أليست ما بعد الحداثة مجرد غطاء كبير لعجز الفرنسيين عن كتابة رواية مثيرة للاهتمام منذ أن ابتلعت سيارة سباق ألبير كامو!
جون لينارد

ربما تكونُ نظرية ما بعد الحداثة مفهومًا مطّاطيًا و غامضًا إلى حد كبير، فهي نتاج لرد الفعل الفلسفي والثقافي ضد قناعات الحداثة، وتأليه الإنسان ووضعه في مركز العالم. إن نظرية ما بعد الحداثة تقوم على أن الواقع غاية لا يمكن الوصول إليها من قِبل الإنسان، وأن المعرفة هي صناعة العقل الجماعي ونتاج المجتمعات الإنسانية، والحق لا يعدو كونه وسيلة تجاذب في يد القوى السياسية المتصارعة. إن معاني الأشياء تحدّد من قِبل القراء لا الكاتب، باختصار ترى النظريةُ الما بعد حداثية أن الواقع هو ما يؤمن الأفراد والمجتمعات بأنه الواقع!

ببساطة شديدة يمكنني تعريف ما بعد الحداثة على أنها الشك المطلق تجاه السرديات الكبرى.
جان فرانسوا ليوتار

مع ذلك يمكننا أن نتعرّفَ على بعض المواقف المابعد حداثية تجاه الأسئلة الكبرى؛ كوجود الإله الذي تنفيه ما بعد الحداثة، ليس نفيًا على شاكلة العقلانية الحديثة أو الماركسية اللينينية، إنما على طريقة نيتشه، «مات الإله»؛ لأنه لا يمكن تصديقه أو تخيله وليس بسبب أنه لا يمكن إثباته.

في الفلسفة تنحو ما بعد الحداثة منحى لا واقعيا؛ فهي لا تؤمن بالحقيقة الموضوعية، وكل واقع في الأصل مجرد بناء من الأفكار الذاتية للإنسان؛ لذلك لا توجدُ حقيقة كونية في ما بعد الحداثة. هذا بالإضافة إلى الرؤية الأخلاقية التي تعتبر أن الأخلاق منتج ثقافي بالأساس في ظل غياب السرديات الكبرى تصبح المسألة الأخلاقية مسألة سرديات ثقافية صغيرة ومتنوعة.

يضاف إلى ذلك موقف ما بعد الحداثة النقدي تجاه النظرية القانونية، ونظرية التطور الكلاسيكية، ورؤيتهم السيكولوجية للإنسان باعتباره منتجا اجتماعيا. على المستوى السياسي يميلُ ما بعد الحداثيون إلى اليسار، وإلى تفكيك ودحض سلطة الرجل الأبيض أو السلطة أينما وجدت.

ربما يجدر بنا هنا العودة للتذكير بأن ما بعد الحداثة ليست أيديولوجيا أو مفهوما مكتملا؛ إنما هي موقف نقدي بالأساس تجاه الحداثة، ومفاهيمها، ومنتجاتها في الفن والأدب والفلسفة والاجتماع والسياسة.


مارتن هايدجر

الفيلسوف الألماني الذي حمل فوق عاتقه أسئلة القرن العشرين وارتباكه، ولد في بادن بألمانيا عام 1889م في بيئة شديدة التدين والمحافظة، وانعتق منها إلى دراسة الفلسفة في فرايبورغ تحت إشراف فيلسوف الظاهراتية الأبرز «هوسرل». بدأ هايدجر حياته الفلسفية مع ميتافيزيقا أرسطو وفلسفة العصور الوسطى؛ وهو ما أهّله للاشتباك بعمق مع كانط وكيركغارد ونيتشه. لكن التأثير الأكبر الذي تلقاه هايدجر، وساهم في إخراج مشروعه الأساسي «الكينونة والزمان» إلى الوجود كان «ديلثي» بمنهجه في التأريخ والتفسير الذي أثر تأثيرا بالغا على هايدجر، وكذلك معاصره وأستاذه «هوسرل» الذي عبرّ عن الفلسفة الظاهراتية كعلم للنفوذ وللماهيات. بعد فترة من التدريس في ماربورج عاد هايدجر لشغل منصب أستاذه السابق في جامعة فرايبورغ بعد تقاعد الأخير. رغم أن العلاقة بين الاثنين كانت متأرجحة بين القوة والتوتر؛ فإن هايدجر أهدى عمله الأبرز «من أجل الصداقة والإعجاب» لهوسرل.

تولى هايدجر رئاسة جامعة فرايبورغ لمدة قصيرة في بداية صعود النازية ثم استقال من منصبه، لكن خطيئة انتمائه للحزب النازي ولو لفترة قصيرة ظلّت تُلاحقه حتى بعد موته، وهو ما أجبر هايدجر على الدخول في عزلة استمرت ما يقرب عشرين عاما، لكنه خرج منها ليواصل التأليف وإلقاء المحاضرات حتى وفاته في 1976م، تاركًا خلفه ميراثًا مؤثّرًا في أشكال الفلسفة المختلفة في القرن العشرين، بداية من الوجودية، وحتى التفكيك ومدرسة فرانكفورت.

