بمقتضى الصلاحيات الدستورية لجلالة الملك بصفته الساهر على احترام الدستور وعلى حسن سير المؤسسات والمؤتمن على المصالح العليا للوطن والمواطنين، وحرصًا من جلالته على تجاوز وضعية الجمود الحالية، فقد قرر أعزه الله أن يعين رئيس حكومة جديدًا شخصية سياسية أخرى من حزب العدالة والتنمية.
بلاغ للقصر الملكي لمغربي – 15مارس/آذار الجاري

حسم العاهل المغربي محمد السادس حالة الجمود التي شهدتها مشاورات تشكيل الحكومة علي مدار الخمسة أشهر الماضية حيث لم ينجح زعيم حزب العدالة والتنمية الحائز على المرتبة الأولى بانتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2017 عبدالإله بنكيران في تشكيل ائتلاف حكومي يمثل أغلبية برلمانية.

وهو الأمر الذي أثار غضب أنصار الحزب وجعل بعضهم يتجه للمطالبة بالانسحاب من الحكومة معتقدين أن ما حدث هو «انقلاب ناعم» يعطل مسيرة الإصلاح الديموقراطي في البلاد، بينما سارع بنكيران مساء أمس بإصدار توجيه لأعضاء الحزب بعدم التعليق بأي شكل من الأشكال على البلاغ الصادر عن الديوان الملكي.


لماذا فشل بنكيران في تشكيل الحكومة؟

http://gty.im/652142534

فور تصدر العدالة والتنمية الانتخابات الفائتة وبعد أقل من 48 ساعة قام الملك بتكليف بنكيران بتشكيل الحكومة الجديدة حسب ما ينص عليه الفصل 47 من الدستور المغربي، إلا أن المهمة لم تكن يسيرة أمام خريطة حزبية مليئة بالتناقضات وتوجس عدد من الأحزاب تجاه شخص رئيس الحكومة.

بنكيران الذي رأس حكومتين من 2011 – 2016 وجد صعوبة في كل مرة ربما أصعبها تمثل في انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة عام 2013 إثر انتقادات لاذعة موجهة لشخص بنكيران حول الاستئثار بالقرارات وتهميش مكونات الائتلاف الحكومي الذي تشكل من الرباعي العدالة والتنمية والاستقلال والحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية.

هذا الانسحاب لحزب الاستقلال الذي كان يحوز المركز الثاني وقتها وله 6 وزارات بالإضافة إلى رئاسة مجلس النواب أثار مخاوف من سقوط الحكومة خاصة أنه جاء بعد عزل مرسي في مصر وانحسار موجة الربيع العربي وتشبيه بعض المعارضين لبنكيران وسياساته بنظيره مرسي في إشارة لخلفيته الإسلامية.

رغم ذلك نجح بنكيران في تجاوز تلك المحنة عبر اجتذاب حزب التجمع الوطني للأحرار بزعامة صلاح الدين مزوار ومن ثم قام بتشكيل حكومته الثانية.

فور إعلان نتائج الانتخابات أكتوبر/ تشرين الأول الماضي والتي أشارت لتقدم كبير للعدالة والتنمية بحصوله على 125 مقعدًا إلا أنه نظرًا للنظام الانتخابي الذي لا يمكن حزبًا من أن يقوم بتشكيل الحكومة منفردًا لجأ بنكيران للأحزاب التي سبق التحالف معها فلم يجد صعوبة هذه المرة في الاصطفاف مع حزبي الاستقلال والتقدم والاشتراكية والحزب الأخير كان قد أعلن تحالفه مع العدالة والتنمية حتى قبل الانتخابات سواء في الحكومة أو المعارضة.

ضمن هذا التحالف 183 مقعدًا وهو رقم لا يكفي لتشكيل الحكومة التي تتطلب 198 مقعدًا على الأقل؛ لذا سعى بنكيران للتجمع الوطني للأحرار الذي أنقذ حكومته السابقة إلا أن المشاورات بينهما تأجلت بسبب الانتخابات الداخلية في الأخير والتي شهدت صعود رجل الأعمال ووزير الفلاحة عزيز أخنوش.

طلب أخنوش استبعاد حزب الاستقلال (الثالث) وفي نفس الوقت بدأ بتكوين جبهة من عدة أحزاب صغيرة، لكنها معا تمثل رقمًا صعبًا في المعادلة السياسية، وهو الأمر الذي أطلق عليه في الساحة السياسية المغربية بـ«البلوكاج» أي فرملة أي إمكانية لتشكيل ائتلاف حكومي.

أمام هذا المأزق لم يجد بنكيران المتمسك بحلفائه خاصة الاستقلال الذي رفض دعوة من الأصالة والمعاصرة (الثاني) بمراسلة الملك عدم قبول بنكيران رئيسًا للحكومة في محاولة لاستغلال ثغرة في الفصل 47 من الدستور التي تتيح للملك تعيين أي شخص من الحزب المتصدر للانتخابات دون إلزامه باختيار زعيم الحزب من حلول سوى استمرار الضغط على حزب الأحرار عبر مطالبته باحترام نتائج الانتخابات وفي المقابل انتقد أخنوش طريقة بنكيران في التفاوض.

الجدير بالذكر أن رجل الأعمال عزيز أخنوش والذي يشغل منصب وزير الفلاحة في حكومة بنكيران ينظر لأدائه هو ووزراء حزب الأحرار بالإعجاب من قبل الملك بل ومن قبل بنكيران نفسه.

