كل جريمة جماعية تبحث عن «شماعة»، لأن الضمير الفردي والجمعي لا يستطيع العيش طويلًا مع حقيقة أن المجتمع كله مجرم، من ثَمَّ لابد أن يكون هناك طرف ما يتم تحميله مبتدأ الأمر وتبعات ما حدث، والغريب الضعيف دائمًا هو الأكثر قابلية للعب دور الخرقة التي تتمسح بها الجماعة، متطهرة من عبء إثم يثقل على الضمير، فإذا ما التمسنا المثال العملي ما وجدنا خيرًا من لبنان.

لبنان، ذلك الخليط المتشابك والمربك من المذاهب والطوائف والعائلات والأحزاب والميليشيات والمصالح الرأسمالية والتحالفات الزئبقية، المُهدَّد دائمًا بانقضاض إسرائيلي من الجنوب، والمختنق دائمًا تحت ثقل الجغرافيا السورية من الشرق والشمال، والمتطلع دائمًا بلهفة إلى الجديد عبر البحر من الغرب، والمتفجر من الداخل أبدًا في لعبة توازنات قوى ومصالح مستعرة باستمرار، تترجم نفسها في مصافحات السياسيين ورجال الأعمال المتأنقين أمام الشاشات، أو – حين ينسد الأفق – في مصافحات الميليشيات بالرصاص في الشوارع.


برميل البارود

كما يبحث البركان عن أضعف نقطة في قشرة الأرض الرقيقة ليتنفس منها، تتفجر صراعات السياسة والمصالح في المناطق العصية على السيطرة المنفردة لأي طرف، وكان قدر لبنان يخبئ له الكثير على هذا الطريق، فهو النقطة الأضعف في قشرة السياسة العربية منذ حقبة التحرر الوطني وحتى الآن، وكل لاعب إقليمي أو دولي يجد لنفسه وكيلًا محليًا ما يمسك عبره بخيط أو أكثر من خيوط لعبة التوازنات، وكل لاعب محلي في لبنان يبحث عن خط إمداد بالخارج.

إن الصراعات الأهلية الممتدة تقوم على عامل أو أكثر من أربعة عوامل: الطائفية أو القبلية/العائلية أو الطبقية أو الحزبية، وإن وجود واحد فقط من هذه العوامل في مجتمع ما دون توافق إرادة جماعية على علاجه كفيل بتفجير صراع أهلي، فكيف الحال وقد كانت هذه العوامل الأربعة جميعها موجود وبوفرة خانقة في لبنان، فهناك من الطوائف: المسلمون السنة والشيعة والمسيحيون الموارنة والأرثوذكس والكاثوليك، ومن الأعراق سوى العرب هناك الدروز والشركس والأرمن والتركمان، ومن الأحزاب هناك اليميني واليساري والوطني والقومي.

إن عيبًا بنيويًا خطيرًا وسم ميلاد لبنان الحديث، وهو اعتماد المحاصصة الطائفية حلًا للحيلولة دون انفجار الصراعات الطائفية على المناصب.

إن عيبًا بنيويًا خطيرًا وسم ميلاد لبنان الحديث بعد استقلاله عن الانتداب الفرنسي عام 1943، ذلك أن رئيسه الأول، الشيخ «بشارة الخوري»، اتفق مع رئيس وزرائه «رياض الصلح» على أن أفضل صيغة للقفز فوق النزعة الطائفية في لبنان هي المحاصصة الطائفية، بحيث يكون لكل طائفة نصيب معلوم من الحكم والإدارة والسلطة حسب وزنها النسبي.

وهكذا ولد «الميثاق الوطني»، كاتفاق عرفي غير مكتوب، بموجبه وزعت المناصب الرئيسية على الطوائف الرئيسية في البلاد، فكانت رئاسة الجمهورية من نصيب المسيحيين الموارنة، ورئاسة مجلس الوزراء للمسلمين السنة، ورئاسة مجلس النواب للمسلمين الشيعة، وانسحبت المحاصصة الطائفية على بقية المناصب.

ولا يتطرق الشك إلى براءة النوايا التي أفرزت الميثاق الوطني، ذلك أن الغرض منه كان حفظ نصيب مضمون من السلطة والنفوذ والتأثير لكل طائفة، بما يحقق أفضل ما يمكن الوصول إليه من توازن، ويمنع كل طائفة من أن تتطلع إلى ما في يد الأخرى، غير أن ما غاب يومها عن بال المتوافقين على الميثاق الوطني أنه سيكرس تطييف السياسة اللبنانية، وأنه في مرحلة ما سيتحول إلى عقبة تحول دون تقدم لبنان إلى مجتمع حديث قائم على مرتكزات المواطنة والمساواة دون الانتماءات البدائية/قبل الوطنية.

