هذا المقال هو جزء من سلسلة مقالات تحاول دراسة القضايا الاجتماعية العالقة بمنهجية جديدة توسع آفاق البحث والنظر، وتتخلص من الأساليب التبريرية و«الترقيعية» التي لا تقدم تأصيلاً حقيقيًا للقضية، بل تضع في همها التخلص من أعباء النقد وضغوط الأعراف العلمانية السائدة في مجتمعاتنا المعاصرة، لا التحليل الموضوعي للقضايا [1]. وهذا المقال ليس في التأصيل الفقهي لمسألة تعدد الزوجات، بل هو محاولة في التأصيل الفكري والاجتماعي، وسأنطلق من مشروعيّة التعدد باعتباره مباحًا في الشريعة.

يستهدف المقال رصد فكرة تعدد الزوجات في السياق المعاصر، ويحاول الإجابة بشكل أساسي عن السؤال التالي: لماذا أصبحت فكرة تعدّد الزوجات مستهجنة إلا في سياقات ضيقة ملفوفة بالفقر والحروب والعنوسة والعقم والأرامل والمطلقات وما شابه من ظروف اضطرارية؟، وقد توصلتُ خلال الدراسة إلى نتيجة تُبين أن قضية التعدد مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتصور الإسلام العام عن الحياة والإنسان.

إن بعض حالات تعدد الزوجات التي تتم ممارستها اليوم ليست بالضبط كَسْرًا للتابو العلماني المفروض، ومنشأ قبولها هو أنها تستند إلى تقاليد مقبولة في بعض المجتمعات، أو إلى «علة» توجد دائمًا كمبرر للزواج الثاني. وهذه هي المساحة التي طرح فيها الكثير من «المدافعين» عن فكرة تعدد الزوجات في الإسلام مقولاتهم؛ إذ قاموا بتبرير التعدد بمنطق الحالات الاضطرارية التي ذكرناها، وهو منطق تبريري أكثر من كونه تأصيلاً حقيقيًا لفكرة التعدد في الإسلام. ومن المثير للدهشة والأسف في آن، أن الفكر الغربي قد وصل إلى تنظيرات تتحدث عن انتهاء دور الأسرة وأنها ليست أمرًا فطريًا، بل وعن إباحة تشكيل أسرة من رجلين!، هكذا بدون أي تلجلج أو خجل. بينما لا زلنا نحن نحاول -على استحياء- تبرير ما أباحه الإسلام كقضية «تعدد الزوجات» بحالات العوَز والحروب، وفي إطار المطلقات والأرامل و«العوانس»؛ أي نحاول «تجميل» أو «تبرير» تشريع إلهي كي لا يظهر «فجًّا» أمام الأعراف العلمانية السائدة في المجتمع!.

إن الخطاب «الإسلامي» المعاصر يتراوح بين حالتين: إما رفض التعدد والدعوة لتقييده بحجة تغير الأحوال وأنه كان مناسبًا لزمن مضى ولم يعدْ كذلك، وإما حصره وتأويل مشروعيته في الحالات الاضطرارية التي ذكرناها، دون ربطه بالتصور العام للإنسان في الإسلام. ومن الطريف هنا أن بعض ممارسي هذا الخطاب يهولون من عاقبة التعدد، وأن صاحبه «مجنون» ومُقدم على الهلاك، مستعيرين بعض النصوص التراثية الأدبية لتأكيد ذلك. وهو من حيث لا يدرون خطابٌ مُهين للمرأة؛ لأنه يصور لنا النساء وحوشًا ضارية ستنهش الرجل وتسوّد معيشته!، وكأنه لا يمكن أن تقوم في هذا العصر علاقة تعدد قائمة على التفاهم والأخلاق وسعة الأفق.


مساحة الحياة الزوجية في شخصية المسلم

نقطة الانطلاق الأساسية في هذا المقال هي النظر إلى المساحة الكبيرة التي تشغلها قضية «الحياة الزوجية» في عصرنا الراهن. فالملاحَظ أن المرتكز الأول الذي غير النظرة إلى قضية التعدد هو التغير الشديد في تلك المساحة؛ إذ كانت مساحة الزوجية في العصور الإسلامية الأولى وعبر قرون طويلة أقل بكثير مما هي عليه اليوم. هذا ما سأحاول إظهاره من خلال تسليط الضوء على بعض المظاهر الحديثة المرتبطة بمسألة الزواج؛ أي تلك العوامل المستحدثة التي دخلت في العصر الحديث ضمن قضية الزواج وضخمت من مساحة العلاقة الزوجية، والتي أعتقد أنها هي التي شكلتْ –بشكل أساسي- النظرة المعاصرة لقضية التعدد [2].

