قبل 28 عامًا صدر الكتاب الأكثر شهرةً داخل «إسرائيل»، والذي أحدث ضجة كبيرة في الأوساط السياسية والأكاديمية، والتي ما زال يتردد صداها إلى الآن؛ لأنه فتح المجال أمام ظهور تيار فكري جديد، كشف بدوره عن حالة «ما بعد الصهيونية» التي بدأت تتسرب إلى «المجتمع الإسرائيلي» منذ 1967.

إنه الكتاب الضخم «مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين»، للمؤرخ الإسرائيلي «بني موريس»، أول من أطلق مصطلح «المؤرخون الجدد» – في نفس عام صدور الكتاب 1988 – ليُعبّر عن تيار فكري قاده عدد من المؤرخين الإسرائيليين، سعوا إلى إعادة كتابة التاريخ الإسرائيلي، وضم هذا التيار في صفوفه إلى جانب بني موريس، شخصيات أخرى من قبيل: إيلان بابي، وآفي شلايم، وشولومو ساند.وقد قام بني موريس، بعد 15 عامًا بإصدار نسخة منقحة أكثر شمولية، سواء من حيث التفاصيل أو تداركها بعض النواقص أو تضمينها ردودًا على عدد من الانتقادات التي تم توجيهها إلى النسخة الأولى، كذلك حملت النسخة المُنقّحة في طياتها تفاصيل جديدة كشفت عنها الوثائق التي تم رفع درجة السرية عنها خلال الفترة التي تلت صدور النسخة الأولى.

تكمن أهمية ذلك الكتاب في كونه يعيد إلى الأذهان أسماء قرى فلسطينية تلاشت من الذاكرة إثر تسويتها بالأرض على يد القوات الإسرائيلية، كما يُركّز المؤلف على بعض الفظائع التي ارتكبتها التشكيلات العسكرية اليهودية منذ نوفمبر 1947، إلى جانب تركيز الضوء على شخصية «يوسف ويتز» مسئول صندوق التمويل الوطني اليهودي، الذي ترك بصمته واضحة في شراء الأراضي الفلسطينية، وكذلك في تشكيل لجنة الترانسفير.وإذا كان بعض المفكرين العرب قد رأوا في بروز المؤرخين الجدد اعترافًا متأخرًا بالتاريخ الصهيوني المشوه، فإن هناك مسئولية تقع على عاتق المؤرخين العرب لتقديم الرواية العربية الصحيحة دون نقص أو تبديل.

البداية

يحاول بني موريس في الفصل الأول للكتاب أن يعطي القارئ خلفية تاريخية مختصرة عن الوضع في فلسطين منذ نشأة الحركة الصهيونية حتى النكبة 1948.

تحول الاقتصاد اليهودي خلال سنوات الحرب العالمية الثانية إلى ورشة ضخمة لخدمة الجيش البريطاني.

يدّعي بني موريس أن الحركة الصهيونية نشأت نتيجة كتابات تضمنت نبوءة وبرنامجًا لتحقيقها، وقد صاحب ذلك هجرة يهود من روسيا إلى فلسطين تحت الحكم العثماني بدءًا من ثمانينات القرن التاسع عشر، مُكرِّسين أنفسهم لإعادة بناء وطن قومي للشعب اليهودي على «أرضه».

وقد أدى انتشار الاستيطان اليهودي في فلسطين إلى وقوع احتكاكات بين المجتمعات العربية واليهودية المتجاورة، حيث بدأ سكان المدن يشعرون بالاستياء من تدفق اليهود، وبدأت المخاوف تساورهم من حدوث تحريف ثقافي وديني، بل وصل الأمر إلى الخوف من أن ينتهي المطاف بأن يحل القادمون الجدد محلهم في البلاد.

ومع تطور الأحداث، توافرت عوامل أدت إلى يقظة القومية الفلسطينية العربية آنذاك، إلا أن الحركة الوطنية الفلسطينية العربية غلبت عليها منذ البداية وضعية الانقسام خلال عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وذلك إلى معسكرين:

الأول: التف حول عشيرة الحسيني، وطالب بإنهاء الانتداب البريطاني فورًا، وإيقاف الهجرة اليهودية، وإقامة دولة عربية على كامل أرض فلسطين.

المعسكر الثاني: قاده عشيرة النشاشيبي، المنتمية إلى الطبقة الأرستقراطية في البلاد، وعُرفت بأنها أكثر اعتدالاً، وأقل إلحاحًا على مسألة الاستقلال الفوري. وقد اندلعت الثورة العربية عام 1936، نتيجة تعاظم مخاوف العرب من إمكانية ترحيلهم في ضوء موجة الهجرة اليهودية الضخمة من أوروبا في منتصف الثلاثينات. ولكن تم سحق هذه الثورة؛ مما أدى إلى إضعاف المجتمع الفلسطيني بشكل كبير، سواء كان ذلك عسكريًا أو سياسيًا، كما مهّد الطريق لهزيمته عام 1948.

ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتِضُر القضية العربية الفلسطينية، حيث تبنّى الفلسطينيون مواقف دول المحور، بينما سارع اليهود للحاق بصفوف الحلفاء، وقاتلوا إلى جانبهم في معاركهم ضد النازي.وقد تحول اقتصاد اليشوف (الجماعة اليهودية في فلسطين) خلال سنوات الحرب إلى ورشة ضخمة لخدمة الجيش البريطاني، وهنا أيضًا كانت المهارات الفنية والصناعية المكتسبة، وما رافقها من بنية تحتية، ستصبح ذات أهمية كبرى في عام 1948. وبشكل عام، استثمر اليشوف فترة الانقطاع في القتال بين العرب واليهود للاستعداد للمواجهة القادمة. في حين لم يُقدِم الفلسطينيون والدول العربية على القيام بأي استعدادات في هذا الاتجاه، إلى أن تم تقسيم فلسطين، وإعلان «دولة إسرائيل» في 15 مايو 1948.

المجتمع اليهودي الفلسطيني واستعداداته للحرب

تمثلت مفاتيح نصر اليشوف في حرب 1948، في امتلاكه نظام تعبئة أكثر كفاءة، واقتصاداً أقوى، وتسليحًا أكثر تفوقًا، وتنظيمًا إداريًا وعسكريًا أفضل. كما تميّز بالتفوّق النوعي لعناصره البشرية، من حيث مستوى التعليم والخبرة العسكرية. وكان الجميع مدفوعًا بالرغبة في إقامة دولة يهودية بشكلٍ فوري، وهو الدافع الذي تزايدت قوته خلال الثلاثينات والأربعينات، مع بداية ظهور عمليات القمع ضد السامية في أوروبا الشرقية والوسطى.

تمكّن اليهود وأحزابهم السياسية من امتلاك الأدوات المؤسسية التي تمكّنهم من إقامة الدولة والحفاظ عليها.

وتمكّن اليشوف وأحزابه السياسية من امتلاك الأدوات المؤسسية التي تمكّنهم من إقامة الدولة والحفاظ عليها، وفي مايو 1948، كانت هناك حكومة جاهزة لتولي مقاليد السلطة، ولديها أغلب مؤسسات الدولة جاهزة.

أمّا عن الاستعدادات العسكرية لليهود، فقد بدأت في أعقاب «عمليات الشغب والمذابح» التي شهدتها أعوام 1920 و1921 و1922، والثورة في الفترة من عام 1936 إلى 1939. حيث تم تأسيس ميليشيا وطنية سرية ومنظمة على درجة عالية عُرفت باسم «الهاغاناه».

ومنذ نوفمبر 1947 بدأت الهاغاناه – التي ضمت آنذاك 35 ألف عنصر من بينهم نسبة من النساء – في التحول من ميليشيا إلى جيش نظامي.وبحلول يوليو 1948، تحولت الهاغاناه إلى قوات الدفاع الإسرائيلية لتحوي 63 ألف عنصر تحت السلاح، وتضم ما بين 11 و12 ألوية مسلحة بالمدفعية وقوات مدرعة، فضلاً عن قوة بحرية وجوية في مرحلة التطوير.

المجتمع العربي الفلسطيني واستعداداته للحرب

رجعت هزيمة الفلسطينيين العرب بشكل كبير إلى نقائص مجتمعهم وانقساماته، فقد كان المجتمع الفلسطيني فقيرًا يعتمد على الزراعة وتسوده الأمية بشكل كبير. وفي حالة بدائية من النواحي الاجتماعية والسياسية، وغير مُنظم، ويعجّ بالانقسامات العميقة، واتسمت التصدعات داخله (بين المدينة والقرية، وعائلتي الحسيني والنشاشيبي، والمسلمين والمسيحيين، والبدو والمجتمعات المستقرة) بعمق جذورها التاريخية.وعلى الرغم من وجود مكون حضري نامٍ ومتسع الرقعة، ظلت فلسطين العربية عام 1947، وبشكل أساسي مجتمعًا قرويًا.

ففي نهاية عام 1947، كان هناك مليون وربع المليون عربي (1.1 مليون مسلم، و150 ألف مسيحي) عاش ما بين 65 و70% منهم فيما يقرب من 800 إلى 850 قرية، في حين قطن الـ 30% الباقون في المدن، وتركز حوالي 70 ألف من البدو أساسًا في النقب الشمالي. وقد قاد المجتمع الفلسطيني العربي عدة عائلات عاشت في المدن، وخرج من بين صفوفها كبار ملاك الأراضي الزراعية، والسياسيين، والقضاء، والتجار، والعمد، وكبار الموظفين، وكبار رجال الدين، والأطباء، والمحامين، والمثقفين. وكان التزامهم وولاؤهم تجاه عائلاتهم والخاضعين لولايتهم والحي والمدينة على التوالي، وقد تعلق الأمر بهيكل أوليجاركي مارست فيه النخبة نفوذها وسلطتها على سكان الريف والحضر من خلال وسائل اقتصادية ودينية مباشرة أو غير مباشرة، وأبقت النخبة على مسافة بينها وبين الفلاحين والعمال، وسادت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية حالة من الامتعاض والشك المتبادل.