ثم إن الميثاق الوطني كان ثمن تنازل كل من مسلمي لبنان ومسيحييه عن الارتباط بقوة أجنبية تحمي مكتسبات الطائفة، فكان على المسلمين أن يتخلوا عن مطلب الوحدة مع سوريا مقابل تخلي المسيحيين عن الحماية الأجنبية.

لكن لئن وقع «الخوري» و«الصلح» في خطأ تطييف السياسة من حيث أرادا تفاديه، فما لم يكن بوسعهما القفز فوقه هو تطييف الاقتصاد، ذلك أن عوامل تاريخية معقدة يضيق بها المجال هنا جعلت مراكز الثراء في لبنان مسيحية، في حين كانت أكثرية بؤر الفقر مسلمة، وهنا تحديدًا كان مكمن الخطر، وكان البركان يسخن على مهل، منتظرًا الفرصة للغليان ثم الانفجار تاليًا.

كان لابد أن يضيق لبنان في لحظة ما بتناقضاته الطافحة، وأن ينفجر كنجم احتدمت التفاعلات بداخله إلى درجة الانهيار، متحولًا إلى ثقب أسود يبتلع شرور المنطقة بشراهة، ثم لا يجد سبيلًا لهضمها سوى استهلاك كمية أكبر من البارود، وفي الأثناء يبحث عن «الشماعة» التي سيُعلق عليها الأمر برمته، وهذه المرة كانت موجودة وجاهزة وتتمتع بكل الصفات التي تؤهلها للعب هذا الدور: الفلسطينيون[1].


الملاذ

كان نصيب لبنان من النزوح الفلسطيني الجماعي إبان نكبة 1948 وفي أعقابها المباشرة يتراوح بين 100 و130 ألف لاجئ، شكلوا ما يقرب من 14% من قوام لاجئي النكبة المقدر عددهم بنحو 750 ألف لاجئ.

وربما لم يخطر ببال أي لاجئ من هؤلاء أن مخيماتهم الفقيرة البائسة ستكون وقود حرب جنونية بعد ربع قرن، ذلك أن ما كان يدور بمخيلة هؤلاء وغيرهم من اللاجئين في الدول الأخرى أن الجيوش العربية لن تلبث أن تحرر فلسطين، فاتحة الطريق للعودة إلى الديار، ثم إن روابط النسب والمصاهرة والمتاجرة ربطت منذ قديم الزمن بين الشمال الفلسطيني والجنوب اللبناني.

لقي اللاجئون الفلسطينيون الأوائل في لبنان تعاطفًا شعبيًا أصيلًا، ولم تبد الحكومة تأففًا من استقبال الفلسطينيين على أراضيها، آملة ألا تطول هذه الاستضافة.

هكذا، لقي اللاجئون الفلسطينيون الأوائل في لبنان ترحابًا وتعاطفًا شعبيًا حقيقيًا وأصيلًا واسع النطاق، والحكومة اللبنانية أيضًا لم تُبدِ في البداية تأففًا من استقبال الفلسطينيين على أراضيها، آملة ألا تطول هذه الاستضافة، ثم إن لبنان المستقل حديثًا كان حريصًا على ألا تجور النعرات الطائفية والعشائرية على الوجه العروبي والحداثي.

تركزت الأغلبية العظمى من اللاجئين بطبيعة الحال في الجنوب اللبناني الأقرب إلى الحدود الفلسطينية، غير أن البعض منهم أكمل طريقه إلى سوريا عبر الشمال اللبناني، وبشكل مباغت أغلقت السلطات السورية حدودها في وجه اللاجئين، وهذا ما يفسر وجود المخيمات الفلسطينية في شمال لبنان، مثل مخيمي البداوى ونهر البارد، الذي بناه اللاجئون العاجزون عن اجتياز الحدود السورية قرب طرابلس، ولم يتحول إلى مخيم رسمي سوى عام 1955.

لم يمض وقت طويل حتى أدرك الجميع أن إقامة الفلسطينيين ستطول في لبنان، فالدول العربية لم تعجز عن استرداد فلسطين فحسب، وإنما لم تصمد الأنظمة العربية أمام انقضاض جيوشها العائدة على العروش الملكية. المهم أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» بدأت تتولى أمر المخيمات في لبنان بدءًا من عام 1951، وتحولت خيام القماش إلى جدران حجرية مسقوفة بالزينكو[2].


