قد يتعجب البعض من تخصيص تقريرٍ كامل لإسهال Diarrhoea الأطفال، لكن بالتأكيد سيزول العجب، وقد ينقلب إلى انقباضٍ وقلق عندما نمر عبر هذه الإحصائيات الموجزة والمرعبة عن الإسهال حول العالم، ومصدرها المركز الأمريكي للتحكم في الأمراض والوقاية CDC:

  1. يموت يوميًا حوالي 2195 طفلًا بسبب مضاعفات الإسهال، خاصة الجفاف، واختلال أملاح الدم الحيوية Electrolytes abnormalities، وهذا يعني أكثر من 800 ألف حالة وفاة بين أطفال العالم نتيجة الإسهال كل عام.
  2. العدد المذكور أعلاه يفوق وفيات الأطفال بالإيدز والملاريا والحصبة مجتمعة.
  3. كل 9 وفيات من الأطفال، أحدها بالإسهال. وبذلك يكون هو ثاني أكثر أسباب وفيات الأطفال في العالم، لا يتقدم عليه سوى الالتهاب الرئوي.
  4. الوقاية خير من العلاج كثيرًا، حتى من المنظور الاقتصادي. فكل دولار يُنفق على الوقاية من الإسهال (التطعيمات – التوعية بالنظافة الشخصية – توفير مصادر نظيفة للمياه – …) يرفع عن كاهل ميزانيات الصحة في الدول النامية 25 دولارًا وربع تُنفَق لعلاج الإسهال ومضاعفاته.
وفيات الأطفال، الإسهال، موت الأطفال
وفيات الأطفال، الإسهال، موت الأطفال

أساطير في التعامل مع الإسهال في مصر ينبغي نسفها

لأن طب الأطفال في مصر يعاني أخطاءً لا تغتفر؛ نتيجة نقص الوعي الطبي، والإهمال، أو الاندفاع العاطفي لدى الأمهات، في مقابل استسلام قطاع مؤثر من الأطباء أمام مغريات السوق وإرضاء الزبون. فتصحيح المفاهيم فيه ذو أهمية قصوى.وللأطفال – خاصةً في العام الأول – من العمر طبيعة حساسة. ولذا فالتراخي في التعامل مع أمرٍ مزمن أو طارئ قد يكون ثمنه كبيرًا للغاية.

اقرأ أيضًا: الأساطير المؤسسة لطب الأطفال في مصر: أسطورة المضاد الحيوي

وسنحاول هنا تبديد 7 من أشهر المفاهيم الخاطئة في التعامل مع الإسهال الذي يكاد لا يوجد طفل إلا ويعاني منه عدة مرات في العام.

1. ابني مريض بالإسهال

الإسهال عرض وليس مرضًا، وأشهر أسبابه النزلات المعوية الفيروسية viral gastro-enteritis، وتسمم الطعام،

أو حساسية تجاه بعض أنواع الطعام، أو أثر جانبي للكثير من المضادات الحيوية كـ الأموكسيسيللين شائع الاستخدام في الأطفال، أو داء سيلياك Caeliac disease الذي يسبب عدم القدرة على امتصاص الأطعمة المحتوية على بروتين الجيلوتين كالقمح والشعير، ..إلخ.

وكل من علاج السبب، والتعامل مع العَرَض، يتساويان في الأهمية.

2. ابني أصيب بالإسهال، لقد أخرج حمامًا سائلًا مرتين اليوم.

لا يكفي هذا للتشخيص. فأشهر تعريف للإسهال هو:

– إخراج حمام سائل مختلف عن الطبيعة المعتادة للطفل، 3 مرات فأكثر في اليوم.

– زيادة عدد مرات الإخراج إلى ضعف العدد المعتاد، والذي يكون مرة أو اثنتيْن يوميًا في الأطفال الأكبر سنًا. بينما عند الرضع قد يصل إلى 6-10 مرات يوميًا، وغالبًا ما يكون سائلًا أو رخوًا نظرًا لطبيعة طعامهم المعتمدة أصلًا على اللبن.

3. أريد إيقاف الإسهال!

