؤكّد أنه ظهرت إعاقات نفسية غير مسبوقة لدى الناجين من هذه المعسكرات.

غير أن تلك الخبرة النازية (وإن كانت نُقِلت مُطوّرةً بعد ذلك إلى دول أوروبا الشرقية وإلى أفريقيا) تظلّ في سياق صراع عسكري بين دولتين، وبهدف نهائي صِفري يتمثّل في الإبادة بدرجة أو أخرى. وهو ما جعل الخبرات الأخرى التي تلتها، أكثر إيغالاً في المنهجية.


الفردوس الشيوعى

تطوّرت بعض النظريات العلمية الخاصة باضطراب الفصام الذهاني في القرن العشرين من خلال أطباء الاتحاد السوفييتي؛ حيث ابتكر «أندريا ستيزنفسكي» نظامًا تشخيصيًا جديدًا جعل من بين خصائص الاضطراب الفصامي: «وجود ميول إصلاحية» تجاه السُلطة.
د. نسمة عبد العزيز – ذاكرة القهر

«الفردوس الشيوعي» كان يستبطنُ جحيمًا لا يعرفه حقًا مَن لم يدخله.

إذا راودتك أفكارٌ حول السُلطة ومعارضتها أو إصلاحها، أو وجدتَ من نفسك إحساسًا بالفهم المتجاوز، ورغبةً في النشاط الحركي في هذا الاتجاه؛ فأنت مريض، أنت تعاني من خلل عقلي، وزبانية «الفردوس» يعرفون علاجًا للمساكين أمثالك. لا يعدو هذا المنطق أن يكون جزءًا من العقلية السياسية الاستبدادية التي سادت في الحُكم الشيوعي، والتي كانت تتعامل بمنهجية صارمة ومخيفة مع مواطنيها، موظّفةً كلّ شيء وأيّ شيء في هذا السبيل.

فمن بين أنواع اضطرابات الفصام الذهاني التي شخّصها «أندريا سنيزنفسكي»؛ اضطراب «الفصام البليد أو الراكد»، الذي حدّد خصائصه بـ: (الوعي المفرط بالذات، والشعور بالقدرة على استبطان الأمور، والسلوك العصابي، ووجود شكوك مُلحّة قهرية تسكُن الشخص، وصراعات أبوية تنسحب على السُلطة الأخرى، وأخيرًا: وجود ميول إصلاحية).

مثلت المصحات النفسية شديدة الحراسة نوع مختلف من السجون أودع فيها الكثير من السياسيين والمفكرين والمثقفين بدون محاكمات

بعبارة أخرى مباشرة: (أي ناشط سياسي مُعارِض هو مريض باضطراب الفصام الذهاني). وبالتالي هو «غير مسؤول عن أفعاله» قانونيًا، ولا بدّ من إخضاعه لإجرءات طبيّة إجبارية. وهكذا حفلت مرحلة السبعينات والثمانينات بإيداع الكثير من السياسيين والنشطاء والمفكرين والمثقفين – إجباريًا وبدون محاكمات – في نوع مختلف من السجون تمثّل في مصحّات نفسية شديدة الحراسة، لعلاجهم من «الضلالات السياسية» أو «الإصلاحية»، ومن الأفكار المضادة للنظام الحاكم.

من خلال التعذيب والعلاج الكيميائي المُضاعَف. التقارير والشكاوى تؤكّد أن كلّ من تعرضوا لهذه التجربة صار من المستحيل أن يعودوا أشخاصًا أسوياء. لقد أفسدوا صلاحيتهم للعودة لنمط الحياة الذي انتزعوهم منه.

ولا يمثّل هذا الإجراء القمعي المنهجي أكثر من خطٍ وسط عدّة خيوطٍ للخبرة السوفييتية التي انتهجتها مؤسسات النظام الشيوعي الحاكم، إزاء المعارضين من مواطني دولته. الأمر الذي حدث شبيهه، ولكن بشكل أكثر إرهابًا، في الصين الشيوعية.

الطبيب: أنت تعاني من ضلالات تجعلك تصدّق أن أناسًا أصحّاء يوضعون في مصحّات نفسية. المُعارض: أنا بالفعل موجود في مصحّة نفسية. الطبيب: هذا ما ذكرته لك تمامًا. إذا لم تكن مهيّأً للنقاش المنطقي حول حالتك فسوف تدور في دائرة مغلقة.
توم ستوبارد – مسرحية «كل ولد طيب يستحق المكافأة»

مثّل عِقد «الثورة الثقافية» الصينية البوليتارية العُظمى، التي دعا إليها «ماو تسي تونج»، في 1966م، واستمرّت حتى 1976م، مثّل خبرةً غامضة هائلة للممارسات الصينية القمعية المنهجية ضد المعارضين. ابتداءً من اتهامهم بتبنّي خطاب سياسي مضاد لـ (المجتمع!)، وهو ما يمثل سلوكا مناهضًا للثورة يستدعي إيداعهم منشآت «أنكانج» المعدّة خصيصًا لهم، وصولاً إلى نهايات مظلمة غير معروفة.

