مع أنه إحدى حقائق التاريخ الحديث والمعاصر، من جديد يعود طرح خيار التقسيم على أجندة النقاش في الوطن العربي هذه المرة حول ليبيا؛ ففي تقرير نشرته جريدة «الغارديان» البريطانية «بحسب موقع «عربى21»، 10 أبريل»[1] فإن مسئولا أمريكيا عرَض خيار تقسيم ليبيا، ليبرز بموازاة ذلك الحديث المتجدد عن شبح الإمبريالية ونظرية المؤامرة والتي تبدو حقيقة لا يمكن إنكارها.

رغم السياق السياسي لهذا الطرح، فإنه يذكرنا بعمل إدوارد سعيد صاحب «الاستشراق»[2] ومقولاته عن «شرقنة الشرق» و«الجغرافية التخيلية»[3]، حيث تسيطر الكليشهات والصور النمطية عن التخلف الأبدي لدى شعوب هذه الرقعة، وبالتالي فإن القيم، وكذلك المؤسسات الغربية، لا يمكن استنباتُها فيها.

في هذا السياق، تأخذ الأحكام المسبّقة أشكالا عديدة، وفي حالة ليبيا تجسدها مسألة تسوية الصراع المسلح المتصاعد هناك منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي العام 2011.


أسوأ حل

بالعودة للتقرير الذي أعدّه الصحافيان جوليان برغر، وستيفاني كيرشغاسنر، جاء فيه «أن مسئولا أمريكيا رسم أمام دبلوماسي أوروبي، خريطة لتقسيم ليبيا إلى ثلاث دول».

وهذا المسئول كان هو سيباستيان غوركا، وهو مساعد الرئيس دونالد ترامب؛ وأن المسئول الأروبى ردّ على ذلك بأن التقسيم هو «أسوأ حل يمكن تصوره في ليبيا». وأن صاحب هذا الطرح الجديد يسعى إلى شغل منصب مبعوث الرئيس الأمريكى إلى ليبيا.

كما أشار التقرير إلى «صدمة الدبلوماسيين بخريطة التقسيم التي اقترحها غوركا لمستقبل ليبيا».

يبدو واضحًا أن ما ألهم مخيلة هذا الرجل في حد ذاته أمرٌ له ينطوي على دلالة كبيرة: المواجهة بين العثمانيين والغرب الاستعماري، حيث يقول التقرير: «إن مقترح مساعد ترامب اعتمد فيه على الولايات العثمانية القديمة التي كانت في البلاد، وهي برقة في الشرق وطرابلس في الغرب وفزان في الجنوب».

ما يشير إليه غوركا هنا هو عينُ ما يسميه إدوارد سعيد «الجغرافيا التخيلية» ليعيدنا إلى القرن الماضي، حيث اتفاقية «سايكس- بيكو» وحيثيات تشكُل الثورة العربية الكبرى (حزيران/يونيو 1916)، والتي تمخضت عنها الدول القطرية الحالية والتي يعتبرها كثيرون فاشلة على كل الصعد.


«حدود الدم»

مع صعود «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة الأمريكية إبان حقبة جورج بوش الابن (2001-2009) وعقب غزو العراق (آذار/مارس 2003 ) عاد طرح التقسيم كإستراتيجية لسلطات الاحتلال بعد حادثة تفجير المرقديْن فى سامراء بالعراق (شباط/فبراير2016) وما تلاها من اقتتال طائفي، وهو ما دفع جو بايدن «عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاوير ولاحقًا نائب الرئيس الأمريكى أوباما السابق» للحديث علنًا، وبعد ثلاث سنوات من الاحتلال عن التقسيم كحل وحيد للاقتتال الطائفي الذي تعجز قوات الاحتلال عن احتوائه.

كذلك، خلال تلك الفترة جرى تداول معلومات عن خرائط «حدود الدم»، التي أعدها الجنرال المتقاعد رالف بيترز في (حزيران/يونيو 2006)، ونشرت في مجلة «أرمد فورسيس» التابعة للبنتاغون، وأيضًا لا يفوتنا التنويه بأن مخططات التقسيم ومؤامراته حلمٌ قديم يراود المستشرق العتيد برنارد لويس.