رجعت هزيمة الفلسطينيين العرب عام 1948 بشكل كبير إلى نقائص مجتمعهم وانقساماته.

كما قد أقدمت نخب العائلات خلال الثلاثينات على تأسيس أحزاب عربية سياسية رسمية، وكان من شأن تعدد هذه الأحزاب إضعاف قوة المعارضة. ويُلاحظ أن الأحزاب قد وُجدت فقط على الأوراق من دون أن تكون لها قوى حقيقية على أرض الواقع.وقد أجمعت كل الأحزاب عام 1936 على مساندة وقيادة الثورة، ولكن فشل الأخيرة نجم عنه التسبّب في مقتل عدة آلاف من العرب، وفرار عشرات الآلاف من البلاد، في حين انسحب كثيرون من النخبة والطبقة الوسطى من المعترك السياسي لشعورهم بالاشمئزاز.

وقد مثّل الانقسام ين المسلمين والمسيحيين عنصرًا حاسمًا آخر داخل المجتمع الفلسطيني. فالمسيحيون – الذين تركزوا في المدن – كانوا غالبًا أكثر ثروة وتعليمًا من المسلمين، وازدهرت أحوالهم خلال فترة الانتداب، وسادت في صفوف المسلمين شكوك من أن يُقدِم المسيحيون على الخيانة لمصلحة البريطانيين أو أن يتحالفوا مع اليهود.

وفي واقع الأمر لم يشارك المسيحيون في ثورة 1936، كما وضع جهاز استخبارات الهاغاناه قائمة بالشخصيات المسيحية البارزة «التي لها ميل إلى التعاون مع اليهود». وفي ضوء ذلك، رافقت الثورة درجة من العنف الموجه ضد المسيحيين، وشهدت الأعوام التي سبقت 1948، شيوع تعبيرات عن العداوة المسيحية الإسلامية، وفي بعض الأحيان وصلت إلى العنف.وظل الفلسطينيون يعتمدون في أغلب القطاعات على إدارة الانتداب، وبالتالي عندما بدأت الأخيرة في الانهيار (شتاء 1947 – ربيع 1948)، وعمّ القتال المدن والقوى والطرق، انزلقت فلسطين العربية نحو الفوضى، وسادت حالة من الاضطراب، وتلاشى الأمن والنظام.

أمّا عن الاستعدادات العسكرية لليهود، كان الوضع العسكري للعرب الفلسطينيين إبان 1948 هزيلًا للغاية، حيث استندت قواهم العسكرية إلى عدد محدود من الجماعات المسلحة، التي ضم كل منها مئات عدة من الأفراد غير النظاميين، بالإضافة إلى الميلشيات التي شُكلت في كل مدينة وقرية على حدة.وهو ما أدى إلى عدم تمكن الفلسطينيين من الاستيلاء على مستوطنة واحدة، في حين تمكّن اليهود بحلول منتصف مايو 1948، من الاستيلاء على 200 قرية ومدينة عربية، بما في ذلك يافا وبيسان وصفد وحيفا وطبريا

الجيوش العربية تمنح إسرائيل اليهود 80% من فلسطين

في الخامس عشر والسادس عشر من مايو 1948، قامت الجيوش العربية (الأردنية والسورية والمصرية) بـ «غزو» فلسطين؛ بهدف مساعدة الفلسطينيين، وإن أمكن، الحيلولة دون إقامة الدولة اليهودية واحتلال كل من الجزء العربي واليهودي من فلسطين.

مع انتهاء حرب 1948، هُزم الفلسطينيون، وبقوا من دون دولة، وكانت مشكلة اللاجئين التعبير الرئيسي عن هذه الهزيمة.

ورغم تمتع الجيوش العربية، في البداية، بميزة المفاجأة التكتيكية والمبادرة، فضلاً عن استخدام الأسلحة الثقيلة؛ لكنها فشلت سريعًا، وطُوقت من قبل الهاغاناه. وبحلول يوليو 1948، انتقل زمام المبادرة إلى أيدي قوات الدفاع الإسرائيلية، واتسمت الحرب بموجات متتالية من الهجمات الإسرائيلية.

وخلال شهري ديسمبر 1948 ويناير 1949، تمكنت القوات الإسرائيلية من تحييد القوات السورية والأردنية والعراقية، في حين سُحق الجيش المصري. وانتهى المطاف بموافقة الحكومات العربية على التوالي على توقيع اتفاقات الهدنة خلال الفترة من فبراير حتى يوليو 1949. ومع انتهاء الحرب، خرج الإسرائيليون رابحين، حيث سيطروا على أربعة أخماس فلسطين. في حين بقي الفلسطينيون، الذين خسروا، من دون دولة، وخضعوا للسيطرة الإسرائيلية والأردنية والمصرية. وكانت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين التعبير الرئيسي عن هذه الهزيمة.