كما يعد صديقًا مقربًا من الملك وغالبًا ما يصحبه في زياراته الخارجية، كما في جولته الأفريقية الأخيرة التي كان ينتظر بنكيران انتهاءها حتى ينخرط في مشاورات جديدة مع أخنوش إلا أن البلاغ الملكي كان أسبق منه.

يمكن القول إن بنكيران أضاع فرصة تشكيل الحكومة عندما عرض حزب الاتحاد الاشتراكي الذي احتل المرتبة السادسة بحصوله على 20 مقعدًا المشاركة في الائتلاف الحاكم بشرط حصوله على رئاسة مجلس النواب.

وهو الأمر الذي رفضه بنكيران لكون الحزب يأتي في مرتبة متأخرة ولرغبة بنكيران في تشكيل حكومة تحظى بأغلبية مريحة وتحقق متطلبات الكفاءة والانسجام إلا أن الحزب الصغير نجح في استغلال عدم وضوح المشهد السياسي على أحزاب أغلبية وأقلية ومن ناحية ثانية ضرورة عقد جلسات البرلمان للموافقة على القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي (وُقّع في توجو 11 يوليو/تموز 2000) ضمن إجراءات المملكة لاستعادة عضويتها به لحضور القمة التي عقدت في أديس أبابا قبل شهرين.

ليتم انتخاب الحبيب المالكي القيادي بحزب الاتحاد الاشتراكي رئيسًا لمجلس النواب بعدما أخليت له الساحة من كافة الأطراف فاضطرت أحزاب العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية للتصويت بورقة بيضاء بينما انسحب حزب الاستقلال وبدت باقي الأحزاب مرحبة ليس بالمالكي ولكن بعدم نجاح بنكيران.

على هذا النحو فقد بنكيران ورقة من أوراق التفاوض وهي رئاسة مجلس النواب لتتصاعد لاحقًا حدة التصريحات بينه وبين أخنوش حيث عبر قادة العدالة والتنمية عن انزعاجهم من لغة أخنوش وشروطه التي تجعله يبدو كما لو كان هو رئيس الحكومة.


من يخلف بنكيران؟

وقد أبى جلالة الملك إلا أن يشيد بروح المسؤولية العالية والوطنية الصادقة التي أبان عنها السيد عبد الإله بنكيران طيلة الفترة التي تولى خلالها رئاسة الحكومة بكل كفاءة واقتدار ونكران ذات
محمد السادس – بلاغ الديوان الملكي

تميزت العلاقة بين بنكيران والملك بالتفاهم الكبير والانسجام الذي لعب دورًا حاسمًا في استقرار الحكومة والبلاد والمضي قدمًا في خطط التنمية والإصلاح التي تبناها حزب العدالة والتنمية.

ورغم الشخصية الكاريزمية القوية والجافة أحيانا في مصادمة خصومه السياسيين إلا أن بنكيران اعتبر الملك هو مسطرته التي يتخذ بواسطتها مواقفه ودومًا ما افتخر الرجل بذلك ورأى في المسار الإصلاحي لحزبه مصلحة وطنية جنبت المغرب مصير دول شقيقة اتخذت مسار الثورات في مقارنة مع الربيع العربي.

لا يقف بنكيران وحده في ذلك بل تتمثل رؤية حزب العدالة والتنمية في الإصلاح التدريجي من الداخل وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح والرؤى الحزبية الضيقة، ربما من هذه الزاوية يفهم التوجيه الذي أصدره بنكيران أمس طالبًا من مناضلي حزبه عدم تناول البلاغ الملكي بأي شكل.

بنكيران كان قد أشار أكثر من مرة إلى استعداده تقديم استقالته والانسحاب أمام البيئة السياسية المأزومة خلال محطات تشكيل الحكومة غير المكللة بالنجاح حيث صرح في نوفمبر الماضي:

لن أخضع لابتزاز أي أحد ومستعد أن أعود إلى صاحب الجلالة وأن أجلس في بيتي

قبل أن يكرر الدعوة الشهر الماضي قائلا: «إذا اقتضي الأمر أن نضحي حتي برئاسة الحكومة لصالح الوطن فنحن مستعدون».

لذلك فإنه من المتوقع رغم تمسك الحزب خلال الفترة الماضية بزعيمه بنكيران مرشحًا وحيدًا وتأكيده على رفض دعوات استبداله بشخصية أخرى أن الحزب سيجد نفسه مضطرًا للانسجام مع البلاغ الملكي ومع عدم نجاح بنكيران في تجاوز العقبات الصعبة التي وضعت بطريقه، وسيقدم خلال الأيام المقبلة شخصية أكثر قبولاً تستطيع أن تجد حلاً يرضي الأطراف السياسية المتنازعة.

بالحديث عن خليفة بنكيران تظهر عدة أسماء تبدو مرشحة بقوة يأتي على رأسهم عزيز الرباح وزير النقل، وهو الوجه الأكثر قبولاً وقدرة فيما يبدو على تشكيل ائتلاف يقود الحكومة الواحدة والثلاثين في تاريخ المغرب المستقل، كذلك سعد الدين العثماني وزير الخارجية الأسبق والأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية والمفكر الإسلامي، ثم يأتي مصطفى الرميد الحقوقي الذي يشغل منصب وزير العدل والحريات.