لا توجد حتى الآن تقارير كافية توضّح طبيعة ما كان يجري بالداخل؛ باستثناء بعض الإشارات الغامضة في تقارير الأطباء إلى مستويين مختلفين من المعارضين: «أعداء الثورة الحقيقيين»، و«مجذوبي السياسة»، وكان لكل منهما برنامجه الغامض المُعَدّ له.

غير أن هذا الغموض في خبرة الصين القمعية، انكشف في أواخر التسعينات، مع تنامي حركة «فالون جونج» الروحية ووصول عدد أتباعها إلى 70 مليون شخص، وهو ما أشعر النظام الشيوعي في الصين بالخطر، فقرّر حظر الحركة، وقبض على الآلاف من أتباعها وأودعهم السجون ومعسكرات العمل، وتم تعريضهم لممارسات تعذيبية ممنهجة (كالتقييد في أوضاع مؤلمة والضرب والصعق والحرمان من الطعام والنوم) بغرض إجبارهم على هَجر الحركة.

وبالنسبة للذين قاوموا وتحمّلوا، فقد تمّ إرسالهم إلى مصحّات نفسية وإعطاؤهم جرعات دوائية إجبارية مضاعفة نتجت عنها أعراض فقدان الذاكرة والضعف الجسدي وتدلي اللسان ونوبات تشنج وفقدان الوعي، وأحيانا الوفاة.

(لِنرَ أيهما أقوى؛ طقوسُكم أم علاجنا؟) كان شعار الحملة القمعية التي انتهجتها السُلطة وأذرعها الأمنية والطبية النفسية ضد مَن وقعوا تحت يدها من أعضاء حركة «فالون جونج» الذين كانوا يشكّلون بالنسبة لها مجرّد «خطر محتمَل».

وعلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية، شكّلت أنظمة الحكم العسكري في دول أمريكا اللاتينية (مثل: بيرو – تشيلي – أوراجواي – الأرجنتين – البرازيل)، خبرةً قمعية شديدة الكثافة والقوة والبأس والاستبداد، وصار لأطبائها – حسبما تؤكد د. نسمة عبد العزيز- خبرة ثمينة في التعامل مع الناجين والناجيات من تجارب التعذيب المروّعة وآثارها النفسية، بشكلٍ أفاد في زيادة الأبحاث والدراسات القادمة من هذه الدول.

كذلك، تجربة المعتقلين السياسيين في السجون المصرية أيام نظام مبارك، لا تقلّ خبرة وكثافة عن تجارب أقرانهم في الأنظمة القمعية في أمريكا اللاتينية. بل إن التجربة المصرية تنفرد عن غيرها بتلك الخصوصية المتمثلة في تشكيل خطر خارج السجون يتأثر علوًا وانخفاضًا بما يحدث داخلها.

(كان التعذيب مستمرًا لعدة سنوات متصلة لا من أجل انتزاع معلومات أو معرفة اعترافات جديدة حيث من الممكن منطقيا أن يكون مسوغًا للتعذيب، ولكن من أجل إحداث أكبر أثر من الإذلال النفسي بهدف تدمير الشخص داخليا تماما. فلا يستطيع أن يتعامل مع المجتمع فضلا عن أن يؤثر فيه).


مذكرات معتقل سياسي مصري

لا زالت تجربة الجماعات الإسلامية المسلّحة (الجماعة الإسلامية – الجهاد – الناجون من النار – طلائع الفتح وغيرهم) في الثمانينات والتسعينات، هي السبب الأبرز في وصول أجهزة الأمن التابعة للنظام القمعي الحاكم في مصر إلى أعلى نقطة في منحنى الخبرة، بتحقيق أقصى استفادة من الخبرات القريبة السابقة (النازية والسوفييتية والصينية والأمريكية اللاتينية)، مع إضافة خصوصية المواجهة الحيّة مع هذه الجماعات وحضور الإحساس بالخطر الملازم للأجهزة الأمنية وأفرادها.

هذه الخصوصية تميّز هذه التجربة عن التجارب السابقة الشبيهة في أمريكا اللاتينية، كما تميّزها بمراحل – بمقدّماتها ومنهجيتها وتوابعها- عن التجارب السابقة لجماعة «الإخوان المسلمين» في سجون عبد الناصر.