يعتقد الكثير من الأمهات أن العلاج الجوهري للإسهال هو بإيقاف الإسهال، لكن هذا مفهوم خاطئ لما يلي:

  • سائل الإسهال يحتوي على الكثير من الفضلات، والسموم التي مصدرها الميكروب المسبب، وخلايا الأمعاء التي قتلها الالتهاب، ..إلخ. إذن فالإسهال يسرع عملية تخلص الجسم من هذه العوادم الضارة.
  • تزداد خطورة الأدوية التي توقف الإسهال بإبطاء حركة الأمعاء مثل اللوبراميد، في حالات الإسهال المدمم المصحوب بالمخاط المميز للدوسنتاريا ( الزحار ) الأميبية، أو البكتيرية التي تسببها بكتيريا الشيجيلا. فالسموم المتراكمة في الأمعاء قد تصل إلى الدورة الدموية، وتسبب حدوث تسمم عام بالدم sepsis.

4. سأقلل رضاعة طفلي والطعام ليقل الإسهال!

http://gty.im/79102501

هذه النقطة كارثية، فأخطر مشاكل الإسهال هي الجفاف dehydration. لا مشكلة في أن يقوم الطفل بإخراج الإسهال 10 أو حتى 20 مرة يوميًا طالما يتم تعويض ما يفقده بالسوائل المناسبة، وأهمها محلول الجفاف Oral Rehydration Therapy ORT واللبن.

ولتجنب الجفاف أو وأده قبل أن يستفحل خطره ينبغي الآتي:

المراقبة المتوثِّبة لأعراض الجفاف وهي (انفعال الطفل المصحوب بلهفة شديدة للشرب وللرضاعة – تناقص عدد مرات التبول عن المعتاد – البكاء بغير دموع – جفاف اللسان – عيناه أصبحتا غائرتين – الجلد لا يعود سريعًا إلى وضعه بعد قرصه بلطف، ..) وحينها يتم زيادة مرات الرضاعة، وتعويض كل مرة إسهال بنص كوب من الماء المذاب فيه محلول الجفاف. يفضل بعض الأطباء تثبيت جرعة من محلول الجفاف كل 4 ساعات، عبارة عن 50 مل لكل كجم من وزن الطفل، وذلك لضمان منع الجفاف واضطراب أملاح الدم.

  • وتكمن أهمية محلول الجفاف في أنه لا يحتوي الماء فحسب، إنما أيضًا أهم الأملاح المذابة التي يفقدها الطفل في إسهاله وأهمها الصوديوم والبوتاسيوم والكلوريد، وكذلك الجلوكوز.
  • عدم ترك الطفل فريسة لسبب آخر للجفاف وأهمها القيء. وذلك بزيادة مرات الرضاعة ومحلول الجفاف أكثر لتكون كل 1-2 ساعة، مع تقليل كمية اللبن في كل رضعة، وإعطاء المحلول بصبر شديد، ملعقة صغيرة بملعقة صغيرة. لكن في حالة تتابع القيء بما يعوق إطعام الطفل، وإعطائه السوائل الحيوية لعدة ساعات، فلابد من استشارة الطبيب ليقرر الحاجة إلى دواء لإيقاف القيء.

وبالنسبة للطعام، فبجانب القيمة الغذائية الهامة، فهناك أطعمة تزيد كثافة البراز، وتقلل سيولته بما قد يقلل الإسهال، مثل الفول والبازلاء والشوفان والفواكه المقشورة – القشر يزيد الإسهال. ويجب تجنب الأطعمة السكرية؛ لأنها تمتص الماء من جدار الأمعاء، فتزيد الإسهال.

ويمكن إعطاء الطفل الأدوية المحتوية على الزنك – بعد استشارة الطبيب، والذي يساهم في تجديد الأغشية المبطنة للأمعاء وسرعة شفاء الالتهاب.

5. مرَّ 4 أيام وما زال طفلي مصابًا بالإسهال، سأعطيه مضادًا حيويًا لكي يشفى سريعًا!

هذا تعجل شديد. فأغلب أدوار الإسهال خاصة الناجمة عن النزلات المعوية، تشفى تلقائيًا خلال 5 – 10 أيام. وطالما تجنبنا الجفاف، ولم تظهر عوامل الخطورة التي سنذكرها لاحقًا، فلا داعٍ للذعر.