كل فرد يولد على شكل أشخاص عديدين ويموت شخصا واحدا فقط.
مارتن هايدجر

«الكينونة والزمان» السؤال الأساسي الذي ينبعُ منه كتاب الكينونة والزمان، سؤال أنطولوجي بالأساس حاول هايدجر من خلاله إعادة توجيه وجهة الفلسفة الأوروبية من الأبستمولوجيا التي غرقت فيها منذ السؤال الكانطي، إلى الأنطولوجيا حيث البحث عن معنى الوجود. ينطلق هايدجر في كتابه من الوجود الإنساني ذاته باعتباره الوجود الأقرب إلينا، ويعتبره نافذة تطلّ على معنى الوجود بشكل أوسع.

يصرّ هايدغر على الاهتمام الذاتي في كتابه بعيدا عن الأنثروبولوجيا، أو علم النفس، ولكن قضاياه التي طرحها في الكتاب من قبيل الضمير والذنب والخوف والموت لا يمكنها أن تفلت من الأطر الإنسانية الأوسع على كل حال.

يبقى أن نص «الكينونة والزمان» نصٌّ تاريخيٌّ تطور ونشر أكثر من مرة في حياة مؤلفه، وهو نص مستغلق صعب الفهم نوعًا ما، حاول فيه هايدجر تفجير حدود اللغة الألمانية وبث روح جديدة فيها.


ميشيل فوكو

الأركيولوجي الباحث عن آثار السلطة في الهياكل والمؤسسات والنظم الاجتماعية والمعرفية، ولد فوكو في مدينة بواتييه بفرنسا عام 1926م، وقد عانى من سنوات نفسية عصيبة في مراهقته، لكنه خرج منها نابغة ثقافيًا ومعرفيًا. قضى سنوات الستينيات من القرن العشرين في التدريس في عدد من الجامعات الفرنسية، ثم شغل أخيرًا كرسي «الكوليج دي فرانس» الرفيع؛ ليبدأ في تدريس تاريخ نظم التفكير ابتداءً من 1970م، مع بداية عقد الثمانينيات شغف فوكو بالنشاط السياسي الذي شارك فيه بكثافة، فشارك في تأسيس d’information sur les prisons وهي مجموعة فرنسية سعت لنشر المعلومات والبيانات عن أوضاع السجون الفرنسية، شارك أيضًا في المظاهرات المطالبة بالمثلية الجنسية وإباحتها، وكذلك باقي المجموعات المهمّشة، هذا غير موقفه الداعم الشهير للثورة الإيرانية من خلال زيارته لطهران.

بدأ فوكو حياته الفلسفية بحضوره محاضرات في الظاهراتية الوجودية لـ «ميرلو بونتي»، وتأثر بهايدجر وهيجل، وكذلك بالقراءة البنيوية التي انتهجها ألتوسير لأعمال كارل ماركس. لا يخفى علينا بالتأكيد أن نيتشه وعمله المهم «جينالوجيا الأخلاق» تركا أثرًا لا يمكنُ إغفاله في أعمال فوكو.

على الرغم من التجاور الزمني والمكاني لفوكو وسارتر وكراهيتهما المشتركة للطبقة البرجوازية وثقافتها وميلهما نحو دعم الفئات والطبقات المهمشة،فإن كلاً من الفيلسوفين سلك اتجاها مختلفًا تمامًا؛ إذ كان فوكو ينتقد الروح «الترنسندنتالية» لفلسفة سارتر، وكونها فلسفة كونية، على عكس فوكو الذي لم يؤمن إلا بالنسبة الثقافية والمعرفية.

تكمنُ ريادية فوكو في إبداعه لمفهوم الخطاب، ثم استخدامه كمظلّة لفهم علاقات السلطة والمعرفة والذات في البنى الاجتماعية والسياسية المختلفة، حتى تلك التي لا تبدو من أول وهلة وكأنها تنطوي على هذه السلطة أو هذه المعرفة.

ميشيل فوكو

«الكلمات والأشياء»، على عكس عمله السابق في «ميلاد العيادة» أو «تاريخ الجنون» لم يحتوِ كتاب فوكو «الكلمات والأشياء» نقدًا ضمنيًا للبنى الاجتماعية، إنما هو كما يقترح عنوانه الفرعي «أركيولوجيا العلوم الإنسانية»، وفيه يحاول فهم الأنماط العقلية الكامنة خلف طريقة التفكير المعرفية والعلمية التي سادت في مراحل تطور الحضارة الغربية المختلفة، بدءًا من عصر النهضة، وانتهاء بالعصر الحديث. يتخذ فوكو شريحة متنوعة مكونة من علوم اللغة والبيولوجيا والاقتصاد؛ لتجريد نمط التفكير المعرفي في كل عتبة أو مرحلة زمنية من هذه المراحل.