عمدت الأجهزة الأمنية إلي تبني منهجية وحشية وعنيفة في التعامل مع المعتقلين الإسلاميين قوامها تدمير المعتقل بدنيا ونفسيا وذهنيا

في البداية، خَلَت الممارسة الأمنية من المنهجية المؤثرة، فكانت تقتصر على القبض على عناصر الجماعات أو المشتبه فيهم، وتعذيبهم في أقسام الشرطة أو في مقرات أمن الدولة، قبل أن تلقي بهم في السجن، وتنكّل بهم بين الحين والحين. غير أنه، وكما ذكر الأستاذ «عامر عبد المنعم» في كتابه «شاهد على جرائم النظام المصري»، أعادت الجماعات تنظيم نفسها داخل المعتقلات وكوّنت ما يشبه مجتمعات مصغّرة قوّت من خلالها ارتكازاتها الأيديولوجية والاجتماعية بالداخل، وربطت ذلك بتوجيهات ترسلها للعناصر خارج السجون.

وزادت الأزمة بأن من تُفرج عنهم الأجهزة الأمنية، يخرج ويتوسّع في دعوته إلى فكره ويضم أفرادًا جُددًا، بل إن بعضهم يعود ويقوم بعمليات ضد الأجهزة الأمنية تحت تأثير الهجوم المتبادل الذي كان مندلعًا باستمرار بين الجهتين اللتين انغلقتا على تبنّي خيار العُنف.

أمام هذا الخطر الوجودي، عمدت الأجهزة الأمنية إلى تبنّي منهجية وحشية وعنيفة ومخيفة ومؤثرة في التعامل مع المعتقلين الإسلاميين داخل سجونها؛ قوام هذه المنهجية: تدمير الشخص المعتقَل بدنيًا ونفسيًا وذهنيًا، من خلال ممارسات صادمة متراتبة مستمرة غير منتظمة، في التعذيب والتنكيل والحِرمان والعَزل، تؤدّي إلى إفقاده الإحساس بالزمان والمكان، وإنهاكه جسديًا بشكل مستديم، وإفقاده الإحساس بهويّته، وتفكيك آدميته، وخلخلة منظومة عملياته الذهنية واستجاباته العصبية، وإعاقته نفسيًا وسلوكيًا، وإحلال الاضطراب الدائم محلّ كل شيء في حياته.

هو لن يقتل هذا المعتقل السياسي، بل سيعزله، ويفقده القوة والقدرة على التواصل مع المحيط الخارجي، ويحطم إحساسه بكيانه، ويفكك علاقاته بالآخرين، ويحطم شعوره بالاستقلالية، ويتلاعب بكافة تفاصيل حياته اليومية وخاصة البيولوجية، ثم يُحدث له صدمات نفسية متكررة ومدروسة تصل به إلى قناعة تامة بتمتّع معذّبه بقوة ومناعة فائقتين، وبأن مقاومته غير مجدية على الإطلاق.

استغرقت هذه المنهجية عدّة سنوات، توزّعت خلالها على مراحل، كل مرحلة منها يختص بها عدد من السجون (أبو زعبل مرحلة – وادي النظرون مرحلة – الوادي الجديد مرحلة وهكذا)، يُرحّل الشخص المعتَقَل من سجنه الذي أنهى فيه مرحلته التي قد تصل إلى عدّة سنوات، ليبدأ المرحلة التالية في سجن آخر، وهكذا.

وانتهت هذه التجربة العنيفة بنجاح ساحق للأجهزة الأمنية، تمثّل في كَسر الإرادة وروح المواجهة لدى الجماعة الإسلامية، وتحجيم العمليات المسلّحة للجماعة إلى أدنى حدّ ممكن، وإلجائها إلى المراجعات.

ولأن العقليات الأمنية تفضّل الحلول النماذجية الجاهزة، فقد لجأت إلى التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين «السلمية»، بل الموغِلة في «السلمية»، بنفس الطريقة التي سبق تسجيل نجاحها مع الجماعة الإسلامية “المسلّحة” من قبل، لمجرّد توهّم أن جماعة الإخوان تمثّل خطرًا وجوديًا مُحتَملًا!


المعتقلين السياسيين

نحن لا نحطم المارق لأنه يقاومنا، بل كلما استمر في المقاومة فإننا لا نحطّمه أبدا، نحن نقوم بتحويله، نقبض على عقله الباطن ونعيد تشكيله.
جورج أورويل – رواية 1984

«لو عاوزين يموّتوهم ما يموتوهم ويرحموهم، مش فاهمة همّ بيعملوا فيهم كدة ليه؟ دول بيقتلوهم بالبطيء». هكذا تساءلت ابنة أحد المعتقلين السياسيين من جماعة «الإخوان المسلمين» صارخة في حيرةٍ غير خافية الذهول. الإجابة المؤلمة على تساؤلها: أنّ هذا ليس قتلًا بطيئًا مقصودًا لذاته، بل هو كما تقول صاحبة «ذاكرة القهر»:

هكذا يتمّ الأمر إذًا، وكما جرى مع المعتقلين السياسيين الإسلاميين في عصر مبارك، يتمّ تدمير هويّة المعتَقل السياسي وكسر إرادته وسحق كينونته وتدمير بنيته المعرفية والنفسية وإخضاعه لإرادة الجلاد، وتنازله عن أفكاره ومبادئه، وجعله عبرة أمام المجتمع بما يكفي لإيصال رسالة ترويع لأفراده.

