إذا كان هناك شعراء كبار كأدونيس قد أجادوا صياغة القصيدة الملتزمة بالأوزان الخليلية، فإنهم قد أجادوا أيضا صياغة قصيدة النثر، وجرجروا على خطاهم كالعادة المفلسين الذين لا يتقنون قراءة الأوزان الشعرية، أو لا يعرفونها على الإطلاق، فراحوا يعطون –هنا وهناك- قصائد نثرية وانفصلوا بذلك عن تراثهم المقعَّد، وعما هو شعر بالمعنى الاصطلاحي.
كمال نشأت في كتابه «شعر الحداثة في مصر»

الاتجاهات والمذاهب الأدبية لا تنبت في فراغ، وإنما هي حلقات متتابعة، تسهم في نشأتها عوامل ثقافية وغير ثقافية. وقد تلاحقت اتجاهات الشعر العربي في العصر الحديث، وكانت نشأة كل اتجاه منها رد فعل للاتجاه الذي سبقه، فقد كانت حركة الإحيائيين رد فعل على الواقع الشعري الهزيل في زمن العثمانيين وما قبله من عصور الضعف، ثم جاءت الرومانسية رد فعل على شعرية الإحيائيين، وجاءت الواقعية رد فعل على الرومانسية. وتوالت الحركات الشعرية إلى أن ظهرت حركة مجلة «شعر» في لبنان عام 1956، وهي الحركة التي يعدها كثير من منظري الأدب بداية الحداثة الشعرية العربية، ولم يكن ظهورها -فيما يرى الناقد الدكتور محمد عبد المطلب- رد فعل لما سبقها، وإنما كان ظهورها «فعلا»[1] حيث حملت لواء الحداثة بزعامة أدونيس، وبدأت فاعليتها التنفيذية (بالتدمير).. تدمير النموذج الشعري السائد والمسيطر، سعيا إلى بناء النموذج الجديد على مستوى الشكل وعلى مستوى المضمون، وفق الشروط التي آمنت بها أحلاف شعراء السبعينيات في لبنان وفي مصر، وعلى رأسهم أدونيس، وأنسي الحاج، وحسن طلب، وحلمي سالم، ورفعت سلام، وأحمد الشهاوي، وعفيفي مطر وغيرهم.

والحق أن هذا الزعم الصارم بأن الحداثة العربية كانت فعلا طارئا، ولم تكن رد فعل لعوامل سابقة، أمر بحاجة إلى إعادة نظر، فقد بدأت الحداثة الأدبية في مصر والعالم العربي تظهر بقوة بعد هزيمة يونيو 1967، حيث عُد اللجوء إليها ضربا من الثورة على الإحباط واليأس والاكتئاب الذي ضرب المجتمع العربي كله. وكان أدونيس رائد هذه الحركة متصلا بالحداثة الغربية في ثوبها النقي، فراح يؤسس لهذه الحركة في العالم العربي في ضوء ما وقف عليه من سمات الحداثة الغربية، وراح الشعراء يلتفون من حوله ويميلون إلى ما يدعو إليه.[2]

وقد تخفف الدكتور عبد المطلب من حدة هذا الزعم السابق شيئا ما حين قال إن الحداثة الشعرية كانت فعلا لا رد فعل على المستوى الإبداعي، أما على المستوى الثقافي فقد كانت فعلا ورد فعل على صعيد واحد. ذلك أن الواقع المصري والعربي كان قد انزلق إلى منحدر مخيف من التمزق والشتات، وكان عام 1967 الضربة الشمولية التي اكتسحت الجميع. ولم يكن الجيل السبعيني قادرا على احتمال هذا الواقع المرهق فانعكس ذلك على أنساقه الإبداعية. فكانت هذه اللحظة التدميرية نقطة التفجر لإبداعهم الطارئ.[3]

وبهذا نجد أن المرجعية الأولى للحداثة الشعرية العربية المعاصرة هي واقع المجتمع العربي نفسه بما فيه من تحولات وتغيرات ومستجدات في حقول الاجتماع والسياسة والثقافة معا، فهذا الواقع أوجد عند الشاعر العربي تساؤلات وتطلعات نحو تغيير جذري في بنية القصيدة يجعلها قادرة على استيعاب هذا الواقع والتعبير عن مضموناته.[4] ويؤازر هذا الواقع المأزوم في إذكاء روح الحداثة العربية كذلك الاتصال المباشر بالحداثة الغربية، وسريان روح التراث الذي لم تغب عنه روح الثورات الإبداعية بهذا المفهوم المعاصر، فيما عرف بالحداثة الشعرية في العصر العباسي على وجه الخصوص.