شرقٌ عصّي

تعكس مثل هذه المواقف والتصريحات أزمة الغرب وحيرته وعجزه في التعامل مع «الشرق» -لا نقول «الأوسط» أو «الكبير» أو«الجديد»– حيث يبدو أن هذا الشرق عصي على الإخضاع والسيطرة والترويض؛ ورغم تبعية دوله وهامشية وزنها بين الأمم وانكشافها أمام الخارج اليوم، ظلّت شعوبه على الدوام تقاوم المخططات الإمبريالية.

إنّ عدم رغبة حكومات الغرب في التعاطي العادل مع الصراعات العنيفة والمزمنة في هذه المنطقة، رغم تراكم خبراتها في «بناء الدول»؛ فاليابان وإيطاليا وفرنسا وكوريا الجنوبية وغيرها أسفرت التدخلات العسكرية والمساعدة الخارجية -الغربية- بها عن دول ديموقراطية ومجتمعات حُرة، ولكن المفارقة تكرار ذات الأدوات -أي التدخلات لإعادة هندسة الدول والمجتمعات- أثمرت في تجربتي العراق وأفغانستان -والآن ليبيا- عن دول فاشلة يدفع العالم حتى اللحظة ثمن عدم الاستقرار فيهما.

وبينما كان يُعزى النجاح في تلك الحالات إلى قابلية مجتمعاتها وشعوبها للتكيف وتبني القيم الغربية، فُسّر «فشل» مشروعات الدمقرطة والتحديث في العراق وأفغانستان وليبيا لأسباب ثقافية ودينية وللانقسامات العميقة!.


اصطناع «كانتونات»

ما يحمل المرء على تصديق الحديث عن تقسيم ليبيا عندما يصدر عن شخصيات أو مؤسسات مقربة من دوائر صناعة القرار في الغرب، فهل عجز الغرب الذي راكَم الدروس والخبرات والتجارب عن: «تسوية« أو«تجميد» أو «تحويل» الصراع والنزاعات وغيرها من التدابير عن تطبيقها في ليبيا؟.

بطبيعة الحال، الحديث عن التقسيم في ليبيا يعتبر هزيمة لحلف الناتو الذي تدخل عسكريًا ليبيا بحجة «حماية المدنيين» عقب اندلاع ثورة 17 فبراير، وكذلك فشل الحلف في تجربة القوة الدولية للمساعدة الأمنية «إيساف» في أفغانستان؛ وبالنتيجة فشل الحلف في إرساء الاستقرار وإعادة بناء الدولة في أول تجربيتين خارجيتين، وهو ما سينعكس على قدرة الحلف على تحقيق الردع والتدخل في حالات متوقعة في المستقبل، لاسيما وأنه سيواجه حتمًا بتحديات مماثلة على تخوم أوروبا أوخارجها، فهل سيكون مآلاتها التقسيم كذلك؟.


تقسيم المُقسّم

في الواقع إن التقسيم وصْفة لاصطناع «كانتونات» قبلية وعرقية أو«سايكس بيكو جديدة»، هذه المرة يروج لها باسم المناطقية والإثنية لتقسيم المُقسّم (لن تكون كالحالات التقليدية للكونفيدراليات أو الحكم الذاتي في مواجهة الدولة المركزية القائمة حاليًا)، بعد أن كانت «سايكس بيكو» الأولى برّرتها القوى الاستعمارية باسم القومية في مواجهة العثمانيين.

هناك إجماع على فشل تجربة الدولة القطرية في الوطن العربي والتي عجزت في مراكمة إنجازات لشعوبها على غرار ما حدث في دول وأقاليم العالم الأخرى، كما فشلت في تحقيق وحدة أو هوية وطنية متماسكة، حيث بقيت «مسألة الأقليات» قائمة، وهي التي فتحت الباب لعودة التقسيم مجدداً.

يمكن القول إن مثل هذا التفكير يعكس نزعات إمبريالية تكاد تلغي أي دور للشعوب، لتقول: هذه الشعوب يجب أن تكون حقيقة «شعوب منزوعة السيادة»، أي ألا يسمح لها بتحقيق الاستقلال والتمتع بحرية الاختيار والإرادة والركامة على غرار شعوب العالم الأخرى.

ففي طرح مسألة تقسيم ليبيا التي سردناها هنا، يلاحظ أنه تم تجاهل الشعب الليبي تماما، وكأنه غير موجود! مرة أخرى بسبب أن الغرب ونخبه وساسته يرون أن هذه الشعوب غير قادرة على ممارسة آليات الحداثة في الاختيار الحر كالاستفتاء والانتخاب؟ وإلا فلماذا لم يشر -من باب الاحتمالات- إلى أنه يجب طرح هذا الخيار أمام الشعب الليبي صاحب السيادة ليقرر فيه!.

