تتسم حلول البشرية لمشاكلها بكونها مصادر لمشاكل جديدة دائمًا. على عكس الطبيعة فإننا نميل لأن نكون أحاديو المنظور لا نلتفت لما نصنع إلا بعد أن تتراكم العواقب فوق رءوسنا. حينها فقط نحاول الوصول لحلول تخفف من وطأة الموقف. بالطبع نحن نستمر في ذلك ما دامت القيمة الاقتصادية لمزايا الحلول تفوق القيمة الاقتصادية للتعامل مع الخسائر. ولا عزاء للطبيعة.

بعد أن شملت نهايات القرن العشرين وبدايات الواحد والعشرين مرحلة الاستفاقة من مخاطر الطاقة النووية والاهتمام بوضع بروتوكولات التعامل السليم مع مخلفاتها، نأتي الآن لمرحلة استفاقة جديدة تخص مادة من أكثر المواد المحيطة بنا عدم إثارة للاهتمام. وهنا تكمن الإضافة الجديدة للباحثة ومربية النحل الإسبانية فيديريكا بيرتوكيني.


طبق جديد

اعتادت بيرتوكيني التخلص من دودة الشمع التي تهاجم ألواح الشمع في خلايا النحل التي تحتفظ بها في معهد الطب الحيوي والتكنولوجيا الحيوية بكانتابريا في إسباني. أثار الأمر عجبها الشديد عندما تركت الدود في كيس بلاستيكي فترة لتعود إليه وقد ملأته الثقوب وهرب منه الدود.

قد لا يمثل الأمر حدثًا جللاً بالنسبة إليك إلا إذا كنت على دراية بمشكلة البلاستيك – هذا البوليمر الخامل والمؤرق للباحثين – مع كوكب الأرض. سبق وأن اكتشفت كائنات مجهرية قادرة على استهلاك البلاستيك كغذاء، لكن الأمر اصطدم بمشكلتين عرقلتا تعميمه كوسيلة للتخلص من البلاستيك؛ الكفاءة المنخفضة نظرًا لبلايين الأطنان من البلاستيك المراد التخلص منها ومجهرية الكائنات المستخدمة، وبالطبع التأثير الحيوي على هذه الكائنات التي يلقى إليها بكميات أسطورية من الغذاء قد تؤدي لعواقب وخيمة بالنسبة لنا وللبيئة.

لدى بيرتوكيني رد منطقي فيما يخص كلاً من هاتين المعضلتين حيث تحدثت عن أن أهمية اكتشاف أن دودة الشمع تستطيع التغذي على البلاستيك تكمن في أنه خطوة أولى على طريق اكتشاف «إنزيم» أو أكثر في أجسام يرقاتها يمكن فصله وبلورته ليصبح طريقة تحليل degradation كيميائية بدلا من حيوية.

إذا تمكنا من القيام بهذا التحول، سيكون هذا هو الخطوة الأكثر حسمًا وتأثيرًا نحو التخلص من سرطان أكياس البلاستيك الذي يثقل كاهل الكوكب وكائناته معه. إن تبسيط العملية لمركب كيميائي فعال يمثل ببساطة كل ما نحتاجه لصناعة ماكينات قادرة على تخليصنا من هذه الأطنان اللانهائية.

الفارق الأهم بين ما تستطيع دودة الشمع أن تقدمه والفصائل سابقة الاكتشاف التي تستطيع القيام بنفس العمل هو السرعة التي تقوم بها تلك الدودة بعملها، ففي مقابل البكتيريا والفطريات التي تستطيع هضم البلاستيك على مدى شهور وأحيانا سنوات، تقوم الفصيلة التي وجدتها بيرتوكيني بعملها في غضون ساعات مما يعد بمركب كيميائي قوي في إنزيماتها.


وحش أكياس البلاستيك الكاسر

عادة فإن الكوارث الطبيعية تصيب المرء بالهول والهيبة، البراكين النفاثة للنيران والأعاصير الهوجاء الضخمة. أتى عصر الثورة الصناعية بكوارث أبطأ وأقرب فصنعت قائمة الأمراض الجديدة والأمطار الحامضية. أما تهديد البلاستيك فهو من طبيعة أخرى، طبيعة راكدة.

