(1)

في أحد كتبه تكلّم المفكر الإسلامي «محمد الغزالي» عن قصة بني إسرائيل، الذين رفضوا قتال الظالمين. فكان الحكم عليهم أن يتيهوا في سيناء 40 سنة! وكان تفسيره أن الجيل الجبان سيزوي ويموت خلال تلك الفترة، وينبت جيل جديد شجاع، لم يترب على خوف الأسلاف. ما علاقة هذا بالكتاب الورقي؟ ستعرف هذا حالًا.

(2)

من الصعب قتل العادات. تعلم هذا جيدًا. عندما انتقل المطربون من التخت الشرقي التقليدي لفرقة تقف وراء المطرب/ المطربة كان هذا تقليدًا جديدًا، ورُفِضَ من البعض. الأشياء الجديدة تُعامل بحذر بالغ، وربما رفض عنيف، لكن سرعان ما ترّسخ أقدامها في تربة الواقع، وتغدو شيئًا لا يمكن الاستغناء عنه إلا بصعوبة. هذه هي سنة الحياة. أعتقد أنك بدأت تفهم ما أريد قوله، والأمر يحتاج لمزيد من التوضيح.

(3)

والآن، أخبرني: كم سنك؟

لو كنت في الثلاثينيات أو ما فوقها؛ فأغلب الظن أنك من عُشّاق الكتاب الورقي. لو سألتُكَ ما سرّ شغفك به -هذا لو كنت قارئًا عتيدًا في الأصل- ستقول بأنه رائحة الحبر، وملمس الورق. حسنًا، هذه هي النوستالجيا يا صديقي، أو الحنين للماضي. أعتقد أنك بدأتَ القراءة في سن مبكرة، وارتباطك بالكتاب الورقي قادم من هناك.

اصدقني القول: ألا تقرأ الكثير من البوستات على الفيس، والكثير من المقالات، والكثير جدًا من الأخبار، مع كمّ هائل من النكات المضحكة والسخيفة. الحقيقة أنك تتحول، تتغير من حيث لا تدري، وربما بدأت علاقتك بالكتاب الورقي تقل بمرور الوقت. كيمياء عقلك ذاتها تتغير. لا تنكر هذا. ربما تنفر من قراءة كتاب إلكتروني ضخم على الكمبيوتر، وتؤجل هذا حتى تشتريه ورقيًا، لكنك -فيما عدا ذلك- تقرأ الكثير والكثير.

(4)

لابد أنني متحمس قليلا، حتى أقول بأن الكتاب الورقي يجب أن يموت. ربما. دعنا نفكر في الأمر بشكل منطقي. لن أقول لك بأن الغرب المتقدم يقرأ كثيرًا على أجهزة القراءة الإلكترونية، ناهيك عن العديد من تطبيقات القراءة المتاحة على الهواتف النقالة، والأجهزة اللوحية.

لن أقول هذا، لكن أخبرني: كم كتابًا اشتريتَ من معرض الكتاب السابق، والذي انتهت فعالياته في القاهرة منذ فترة قصيرة؟ ليس الكثير كما أظن.

الكتب صارت مرتفعة الثمن بشكل مهول، وحتى الكتب المقرصنة أصابها نفس السعار. هل من الممكن للكتاب الورقي -في ظلّ هذا الغلاء- أن يستمر؟

إنه يحتاج لكميات هائلة من الورق، والورق ارتفع ثمنه بطبيعة الحال، دعك من حركة القرصنة التي تعمل بدأب مثير للغيظ والإعجاب في ذات الوقت، والكتاب الذي يبُاع بمائة جنيه، قد تجده بنصف هذا الثمن في مطبعة تحت السلّم، وتوزّع أفضل من بعض دور النشر الورقية الكبرى.

(5)

الأشياء الجديدة تُعامل بحذر بالغ،لكن سرعان ما ترّسخ أقدامها في تربة الواقع، وتغدو شيئًا لا يمكن الاستغناء عنه إلا بصعوبة.