ومن المفارقات، أنه بينما العالم يتشابك اليوم في تكتلات دولية وقارية كبرى بدفع من قِوى العولمة، يُراد لنمط محدد من إقليمية قائمة على التقسيم والتشطير أن تبقى هو قدر «الشرق».


تمركزات مقيتة

هذا المنطق ليس فقط مع في حالة ليبيا، انظر لنمط المعالجات والمقاربات التي تتحكم في سياسات الدول الغربية تجاه الصراعات المعقدة القريبة: دارفور، سوريا، ونقارنها بينها وبين مقاربات هذه الدول تجاه حالات مماثلة في أماكن أخرى من العالم كأوروبا «أوكرانيا»، وأمريكا اللاتينية «تمرد «الفارك» في كولومبيا» ..إلخ، حيث يبدو جليًا أن مقاربات حل صراعات «الشرق» تنطوي على تحيزات مقيتة، ولا تقوم على أُسس العدالة والكرامة وإرادة «الضحايا» وغيرها من المبادئ المبثوثة في مناهج دراسة الصراعات المعتمدة في كل مؤسسات حل النزاعات وعمليات السلام، وأنها تختلف عن الصراعات الأخرى!!.


سيناريوهات كارثية

ما لا تريد أن تعترف به هذه الدوائر أن تقسيم ليبيا كما طرح هنا لا يحل الصراع فيها، بل سيكون مدعاة لتوسيع النزاع الليبي وتصديره إلى دول الجوار ليغدو صراعًا إقليميًا شبيهًا بالصراعات المزمنة التي تشهدها منطقة البحيرات العظمى؛ كذلك فإن طرح التقسيم يعني تشجيع التنافس الخارجي على أرض ليبيا، حيث يتم غض الطرف عن أدوار هؤلاء الفاعلين (دول ومنظمات، وشبكات، ومجموعات.. إلخ) في الصراع الليبي.

وبكل تأكيد، فإنّ التقسيم لن يحقق الاستقرار أو وضع حدِ للمشكلات التي تعاني منها حاليًا، بل إن السيناريوهات -في حال تحقق التقسيم لا قدر الله- لن تخرج عن التالي:

1. قيام كانتونات متناحرة مع بعضها البعض وذات روابط خارجية تعزز من الانقسامات داخلها؛ ولن تكون بأي حال جزرا من الاستقرار.

2. ستتحول إلى بؤرة نزاع مشتعلة تتمدد الاضطرابات فيها إلى الجوار حيث لهذه الكانتونات/ الولايات امتدادات خارجية ولعوامل مختلفة.

3. ازدياد حدة التدخلات الخارجية في المشهد الليبي خاصة في حال تحقِّق هذا الخيار الكارثي،أي التقسيم.

4. التنافس بين هذه «الكانتونات» للحصول على الدعم أو تقديم «الخدمات» لصالح الأطراف الخارجية أو الدخول مع الجوار في نزاعات أو مع منافسين إقليميين من غير الدول أو شبكات عابرة للحدود.

يجب مواجهة طرح خيار التقسيم في ليبيا، خاصة بعد تجارب جنوب السودان والعراق، وربما سوف يُصار إليه في سوريا واليمن باعتباره أسهل الحلول بالنسبة للقوى الغربية، ولما ينطوي عليه من تداعيات كارثية على مصالح هذه القوى على المدى البعيد أوعلى شعوب المنطقة بالدرجة الأولى.

لذا، افتراض أن خيار التقسيم بالضرورة سوف يؤدي إلى قيام دول تعيش بسلام، وأنه سيحل المشكلات القائمة فهو افتراضٌ خاطئ تمامًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. «الكشف عن خريطة أمريكية لتقسيم ليبيا إلى 3 دول.. تفاصيل»، موقع «عربى21»
  2. إدوارد سعيد: «الاستشراق» – المعرفة – السلطة – الإنشاء، ترجمة كمال أبو ديب، [بيروت] مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الثالثة-1991، ص40
  3. عن مفهوم «الجغرافيا التخيلية»، راجع الفصل الثاني، نفس المصدر، ص 80