تبدأ المعرفة الغربية في عصر النهضة من بوتقة التشابهات المغلقة التي سمحت بتواجد أنماط مختلفة من العلوم والخرافات والقصص متجاورة داخل جسد المعرفة، ثم يتلو هذه المرحلة مرحلة التمثيل التي سادت في العصر الكلاسيكي التي قامت بعملية تفكيك أو فصل بين ما يمكن أن نسميه علمًا وما هو ليس كذلك عبر عقلانية ديكارت، وميكانيكية نيوتن، وينتهي أخيرًا بالعصر الحديث الذي دشّنه كانط بنقده للعقل المحض مما أنزل الإنسان من ذات مفكرة، إلى موضوع قابل للتفكير فيه، وهنا ظهرت العلوم الإنسانية بوضعيتها المائعة والخطرة داخل جسد المعرفة، وتميّزت هذه الفترة العلمية التي مازلنا نعيشها حتى الآن بسيادة مفهوم الوظيفة، وشبكيّة العلاقات بين الأشياء.


جاك دريدا

حيثما وجدت السلطة وجدت المقاومة.

الرجل الذي واجه النصّ مباشرة دون أي محاولة للهروب أو التفسير، ولد في حي البيار في مدينة الجزائر في العام 1930م، بعد فترة من الانقطاع عن الدراسة بسبب قوانين «حكومة فيشي» المعادية لليهود التي قاطعت دراسته عاد دريدا لدراسة الفلسفة بعد الحرب العالمية الثانية، وقد عايشَ جيل الفلسفة الفرنسية الأعظم بوجود سارتر وفوكو ودولوز وليفي شتراوس وألتوسير ولاكان، هذا بالإضافة للفلسفة الألمانية المجاورة متمثلة في هوسرل وهايدجر.

بدأ دريدا حياتَه الفلسفية بمحاورة خاصّة مع درس هوسرل، وكانت رسالته للماجستير عن «مشكلة التكوين في فلسفة هوسرل». انتقل دريدا إلى دراسة هايدجر وليفيناس، حيث نشر ورقتين بحثيتين في قراءته لفلسفة ليفيناس بعنوان «العنف والميتافيزيقا»، وهي من أعمال دريدا الأولى شديدة الأهمية، وكانت سببًا في نشوء صداقة بين الفيلسوفين، انتقل بعدها لنقد فوكو في قراءته لديكارت في كتابه «تاريخ الجنون».

بجوار البنيوية أو على أنقاضها وفي مقابل تفسيرية هايدجر وهوسرل بنى دريدا منهجه التفكيكي في ثلاثة كتب أرسلها للنشر دفعة واحدة وهي «الكتابة والاختلاف»، «الصوت والظاهرة»، «النحوية». وقد شكّل أسلوب دريدا في الكتابة كذلك جزءًا من شهرته، فضلاً على عداء الآخرين له؛ فأسلوبه الأدبي مثير أكثر من كونه مقنعًا، وقد اتسم تفكيك دريدا على كل حال بغياب التفكير المنطقي والدقة.

استقر دريدا في مهنة التدريس، وعقد الكثير من المحاضرات واللقاءات في الجامعات الأمريكية إلى جانب شغله لمنصب مدير الدراسات في المعهد الفرنسي للعلوم الاجتماعية في باريس، في الوقت الذي تركزت فيه دراساته وكتاباته بشكل كبير على حقلي السياسة والدين. وقد توفي دريدا بسبب إصابته بسرطان البنكرياس في أكتوبر من العام 2004م.

النظرة التقليدية للغة هي أنها كائن حي وأن الكتابة هي الجزء الميت من هذا الكائن.
جاك دريدا

«في النحوية»، أحد كتب دريدا الثلاثة التي أكسبته شهرته، وأسّست لمنهجه في التفكيك. وقد حاول في هذا الكتاب أن يشتبك مع نصوص هايدجر ودي سوسير وكلود ليفي شتراوس وجان جاك روسّو وغيرهم، في محاولة لإثبات أن الكتابة ليست مجرد اشتقاق من الكلام، يستبعدها من فهم الوجه الكامل للحديث.

كعادة كتابات دريدا يُعدُّ النص مستغلق الفهم، يموج بما يمكن أن نسميه بالوفرة التعبيرية الزائدة عن الحاجة، لكن السؤال الذي ينبعُ منه هذا الكتاب هو: كيف يمكننا فهم المعنى الإنساني في الوقت الذي تعلن فيه الميتافيزيقا عن موتها؟!

المراجع
  1. Stanford Encyclopedia of Philosophy/Martin Heidegger
  2. Stanford Encyclopedia of Philosophy/Michel Foucault
  3. Stanford Encyclopedia of Philosophy/Jacques Derrida
  4. كتاب "الكينونة والزمان" مارتن هايدجر
  5. كتاب "الكلمات والأشياء" ميشيل فوكو
  6. Reading Derrida's Of Grammatology