وإذا أردنا أن نوجز الفكرة الحداثية العربية على اختلاف مرجعياتها وروافدها الثقافية في عبارة واضحة قلنا إن المجتمع والواقع الممزق لم يكن يكافئه في التعبير عنه إلا شعر مثله مشتت ممزق متمرد على كل التقاليد والأعراف المتوارثة، من حيث الموضوعات واللغة والموسيقى والصور الشعرية وغيرها. ويمكن إجمال السمات العامة لشعر الحداثة العربية فيما يلي:


الإبهام وغياب الدلالة

يمثل الغموض والإبهام السمة الرئيسية في شعر الحداثة العربية، ومن الأقوال الدالة التي أطلقها زعيم الحداثيين أدونيس في هذا الصدد قوله:

غموضا حيث الغموض أن تحيا وضوحا حيث الوضوح أن تموت

وقد تجلى هذا الغموض في غياب «الموضوع» عن النص الشعري، فلا يعرف المتلقى عم يتحدث الشاعر، ولا يستطيع أن يقف على الفكرة التي يعالجها، فقد غدا الشعر صوت قائله، أي إنه يعبر عن صوته الداخلي وهواجسه وكوابيسه، ولم يعد صوتا مفهوما واضحا جليا للتعبير عن المجتمع وقضاياه، ولعل ذلك كان بأثر من شعر الحداثة الغربية التي تابع الشعراء العرب رُوَّادَها في ذلك؛ إذ يقول مالارميه: «تسمية الموضوع تحطيم ثلاثة أرباع الاستمتاع بالقصيدة». ويقول هيدجر: «إن فترة الغياب التام للمعنى هي الفترة التي يتم فيها التحقق الكامل لماهية العصور الحديثة»[5] وقد أسهم في غياب الدلالة في شعر الحداثة انكفاء الشاعر على ذاته، وغلبة البعد الفلسفي والبعد الصوفي والميتافيزقي والأسطوري على كثير من هذه الأشعار.

وقد أسهم في غموض شعر الحداثة كذلك اعتماده على الصور الذهنية، وبناؤه من كلام مرسل دون ضوابط، فافتقد بذلك إلى دفء التجربة الإنسانية الحية، وأصبحت القصيدة لعبا داخل اللغة وتلفيقا لصور لا روح فيها وأصبحت النصوص الحداثية تخفي أكثر مما تظهر، بل إنها تكاد تخفي ولا تظهر إلا لأصحاب الحظوة من السالكين في طريق الحداثة.[6]

وقد كان مرد هذا الغموض في مجمله إلى غياب المنطق في استخدام اللغة، والنفور من الأنساق الحاكمة لهندسة الصياغة ومنطقة الدلالة. فقد عد الشاعر الحداثي اللغة ملكية خاصة، ومهمة الشاعر الأساسية هي «تثوير اللغة» أو «تفجير اللغة»؛ فبعد أن كانت المفردة رهينة السياق، وما يسبقها وما يلحقها من دوال، حررها هؤلاء الشعراء من هذا السياق، وأعطوها الحق في الاستقلال بإنتاج المعنى [7]، ومن ثم بترت الصلة بين الشعراء والمتلقين. وقد أدان هذا الاتجاه كثير من النقاد العرب وغيرهم، حتى إن بعض شعراء أمريكا الجنوبية أدانه في مجمل عناصره وأدان شعراءه؛ «”لتجميعهم الكلمات عشوائيا وفق آخر موضات باريس».[8]