السياسة

سرعان ما ابتلعت أمراض السلطة المزمنة الشيخ «بشارة الخوري»، فبدأ في محاباة أقاربه ومعارفه بالمناصب والتسهيلات، لكن الشعب اللبناني الذي كان يفور بحيوية الاستقلال واستشراف مستقبل زاهر لم يستكن، كما أن زعماء الطوائف والعائلات خشوا من تعاظم سلطة «الخوري»، فاندلعت انتفاضة شعبية عام 1952 أجبرته على تقديم استقالته.

انتُخب «كميل شمعون» رئيسًا للجمهورية، وتزامن وصوله مع وصول «جمال عبد الناصر» إلى قمة السلطة في مصر، وسرعان ما طفت التناقضات بينهما إلى السطح، ففي حين وقف «عبد الناصر» موقفًا مناهضًا للأحلاف الغربية، ومهاجمًا حلف بغداد، أبدى «شمعون» تأييده غير الملتبس للحلف، وموقفه المنحاز للغرب والمستدعي لحمايته في مواجهة صعود إقليمي كاسح للقوى القومية العربية ذات الصبغة الناصرية والامتداد الإسلامي.

فلسطين، لبنان، مخيم لاجئين
أول صورة يتم التقاطها لمعسكر اللاجئين الفلسطينيين التابع للأونروا في نهر البارد في لبنان عام 1950.

تزامن وصول «شمعون» أيضًا مع إدراك أن الوجود الفلسطيني في لبنان وغيره من بلدان اللجوء لن يكون مؤقتًا، وفجّر هذا الأمر مخاوف لدى المارونية السياسية المهيمنة على قمة الهرم السياسي والاقتصادي في لبنان، إذ من شأن وجود الفلسطينيين وتكاثرهم وامتزاجهم باللبنانيين أن يقلب الميزان الديموجرافي لصالح المسلمين، وأن يضيف إلى بؤر الفقر اللبناني بؤرًا جديدة تهدد بانفجار طبقي قادم لا محالة.

كان العهد الشهابي شديد الوطأة على المخيمات، اتسم بقمع المكتب الثاني لأي نشاط كبير أو صغير داخل المخيمات، وفُرضت أحكام عرفية بالغة القسوة وغير مبررة في بعض الأحيان.

عام 1958، اشتعلت أزمة كادت تودي بلبنان إلى تمزق داخلي، إثر محاولة «شمعون» تمديد ولايته الرئاسية بالمخالفة للدستور، متلاعبًا بالتوازنات الحساسة المرتكزة على الميثاق الوطني، وحاول توريط الجيش اللبناني والزج به في هذا الصراع ضد القوى المناوئة لسلطته، لكنه اصطدم بصلابة العماد «فؤاد شهاب»، قائد الجيش اللبناني، الذي رفض بحزم حماية ألاعيب «شمعون» وتطييف الجيش، لكنه في الوقت نفسه حال بين المعارضة وبين الحسم العسكري.

انتهت الأزمة في العام نفسه بانتخاب العماد «شهاب» رئيسًا للجمهورية لمدة 6 سنوات، غير أن العماد «شهاب» كانت ثقته واعتماده على الجيش زائدين عن اللزوم، وكان من نتائج ذلك توسع وتغلغل المكتب الثاني، جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش اللبناني، وتدخله في الحياة السياسية من قمتها إلى قواعدها، في مجتمع غير مهيأ بطبيعته لتحمل هذا الطراز من الديكتاتوريات البوليسية.

وفيما يخص المخيمات الفلسطينية، كان العهد الشهابي شديد الوطأة، اتسم بقمع المكتب الثاني لأي نشاط كبير أو صغير داخل المخيمات، وفُرضت أحكام عرفية بالغة القسوة وغير مبررة في بعض الأحيان، مثل منع الانتقال من مخيم إلى مخيم دون تصريح، وفرض حظر التجول بعد العاشرة مساءً، ومنع قراءة الجرائد في الأماكن العامة، وحظر العمل في عشرات المهن على الفلسطينيين، ناهيك بتعسف ضباط المكتب الثاني واستعراض سلطتهم على سكان المخيمات، مثل قيامهم بتوقيف واعتقال البعض منهم دون سبب.