الزواج كحلم وقصة حب

ساهم الإعلام في رسم مسار معين لقضية الزواج عبر مختلف الوسائل؛ كالأفلام والمسلسلات والأغاني وغير ذلك، مما أنشأ مصطلحات مثل «فتاة أحلامي» أو «فتى أحلامي»[3]. ورغم إدراك الكثير من الناس لابتعاد السينما عن الواقع وهمومه، فإن فكرة «فارس الأحلام الذي سيأخذني إلى عش الزوجية» قد سيطرت على مخيلة الكثير من الفتيات، كما سيطرت فكرة «سندريلا التي أبحث عنها» على الكثير من الشبان. وقد ساهمتْ فكرة ارتباط الزواج بـ «الحب» (والقصد بالحب هنا تحديدًا الغرام والعشق الاحتياجي) بزيادة التأكيد على الثنائية فيه؛ إذ إنه من الصعب أن يكون هناك علاقة عشق بين حبيب وأكثر من محبوبة. واللافت هنا دقة التعبير القرآني الذي يحدثنا عن «المودة» و«الرحمة»، وهي معانٍ قابلة للتعدد، بخلاف العشق المرَضي.

فترة الخطوبة و«مشروع» الزواج

كانت هذه الفترة في العصور الأولى عبارة عن إعلان النية بالزواج، دون أن يصحبها ما نراه اليوم من علاقة خاصة، سواء قبل العقد الشرعي أو بعده، بين «حبيب» و«حبيبة»، يقضيانها بتوثيق العلاقة العاطفية، وببناء «مشروع الزواج»، وبتبادل الهدايا والساعات الطويلة من المكالمات والرسائل. وبالطبع لا ننسى «دبلة» أو «محبَس» الخطبة وما يرمز له (حتى على المستوى اللفظي في اللهجة الفلسطينية مثلاً) من ارتباط مصيري بينهما. وهذه كلها عناصر تدفع باتجاه زيادة المساحة المخصصة للعلاقة الزوجية الثنائية، إذا ما قارناها مع الزواج في العصور الإسلامية الأولى. وجميعنا يعرف مشاعر الرهبة التي تسيطر على الفتاة والشاب سواء عند الانهماك في خيار الخطبة، أو عند اقتراب «حفل الزفاف».

هذه المشاعر تتسق مع ما تم زرعه في وسائل الإعلام من كون قضية الزواج قضية «مصيرية» بل كونها «حلم الحياة» وأحد أسمى أهداف الإنسان. ويُضاف إلى ذلك سائر «الطقوس» الأخرى المتعلقة بالزواج مثل «ألبوم صور الزواج» و«شهر العسل» و«ذكرى الزواج»، وفي بعض الشرائح الاجتماعية يدخل طقس «اليوبيل» وغيره مما يساهم في زيادة المساحة المخصصة للحياة الزوجية بين اثنين، في المشاعر والفكر والحياة.

قاموس مصطلحات جديد

ثمة نقاش فلسفي كبير حول العلاقة الشائكة بين «اللغة» و«الفكر». وبما أنه ليس من مهمتنا في هذا المقال خوض هذا النقاش، نكتفي بالتأكيد على دور اللغة المستخدمة ومنظومة المصطلحات المهيمنة على سياق اجتماعي معين، في تدعيم فكرة أو اتجاه تفكيري معين، وفي ترسيخ الأعراف السائدة؛ أي أن اللغة تلعب هنا دورًا ثنائيًا مع القيم والأفكار؛ إذ تُنشئ القيمُ الجديدة لغةً جديدة، وتساهم هذه اللغة الجديدة في تمتين تلك القيم في المجتمع.

وسنتناول هنا بعض المصطلحات الرئيسية التي تدور حول قضية الزواج، ومدى مساهمتها في «عَرْفَنَة»[4] العلاقة الثنائية في الزواج، واستهجان فكرة التعدد.