الشباب الآن -من يقرؤون منهم- يتعاملون بيسر وسهولة مع الشاشات اللامعة بالحبر الإلكتروني. شاشات الهواتف النقّالة، الأجهزة اللوحية، وقريبًا لن تجد وجودًا لأجهزة الكمبيوتر المنزلي، أو أجهزة اللاب؛ فهل تعتقد أنه سيوجد الكتاب الورقي؟

نعم، قد توجد دور نشر ورقية في المستقبل تقوم بنشر طبعات محدودة وخاصة من باب الاحتفاء بالكتاب الورقي، وتوفيره لعشّاق الماضي، وربما يتم بيع نسخ ورقية في مزادات علنية بملايين الجنيهات. لا تستبعد شيئًا. لكن هذا يجرُّنا للسؤال الأساسي هنا: لماذا يجب أن يموت الكتاب الورقي؟

لعدة أسباب أُجملها هنا:

يُعدُّ الكتاب الإلكتروني حلًا لغلاء الورق، وقرصنة الكتب فور صدورها، وإتاحة نسخ ورقية مشوهة، وأخرى رقمية.

الأول: من الصلب للسائل للبخار، هكذا تتميّع الأشياء وتتحول. ومن الكتابة على جدران الكهوف، إلى الصخور التي عانى الأقدمون من أجل الكتابة عليها، إلى المخطوطات المصنوعة من جلود الحيوانات، ثم ورق البردي، وإلى الحدث الأكبر الذي تحقق على يدي الألماني جوتنبرج عندما صنع ماكينة طباعة، ثم نحن الآن نقرأ بأعيننا، بينما يختفي الحبر الإلكتروني خلف شاشة مضيئة.

هذه طبيعة الأشياء، قبلناها، أم رفضناها. الكتاب الورقي يجب أن يموت، بينما الكتاب الإلكتروني الآن يرسخ أقدامه جيدًا. صحيح ليس بالسرعة المطلوبة كما حدث في أمريكا وأوروبا، لكن لا بأس. كل شيء سيأخذ وقته.

الثاني: قد يُعدُّ الكتاب الإلكتروني حلًا لغلاء الورق، وقرصنة الكتب فور صدورها، وإتاحة نسخ ورقية مشوهة، وأخرى رقمية. تخيّل لو أن كاتبًا مثل «محمد صادق» مثلًا -بغضّ النظر عن أهمية ما يكتب- قرر نشر رواية إلكترونية بشكل رقمي، قبل صدورها ورقيًا بأربعة أشهر مثلًا. ما الذي يمكن أن يحدث؟ أعتقد أن شريحة كبيرة من محبيه ومتابعيه ستقوم بشرائها.

الثالث: تخيل موسوعة كبيرة مثل «الأغاني» «لأبى فرج الأصفهاني» لو قررت دار نشر طباعة ألف نسخة مثلا، بأجزائه الكثيرة؛ فكم سيكلف هذا من المال. لكن لو تم إعداد نسخة إلكترونية مريحة للعين، من خلال تطبيق قراءة مناسب، وعُرِضَ بسعر رمزي؛ ألن يكون هذا حلًا مقبولًا وفعالا؟ لن تجد صاحب دار نشر ورقية، يخبر المؤلف أن الكتاب ضخم، أو مكلف، أو يجب تجزئته، أو حذف بعض الصفحات منه. كل هذه المشاكل لا توجد في النشر الإلكتروني.

الرابع: لن تحتاج إلى تخصيص غرفة من أجل مكتبتك. لن تُعاني الأمرّين في دفع الكثير من أجل الخشب، وعمولة «الصنايعية»، وإرهاق نفسك بميزانية ضخمة من أجل إكمال مجموعتك. جهاز قراءة واحد -وليكن كندل أمازون مثلًا- يمكنه أن يحوي مكتبة ضخمة، وبأبخس الأثمان!

الخامس: من الأشياء الجميلة في تطبيقات القراءة أنها تحتوي على قواميس لغوية؛ ففور أن تضغط على كلمة ما ستجد معانيها ومرادفاتها، أيضًا يمكنك إضافة ملاحظاتك على مربعات فارغة أُعدت خصيصًا من أجل ذلك، ومن ثمَّ فلن تقضي وقتك في «الخربشة» بقلمك الرصاص على صفحات الكتاب الورقي؛ لتحوله لمخطوطة غامضة جديرة بخبير مخضرم لكي يفكّ رموزها!

لهذه الأسباب أرى أن الكتاب الورقي يجب أن يموت؛ فما رأيك أنت؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.