وحتى بعد انتهاء ولاية «شهاب» عام 1964، استمر خليفته «شارل حلو» على النهج ذاته، معتمدًا على الجيش والاستخبارات في ضبط السياسة والمجتمع والمخيمات، إلى أن وقعت هزيمة 1967 بالجيوش والأنظمة العربية، مُجهِزة على أسطورة القومية العربية والناصرية، ومانحة الفرصة الفلسطينيين للإمساك لأول مرة بقرارهم المستقل واعتمادهم على الكفاح المسلح بديلًا عن التعويل على الأنظمة العربية[3].


انتفاضة المخيمات

والواقع أن الهزيمة دفعت بالأنظمة العربية للتسابق لدعم فصائل المقاومة الفلسطينية، طالبين منها دعمًا معنويًا وإعلاميًا أمام شعوبها بالمقابل، واستفادت فصائل المقاومة – التي هيمنت على منظمة التحرير الفلسطينية في هذا الوقت – ثقة متزايدة بالنفس ونقلة نوعية وكمية في بنيتها العسكرية.

وبدأ لبنان يدفع كلفة باهظة للوجود الفلسطيني الفدائي على أراضيه، عمقت شعور الفئات المستفيدة من الوضع القائم بأن مكتسباتها مهددة، ففي 28 ديسمبر/كانون الأول 1968 أغارت قوة كوماندوز إسرائيلية على مطار بيروت الدولي، ودمرت 13 طائرة مدنية تابعة للخطوط الجوية اللبنانية، ردًا على عملية فلسطينية ضد طائرة إسرائيلية في مطار أثينا، انطلق منفذوها من لبنان.

انفلتت الأوضاع في المخيمات الفلسطينية في 1969، وبدأت أسطورة الفدائي الفلسطيني تنغزل، مانحة سكان المخيمات المقهورين ثقة بالنفس غير معهودة.

وكالعادة، انعكس ذلك على سطح المرآة اللبنانية، وبدأ السلاح يظهر وينتشر في أزقة المخيمات الفلسطينية في لبنان، بينما تعرضت الدولة اللبنانية لضغوط كثيفة من الأنظمة العربية المهزومة، من أجل إطلاق العنان للفدائيين الفلسطينيين ومنع المكتب الثاني من لجم المخيمات.

انفلتت الأوضاع في المخيمات الفلسطينية، التي شعرت فجأة وأخيرًا بالتحرر من قيود الاستخبارات الثقيلة، وبدأت أسطورة الفدائي الفلسطيني تنغزل، مانحة سكان المخيمات المقهورين ثقة بالنفس غير معهودة، وتضخمًا في الإحساس بالذات والهوية وقدرة السلاح على التغيير، إلى أن وصل الأمر للتناوش مع الجيش اللبناني.

بدأت في خريف عام 1969 اشتباكات بين المسلحين الفلسطينيين في مخيم نهر البارد والجيش اللبناني، سرعان ما امتدت إلى مخيمات الجنوب اللبناني والبقاع، ودفعت سوريا بمجموعات مسلحة من حركة طلائع حرب التحرير الشعبية – قوات الصاعقة، الموالية لها للاشتباك مع مواقع للجيش اللبناني على الحدود السورية لتخفيف الضغط على المخيمات، وإجبار الجيش اللبناني على وقف هجماته عليها.

وفي محاولة لاحتواء الموقف، توجه العماد «إميل البستاني» قائد الجيش اللبناني إلى القاهرة للقاء رئيس منظمة التحرير «ياسر عرفات» في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 1969، وهو اللقاء الذي تمخض عنه اتفاق القاهرة، وبداية تأسيس دولة فلسطينية داخل الدولة اللبنانية[4].

المراجع
  1. حمدي الطاهري، سياسة الحكم في لبنان، دار النهضة العربية، القاهرة، 1986.
  2. محمود داوود العلي، اللاجئون الفلسطسنسون في لبنان..إلى متى، دار الجليل للطباعة والنشر، عمان، 1982.
  3. أشرف إبراهيم القصاص، دور المقاومة الفلسطينية في التصدي للعدوان الإسرائيلي على لبنان من عام 1978 – 1982، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير من الجامعة الإسلامية بغزة، 2007.
  4. «في بلاد الأرز»، الحلقة السابعة من السلسلة الوثائقية «حكاية ثورة»، إنتاج قناة الجزيرة، موقع يوتيوب، تاريخ البث 21/11/2008.