– الوفاء والإخلاص: تأتي عبارة مثل «زوجك المخلص» كاستعارة لمفهوم الإخلاص في التوحيد في سياق الحياة الزوجية، ويتم النظر لأي توجه إلى امرأة أخرى، حتى لو كان في إطار شرعي، باعتباره قدحًا في هذا الإخلاص، وهل ثمة تهمة أخطر من «الشرك»؟!.

– شريك الحياة: وهنا يتم مجددًا التأكيد على «الشريك» الواحد، الذي لا يشارك المرأة فيه أحد، وكذلك على مشاركة الحياة، باعتبار أن الحياة هنا أصبحت «حياة واحدة» يتشاركانها، ولم يعد لكل منهما حياته الخاصة وطموحاته ومسؤولياته المنفصلة عن الشريك!.

– قفص الزوجية: ولا شك أنه يأتي في صياغة مجازية، ولكن هذه الصياغة وما يُبنى حولها من طرائف وقصص تشكل سردية كاملة ترسخ العلاقة الثنائية، حيث «العصفور» و«العصفورة» لوحدهما في «القفص».

– فتاة الأحلام: وهي صياغة تؤكد على فتاة «واحدة».

– تزوجَ عليها: هنا يُلاحَظ إدخال حرف الجر والضمير (عليها) ورائحة «الخيانة» التي تفوح منه، مع أنه لو قيل «تزوج» فقط لأفادت المعنى.


تعدد الزوجات والاستقلالية

إذا نظرنا إلى خطاب القرآن للفرد المسلم نجد أن قضيته الأساسية في الحياة هي قضية مستقلة عن الارتباط بالآخر: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (مريم: 95). {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} (النجم: 38). هذه الحقيقة التي يقدمها القرآن تؤكد على أن المساحة الرئيسية التي ينبغي أن يوليها الفرد المسلم أكبر الاهتمام هي مساحة سلوكه كفرد غير مرتبط بالآخرين، وهو ما يخفف من حدة الارتباط المصيري بين «الشريكين»، ومصطلح «الشريكين» يُنشئ انطباع الارتباط المصيري الذي لا يقبل شراكة طرف ثالث، إلى درجة يصبح فيها بعض الأزواج شيئًا واحدًا تقريبًا، وهنا تدخل حالات ارتباط الزوجة المصيرية بزوجها حتى في خياراته المنحرفة عن الجادة، والتي سيحاسب هو عليها. وهذا الكلام بطبيعة الحال لا ينفي المعيشة الطيبة والترابط {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} (البقرة: 187) والمودّة والرحمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21).

وثمة ما هو أبعد من ذلك؛ وهو أن منطق التعدد في الإسلام يؤكد –بخلاف ما قد يُظن- على مبدأ استقلالية المرأة وعدم ارتباطها المصيري بزوجها على مستوى الشخصية؛ أي لا تنطمس شخصيتها لصالح زوجها، بل تبقى لها مساحة واسعة من حياتها غير المرتبطة فيه: فكرًا وشعورًا وسلوكًا، باعتبارها إنسانًا له كيانه وذاته المستقلة [5]. هنا نجدُ الإسلام يؤكد في مستوى الممارسة على الاستقلال الاقتصادي للمرأة، ونجده يصر -بخلاف العادة الغربية الوافدة– على انتساب المرأة لأبيها لا لزوجها، وفضلاً عن آثار ذلك الاجتماعية فإن الإبقاء على نسبها المستقل هو مستوى رمزي فريد يؤكد على الشخصية المستقلة للمرأة؛ ومن ثم لم يعدْ التعدد ذلك «الغول» الذي سيجعل المرأة منكوبة باعتبارها خسرت «شريك حياتها»، فهي لم تخسره في الحقيقة، وكذلك لم تعدْ شخصية المرأة وكيانها مرتبطين ارتباطًا مصيريًا بشخصية الزوج. ولن يكون هناك مجال للحديث عن «نصف رجل»؛ لأنه فضلاً عن كون الرجل ليس قيمة زمنية حتى يُقاس بالوقت المخصص، فإن هذه الاستقلالية التي يمنحها الإسلام للمرأة لا تجعلها تعرف نفسها مُلحَقَةً بالزوج.