إن الغموض في شعر الحداثة هو الذي غطى النصوص بنوع من الضبابية، حتى إننا نفتقد فيه الإشارات التوضيحية، وعلى المتلقى أن يخلق لنفسه إشاراته التي تقوده إلى ركائز الدلالة، وإلى المفاتيح التي تيسر له فتح مغاليق هذه الدلالة، وهو أمر بحاجة إلى غير قليل من اليقظة والإرهاق في عملية التلقي والتنبه الشعوري الواعي الذي يتحرك على السطح والأعماق؛ لأن هذه النصوص تتنافي مع المنطق، ومن العسير أن ترصد فيها نقطة البدء أو نقطة الانتهاء، ومن العسير أن نحدد فيها مسارات الدلالة، لأنها تتحرك في كل اتجاه، حتى إن القصيدة تبدو وكأنها لا تعني شيئا.[9]


التمرد على الموسيقى العروضية

من ملامح الثورة والتمرد في شعر الحداثة أن الشعراء لم يكتفوا بركوب موجة الغموض وتدمير منطق الرصف اللغوي وبناء الدلالة، وإنما ضربوا بيت الشعر العربي من جهة ركنه الركين وهو الموسيقى، إذ لم يكتفوا بتقويض بيت الخليل بالدعوة إلى «شعر التفعيلة»، وإنما راحوا ينادون بقصيدة النثر، وفيها يتحرر الشعر جملة من الوزن والقافية، بحجة أنهما يحدان من حرية الشاعر في التعبير، وراح هؤلاء الشعراء يعتمدون على إيقاع بديل يتمثل في أنماط أخرى من الموسيقى الداخلية التي تتيحها إمكانات اللغة من سجع وجناس وغيره. ولعل أول اهتمام فعلي بهذا الجنس الأدبي، بعد عدد من الإرهاصات الأولى عند حسين عفيف وغيره، كان اهتمام جماعة مجلة «شعر» اللبنانية، التي أصدرت أول ديوان من الشعر المنثور لواحد من جماعتها هو أنسي الحاج، ثم كتب أدونيس أول قصيدة نثرية عام 1958 بعد أنسى الحاج بأشهر، ثم تبعهما شوقي أبو شقرا ويوسف الخال وفؤاد رفقة وآخرون.[10] ثم وفدت قصيدة النثر إلى مصر فكان حظها من الشهرة والذيوع أقل من حظها في لبنان، لأنها بشكلها السريالي العبثي الغامض المفتعل أدت إلى نفور المتلقي منها أو إهماله لها. ولم تستطع أن تحقق رسالتها المزعومة في التعبير عن الواقع المهترئ، قد رفضها كثير من النقاد وذهبوا إلى أنه «إذا كان هناك شعراء كبار كأدونيس قد أجادوا صياغة القصيدة الملتزمة بالأوزان الخليلية، فإنهم قد أجادوا أيضا صياغة قصيدة النثر، وجرجروا على خطاهم كالعادة المفلسين الذين لا يتقنون قراءة الأوزان الشعرية، أو لا يعرفونها على الإطلاق، فراحوا يعطون –هنا وهناك- قصائد نثرية وانفصلوا بذلك عن تراثهم المقعَّد، وعما هو شعر بالمعنى الاصطلاحي».[11]

ومن الطريف في هذا السياق ما ذكره الدكتور أحمد درويش بشأن تسمية «قصيدة النثر»، إذ يقترح أن تسمى «عصيدة النثر»؛ لأن هذا المصطلح أقرب إلى التعبير عن خصائص هذا الجنس الأدبي الغائم، الثائر على التقاليد الموروثة، المتسم بالالتفاف والالتواء. ويسوغ الدكتور درويش ذلك بأنه ليس من حق هذا الجنس الأدبي النثري الجديد أن يلجأ إلى عباءة المصطلح القديم للشعر «القصيدة»، الذي يرفضه ويثور عليه، بل ويعد نفسه قاتلا له، والقاتل لا ينبغي أن يرث المقتول شرعا، ومن ثم لا يجوز أن نطلق على هذا الضرب من الكتابة النثرية «قصيدة».[12]


أزمة الحداثة الشعرية

راح الحداثيون ينادون بقصيدة النثر، وفيها يتحرر الشعر جملة من الوزن والقافية، بحجة أنهما يحدان من حرية الشاعر في التعبير.
أسهم النقاد كذلك في تفاقم هذه الأزمة بلغتهم العصية على الفهم، واستخدامهم لغة ملغزة لا تصبر عليها النفس، في محاولة منهم لتحقيق ما أطلق عليه (الإبداع الموازي).