يتم استخدام 500 مليار طن من الأكياس البلاستيكية سنويًا بمعدل مليون كيس كل دقيقة. يمثل هذا وجها واحدا من أوجه استخدامنا اليومي للبلاستيك. كذلك تمثل منتجات البلاستيك 90% من المخلفات في المحيطات لتتسبب في قتل ما يقارب المائة ألف من الثدييات المائية ومليون طائر مائي كل عام.

حتى الآن تتميز حلول هذه المشكلة بالبدائية نسبيا. تنقسم طريقة التعامل مع هذه المخلفات البلاستيكية إلى استراتيجيتين هما الدفن وإعادة التدوير. يمثل الدفن في مكبات النفايات Landfills الطريق الأسهل والأسوأ تأثيرًا على البيئة، حيث يتميز البلاستيك بقدرة رهيبة على البقاء غير متأثر ببيئته وعدم التحلل، مما يصنع ضغطًا رهيبًا على الكائنات الحية التي تعيش في محيط هذه المكبات كما يعتبر مضيعة للمساحات والطاقة.

أما الحل الثاني، فهو يوتوبيا إعادة التدوير التي لم تتحقق بكامل قدراتها بعد. للأسف فإن النسبة الكبرى من منتجات البلاستيك التي نستخدمها غير قابلة لإعادة التدوير وأهم أعضاء هذا الحزب هو أكياس البلاستيك التي- على عكس الورق – لا تعود بجودة رديئة فقط بل لا يمكن الاستفادة منها كثيرا بعد صهرها المستنزف لكميات طاقة هائلة.


التحلل الحيوي… ما هو؟

تحدثنا عن كائنات عدة تستهلك البلاستيك وبوليمرات عضوية أخرى كالشمع كغذاء. يعد المبدأ الأساسي لهذا النشاط أن البلاستيك وهو مادة عضوية مكونة في الأساس من الكربون والهيدروجين يتم تكسيره إلى جزيئات بسيطة. في حين تستخدم طاقة الروابط الكيميائية المكسورة من أجل الأنشطة الحيوية للكائن المجهري الذي يقوم بالهضم، فإن الجزيئات الصغيرة الناتجة عن هذا التكسير تعمل بدورها كمواد بناء يستخدمها الكائن في صنع مواد يحتاجها لحياته.

من المبهر أحيانًا ما تستطيع بعض البكتيريا والفطريات القيام به من المهام الشاقة ككسر مركب كيميائي حلقي ثم كسر الحلقة الواحدة منه لصنع شظايا. في حالة تمت هذه العملية في الهواء الطلق فإن العملية «الهوائية» تستغل نشاط مجموعة مركبات إنزيمية تعرف بالأوكسيجينيزات Oxygenases.

بالطبع يمكن لعملية التحلل أن تحدث دون الحاجة لأكسجين هوائي أو أن تحدث دون استخدام لإنزيمات، إلا أن النوع القائم على عمل الإنزيمات هو المجال الذي يعد بشكل أساسي بتطور حاسم وحل حقيقي لمعضلة تراكم البلاستيك.

كان اكتشاف البوليمرات أمرًا خاطفًا للأنفاس عند منشئه وعندما أصبحت مواد طيعة قابلة للتشكيل وتتأقلم مع درجة الحرارة صعودًا وهبوطًا – أي بلاستيك – حدثت طفرة في المنتجات الصناعية وكيفية تغليفها ونقلها. بالطبع مع سلوك البشرية الإدماني، اضطرت الأرض ومحيطاتها إلى أن ترزح تحت عبء هذه الأطنان من الأكياس والزجاجات الفارغة والعلب الفارغة.

مرة أخرى تبعث لنا هذه الطبيعة بطرف خيط الحل، سيشهد المستقبل بما إذا كنا سنتمكن من تتبعه أم لا؟