إن هذه الاستقلالية تؤكد على أن تعدد الزوجات يستند في منطقه إلى التصور الإسلامي للإنسان ودوره في الحياة؛ فالإنسان في هذا التصور هو ذلك «العابر» الذي يجتاز مرحلة الابتلاء الدنيوي، والقضية الأساسية في حياته هي النجاة الأخروية بطلب رضوان الله عز وجل، وهذا لا يعني اعتزاله للمجتمع والعلاقات، بل يعني ألا تطغى تلك العلاقات لتصبح ارتباطًا مصيريًا، بحيث يختل كيان المرأة وشخصيتها إذا تزوج رجل من امرأة أخرى، أو إذا طلق أحدهم زوجته (والعكس أيضًا). ولعل هذا ما يفسر «اعتيادية» ظاهرة كثرة الزواج والطلاق عند الصحابة، ولعله ما يفسر أيضًا ظاهرة المثلِّثات والمربِّعات من نساء الصحابة والصحابيات، حيث احتفظْنَ بكيانهن واتزانهن رغم المرور بكل هذه الزيجات والطلاقات، وهذا يجعلنا نربط منطق التعدد بالتصور الشامل للإنسان في الإسلام، لا تسويغه بحالات الاضطرار كالعقم والطلاق والأرامل وما شابه فقط، وإنْ كنتُ لا أنفي نجاعته في هذه الحالات.


بقي أن نقول كلمة موجزة عن إشكالات تعترض قضية التعدد، تُطرح كثيرًا في السياق المعاصر، رغم أن بعضها موجود منذ القدم:

العدل

يستند بعضهم إلى قضية العدل باعتبار أن المعدد لن يعدل بين أزواجه، رغم أن هذه الحقيقة مذكورة في القرآن في سياق يقر التعدد ولا يمنعه بسببها: {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} (النساء: 129)، وهذا ناشئ عن طبيعة النقص لدى الإنسان، الذي لن يستطيع الوصول للعدل المطلق كما هو العدل الإلهي، ليس في قضية الزواج فقط، بل في كل طاعاته وأعماله كما قال عليه الصلاة والسلام: «كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطًّائينَ التَّوَّابونَ» (الترمذي)، فالعدل البشري نسبي، ويختلف بمعاييره عن العدل الإلهي المطلق. وقد روى البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لرجلين اختصما عنده في المواريث: «إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحُجَّتِه من بعضٍ، فأقضي له على نحوِ ما أسمعُ، فمن قضيتُ له بحقِّ أخيه شيئًا فلا يأخذُه، فإنما أقطعُ له قطعةً من النارِ» (صحيح البخاري). هذا شأن نبي كريم، فما هو شأن البشر العاديين؟، ويميل الكثير من العلماء أيضًا إلى تفسير عدم القدرة على العدل في إطار المحبة القلبية التي لا سلطان للإنسان عليها، بينما هو مكلف بالعدل في الممارسة الحياتية، استنادًا إلى حديث ضعّفه جمْع من الأئمة ولكن قالوا إن معناه صحيح، وهو الحديث القائل: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم بيننا فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك» (رواه أبو داود وغيره).