لقد أسلم شعراء الحداثة زمامهم للمغامرة الشعرية على هذا النحو، وجنحوا إلى المناورة، وتمردوا على التقاليد الشعرية الموروثة، وتحرروا من قيودها القصيدة القديمة، وساروا في هذا الطريق حتى بلغوا منتهاه فغص إنتاجهم الشعري بألوان من الركاكة اللغوية والتعبيرية والموسيقية، وما زادوا على أن جردوا الأشياء من معناها المألوف وقوضوا بنيتها المنطقية، دون أن يحققوا شيئا من عمق الرؤية أو أن يبتكروا رؤى ومعاني جديدة.[13]

وقد قابل القارئ مغامرة الشاعر العصية على الفهم هذه بشيء كبير من الكسل العقلي والعجز عن التأويل، وركن إلى النمط القديم المتمثل في القصيدة الموروثة. وقد أسهم النقاد كذلك في تفاقم هذه الأزمة بلغتهم العصية على الفهم، وتهويماتهم غير المسئولة، واستخدامهم لغة ملغزة لا تصبر عليها النفس، في محاولة منهم لتحقيق ما أطلق عليه (الإبداع الموازي). فلا يكون الناقد عندهم ناقدا حقيقيا إلا إذا بلغ حدا من الإلغاز والغموض في الكتابة النقدية يتفوق به على إلغاز الشاعر وغموضه في العملية الإبداعية.

والحق أن الخروج من هذه الأزمة يقع في المقام الأول على كاهل الشاعر، فإذا كان الشاعر المعاصر يغامر ويمارس إبداعا شعريا في مواجهة واقع لا شعري! فعليه أن يحكم قبضته على زمام المغامرة وألا يسلمها هو زمام نفسه، وعليه أن يبحث عن التفرد والخصوصية التي هي عماد كل فن أصيل؛ دون أن يقع في براثن الإغراب والتكلف؛ مراعاة لحال القارئ وظروفه الثقافية والحضارية. وعلى القارئ ألا يؤثر الدعة والسكون في مواجهة النصوص، وعليه أن يدرك بطول ممارسة القراءة طرائق الشعراء في التعبير. والناقد كذلك مسئول عن مواكبة إبداع الشاعر ورصد مغامراته والوقوف على ملامح تمرده، ثم يحاول فك شفرات نصوصه، وتبصير القارئ بمكنوناتها، وتبصير الشاعر بما يراه في إبداعه من شطط أو انحراف دون وصاية عليه، حتى تلتحم العرى من جديد، وتتقارب وجهات النظر، وتنفرج أزمة الشعر الحداثي وتضيق الهوة بين مبدعيه ومتلقيه.


[1] محمد عبد المطلب، شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاقة، ص 6.[2] كمال نشأت، شعر الحداثة في مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005، ص 8.[3] شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاقة، ص 22.[4] عبد الرحمن محمد القعود، الإبهام في شعر الحداثة، عالم المعرفة، الكويت، مارس 2002، ص 112.[5] الإبهام في شعر الحداثة، ص 180 – 182.[6] شعراء السبعينيات ، ص 11 [7] شعراء السبعينيات ، ص 20.[8] شعر الحداثة في مصر، ص 16.[9] شعراء السبعينيات ص 11 [10] شعر الحداثة في مصر، ص 203.[11] السابق، ص 224.[12] السابق، 226 [13] على عشري زايد، فراءات الشعر العربي المعاصر، مكتبة الآداب 2011، ص 10 – 13.