فمن كان قويّ الإيمان ثابت الجَنان، لا تضمن أن يظلّ كذلك. ومن كان قياديًا فذًا، لا يبدو أنه سيخرج من هذه العملية كذلك. ومَن كان عقليةً متفرّدة كُفؤة سيخسر كثيرًا من كفاءته العقلية. ومن كان قويّ البنية سيضعف وينحُل، بل رُبَما يُعوّق.

في الوقت ذاته، لا يستفرغ النظام وجلادوه جُهدَهم في الحفاظ على حياة المعتقل، وإنما يتعاملون مع الأمر بطريقة أقرب لطريقة النازية مع الأسرى الروس (يظلّ السجين حيًا طالما ظلّ جسدُه صامدًا منيعًا ضد الأمراض والبرد القارس والجوع والجنون والإرهاق، وطالما ظل سامعًا مطيعًا ذليلًا)! ما عدا ذلك، فمن قضى نحبه دون حقنة أو قرص دواء أو تشخيص خاطئ أو إهمال متعمّد، لا يُعَدّ بالنسبة لهم أكثر من أعراض جانبية للخطّة المنهجية المطوّلة؛ ثم إنّ هؤلاء الذين يموتون إهمالًا يقوّون احتمالية حدوث «كسر الإرادة» بسرعة أكبر.

العقلية العسكرية، وتبعًا لها العقلية الأمنية، لا تعرف في المواجهة سوى «كسر الإرادة» كهدف جوهري لا محيد عنه، وإن لجأت إلى إزهاق الحياة فيكون بمقدار يحقّق القدر اللازم من كسر الإرادة، لذا تتواصل ممارساتها المتنوّعة بهدف دفع الضحية إلى حافة الانهيار، حيث تتجمّد إرادتها تمامًا وتُشَلّ، وتصبح غير صالحة لأي شيء سوى مزيد من المعاناة.


السجون

ليس هدف الجلاد هو التخلص من حياة الشخص المعتقل، وإنما على العكس تمامًا، يحرص الجلاد على حياة المعتقل بعد كسر إرادته؛ كي يعيد إرساله إلى المجتمع مرة أخرى، وهو يعاني من آثار نفسية وجسدية مفجعة، تبعث الخوف الشديد في الآخرين، وتورثهم الرغبة في اتّقاء التعرّض لمحنة مشابهة.
هذا الليلُ يبدأ فابتدئ مَوتًا لحلمك، وابتدِع حلمًا لموتِكَ أيّها الجسدُ الصّبور، الخوفُ أقسى ما تخافُ
محمد عفيفي مطر – احتفاليات المومياء المتوحّشة – معتقل طُرة

«السجن مصنع البطولة»؛ في هذه الجُملة حُمولةٌ من الكذب والتضليل تنوء بها الكلمات؛ فمَن دخَله كمعتقل سياسي، سيُوضَع على «تراك» هذه المنهجية الوحشية المُخيفة، التي يندُر أن تصنع بطلًا، وإنما هي في غالب الأحوال تصنع مسخًا مهترئًا كامل التشوّه.

كلّنا يجدر به أن يعرف هذه الحقيقة. ولا يبقى إلا هذا السؤال التقريري: هل أدركتَ الآن ما يجري؟

يمكنك- بناءً على إدراكك هذا- أن تحاول إيجاد إجابة مناسبة على أسئلة مُؤرقة، من نوعية: أيهما أنسب؛ أن تحاول استنقاذ هؤلاء المعتقلين بطريقة أو بأخرى، أو أن تتركهم يواصلون مسيرهم القدري في هذه المنهجية المخيفة التي تمثل خط إنتاجٍ لا يُنتِج إلا مسوخًا بشرية مشوّهة؟!

لأن هذا ما يحدث الآن داخل سجون مصر.

المراجع
  1. ذاكرة القهر، للدكتورة نسمة عبد العزيز.
  2. الخروج من بوابات الجحيم، ماهر فرغلي
  3. تقارير بعض المراكز الحقوقية (النديم – ماعت – المنظمة العربية لحقوق الإنسان)