الغيرة

الغيرة شعور فطري لا يمكن اجتثاثه، ولكن على ألا يطغى ويتحول إلى ممارسة سلبية. وبالنظر إلى الإسلام نجد أنه أقر الغيرة، ولكنه منع أن تطغى فتحول الحياة إلى نكد، وجعلها «غيرة إيجابية» محمودة. وبالجمع بين الأحاديث التالية سنجد أن ذمها يكون عندما تتحول إلى سلوك ظاهر يضادّ شيئًا أحلّه الله؛ ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها: «أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خرج من عندها ليلًا. قالت فغِرْتُ عليه. فجاء فرأى ما أصنع [سلوك ظاهر]. فقال: «مالكِ يا عائشةُ أَغِرْتِ؟». فقلتُ: وما لي لا يغارُ مثلي على مثلِك؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أقد جاءك شيطانُك؟». قالت: يا رسولَ اللهِ! أو معي شيطانٌ؟ قال: «نعم». قلت: ومع كلِّ إنسانٍ؟ قال: «نعم». قلتُ: ومعك يا رسولَ اللهِ؟ قال: «نعم. ولكنَّ ربي أعانَني عليه حتى أسلمَ» (صحيح مسلم). فالنفخ في أصل الغيرة وجعلها تطغى هو من فعل الشيطان. ونجد أيضًا فيما روي أنه «كانتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ، تشهدُ صلاةَ الصُّبْحِ والعِشاءِ في الجمَاعةِ في المسْجِدِ، فقيلَ لَها: لِمَ تَخْرُجِينَ، وقَدْ تعلَمينَ أنَّ عُمَرَ يكْرَهُ ذلِكَ وَيَغارُ؟ قالتْ: وما يَمْنَعُهُ أنْ يَنْهانِي؟ قال: يَمْنَعُهُ قولُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: لا تَمْنَعُوا إِماءَ اللهِ مساجِدَ اللهِ» (صحيح البخاري)؛ أي أن ضابط الغيرة هو ألا تطغى فتحرم ما أحله الله، بل تظل خلقًا فطريًا يحافظ على علاقة سوية. وعن المغيرة بن شعبة: قال سعدُ بنُ عُبادةَ: لو رأيتَ رجلاً مع امرأتي لضربتُه بالسيفِ غير مُصفِحٍ، فبلغ ذلك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: «تعجبون من غيرةِ سعدٍ، واللهِ لأنا أغيرُ منه، واللهُ أغيرُ مني، ومن أجلِ غيرةِ اللهِ حرَّمَ الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن…» (صحيح البخاري). وهو يؤكد أصل الغيرة الفطري، ولكن ينبغي التأكيد أيضًا على حق الزوجة في رفض أو قبول التعدد على المستوى الشخصي، تمامًا كما أن الزواج في الأصل مباح، ولكن إذا رفضَه شابٌ أو فتاة فهذا لا يعني استنكار حكم إباحة الزواج.

ضغوط المجتمع

تُطرح إشكالية ضغوط المجتمع كأحد أسباب الإحجام عن التعدد. والملفت في هذا السياق أن هذه الضغوط لا تقتصر على التعدد، وإنْ تفاوتتْ، فقد تحدى الكثير من المسلمين في عصرنا شتى أشكال الضغوط المجتمعية: تحدت الفتاة المرتدية للخمار والجلباب الفضفاض نظرة المجتمع لقيمة المظهر والملابس وقيل لها: هذا لباس العجائز!، وتحدت بعدم وضعها للماكياج قيم المجتمع «المبهرجة» أيضًا، وتحدى الشاب الملتزم الذي لا يحضر الحفلات المختلطة الكثير من العلاقات المجتمعية والأسرية، وتحدى الشاب الذي لا يتعاطى الربا قيم المجتمع الغارق في القروض الربوية، ونظرته إلى من يسكن في الإيجار، وتحدى الإغواءات التي يقدمها المجتمع من خلال بعض الأنشطة الشبابية التي التصقت بها قيم الرجولة عند الشباب؛ كقضاء الأوقات في المقاهي، ومرافقة الفتيات، وشرب الحشيش وغير ذلك. وإن تعدد الزوجات، كممارسة مباحة في الشرع، ليست بدعًا من ذلك، فهي تسير في نفس سياق التحدّي المفروض على المسلم في مجتمع ليس مسلمًا تمامًا في علاقاته وأعرافه وقيمه؛ أي أن منشأ هذه الضغوط ليس قضية التعدد بذاتها، بل ابتعاد المجتمع عن القيم الإسلامية، وارتباطه بقيم علمانية هي التي توجه أعرافه.


[1] انظر في السابق مقالي على إضاءات بعنوان: «قضية الزواج المبكر كمنتَج لسياسات الدولة الحديثة».[2] لم أتطرق في هذا المقال إلى دور الخطاب النسوي والعلماني المعاصر الذي يعارض التعدد وينشط لمكافحته؛ لأن المقال له أهداف لا أود تشتيتها، ولأنه دور مفهوم وشائع.[3] سنتحدث بعد قليل عن دور المصطلحات.[4] من كلمة «عُرْف».[5] من المثير للاهتمام هنا –إذا توفرت النصوص الموضحة– دراسة الكيفية التي كان نساء الرسول صلى الله عليه وسلم يقضين فيها أوقاتهن في غيابه، مع الفارق بين شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين شخصيات أخرى لا ترقى لمقامه الشريف.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.