وكما ذكرنا في الجزء السابق: أسطورة المضاد الحيوي، فالمضاد الحيوي لا يعالج إلا الأمراض البكتيرية، وأكثر من 40% من الإسهال في الأطفال نتيجة فيروس الروتا فقط، والذي لا دور بتاتًا للمضاد الحيوي في علاجه.

كما ذكرنا سابقًا أيضًا أن المضاد الحيوي قد يسبب هو الإسهال وذلك بإخلاله بالتوازن البكتيري الطبيعي في الأمعاء.

و الإسهال البكتيري الذي يصف له الأطباء المضاد الحيوي، يكون مصحوبًا بارتفاع شديد في درجة الحرارة > 38.5، وغالبًا ما يكون برازًا مدمَمًا ويحتوي المخاط (دوسنتاريا dysentery)، ويصاحبه آلام وأمغاص شديدة بالبطن، ويؤثر كثيرًا على نشاط الطفل.

6. طفلي أخرج 5 مرات إسهال، سأهرع به الآن إلى الطوارئ خوفًا عليه!

لا أعرف ما سر الجهل – أو التجاهل – الشديد بالقاعدة البدهية “الطوارئ للطوارئ”، وهو ما لا يمكن التعامل معه في المنزل أو العيادات الخارجية.

إرهاق خدمات الطوارئ – المرهقة عندنا أصلًا – بالحالات المستقرة جريمة قتل غير مباشرة. نريد أن نكرس المعادلة المتوازنة بين عدم الإهمال وعدم «الأفورة».

عوامل الخطر لدى الطفل المصاب بالإسهال، والتي توجب الطوارئ هي:

  • أعراض الجفاف الشديد وأخطرها توقف البول تمامًا أكثر من 6 ساعات، والارتخاء العام في الجسم obtundation، وعدم القدرة على إيقاظ الطفل lethargy.
  • استمرار القيء يومًا كاملًا، مما يعوق التعويض بالأطعمة والسوائل.
  • الارتفاع الشديد في درجة الحرارة > 39، خاصة لو صاحبتها أعراض التسمم العام في الجسم toxic manifestations مثل تأثر درجة الوعي، وتسارع النبض والتنفس بشدة، ..إلخ.
  • الآلام الشديدة بالبطن، خاصة إذا صاحبها قيء شديد مائل للاخضرار، وبراز كالدم. فقد يكون منذرًا بحالة انسداد معوي شائع في الأطفال هي intussusception، حيث يؤدي التهاب الأمعاء وتضخم العقد اللمفاوية حولها إلى تراكب أجزاء من الامعاء داخل بعضها البعض كالتلسكوب.

7. أسطورة «علق له جَلَكوز يا دكتور»!

كانيولا، طفل مريض، الجفاف، المحلول
كانيولا، طفل مريض، الجفاف، المحلول
تقديس المصريين للمحاليل الوريدية يحتاج إلى دراسة نفسية وفكرية واسعة، قد نفرد لها مساحة مستقلة لاحقًا، بل لا أبالغ إن قلت أن حب المصريين للمحاليل يفوق المضادات الحيوية بمراحل!.

يسارع الكثير من الأمهات – والأطباء للأسف – إلى إعطاء الطفل المحاليل الوريدية بمجرد حدوث الإسهال، بحجة منع الجفاف. لكن السبب الحقيقي هو عدم الصبر على إعطاء الطفل الأطعمة والسوائل الفموية. وهذا خلاف الأولى لهذه الأسباب:

  1. القاعدة الطبية الأصيلة تفرض عدم الانتقال من العلاج الأكثر تحفظًا less invasive للأقل تحفظًا إلا لضرورة.
  2. إيلام الطفل بشكات الكانيولا التي سيعطى خلالها المحاليل لا ينبغي الاستهانة به دونما داعٍ.
  3. في حالات قليلة، قد تصل العدوى خلال الكانيولا إلى الدم، فتسبب تسممًا عامًا قد يكون أخطر كثيرًا من الإسهال.
  4. ما يعطى بالفم يحافظ على حيوية الأمعاء، فيسرع شفاءها.

المحاليل الوريدية هي الخط الأخير في علاج الإسهال في مضاعفاته الخطيرة كالجفاف الشديد مثلًا.

كل هذه أخطاء نراها يوميًا كأطباء في ممارستنا ووعي الأمهات بها سيحل جزءًا كبيرًا جدًا من المشكلة.