نحن أصحاب وطن مسلوب، وقضية واضحة، ولكن الواضح أن واضع هذه المناهج لم يراعِ كل تلك الأمور والنواحي، والتزاماتنا كمجتمع محافظ، وفي تقديري أقول إنه منهاج خطر جدًا ويجب أن يُحاكم واضعو هذا المنهاج.

غسان وشاح، أستاذ التاريخ والحضارة وحقوق الإنسان في الجامعة الإسلامية بغزة، مُتحدثًا عن مناهج المرحلة الابتدائية في غزة.


سعت المناهج التعليمية الفلسطينية في تجربتها الأولى للإصدار بعد التخلص من تبعية الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، إلى لعب دور محوري في تربية النشء الفلسطيني، وتخليصه من تشوهات الاحتلال التي حاول زرعها عبر عقود.

لكن بعضًا من الضغوط مورست عليها فبقيت ناقصة خالية من النشاطات المُعززة لها في عصر يتصف بزخم المعلومات وزخم الأحداث وتسارعها بالإضافة إلى أهميتها وخطورتها. المناهج الفلسطينية في نسختها الأولى لم تستجب لهذه الصفات وإن استجابت بالنذر اليسير فقط؛ وذلك نظرًا لخصوصية الوطن الفلسطيني سواء بالاحتلال أو بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.


التعليم الفلسطيني قبل الاحتلال الإسرائيلي

لعل وقوع الفلسطينيين تحت نيّر الاحتلال منذ بدء التاريخ أثّر كثيرًا على سياسات التعليم لديهم، فكانت غايات التعليم تختلف وفقًا للحقبة التاريخية التي كانت تعيشها فلسطين؛ ففي العهد العثماني كان هدف التعليم خدمة السلطة الحاكمة، وتلقين النشء مفاهيمها، كما تم إهمال اللغة العربية لصالح التركية والفرنسية اللتين كانتا لغتين أساسيتين في التعليم، فكانت النتيجة تدني مستوى التعليم، وانتشار الجهل بصورة كبيرة بين فئات الفقراء والفلاحين.

أخضع الاحتلال الإسرائيلي التعليم في فلسطين لسياسة التجهيل، حتى وصلت نسبة التسرب الدراسي في الثمانينيات إلى النصف تقريبًا.

ومع دخول الاحتلال البريطاني إلى فلسطين، زادت عمليات التجهيل، حيث عمد البريطانيون إلى تنفيذ سياسة انتقائية في تعليم الطلبة، فكانت تسمح لثلاثة فقط بالانتقال إلى المدراس الثانوية بينما تحرم البقية، وفي المقابل غضت الطرف وقدمت الدعم الكامل لليهود لتنفيذ سياساتهم التعليمية التي تنسجم مع أهدافهم السياسية في فلسطين؛ ما خلق حالة من التحدي لدى العرب بالعمل على تحرير النشء من الأمية وبث الروح القومية والوطنية في نفوس الطلاب.

لكن الحال ما لبث أن تغيّر في أعقاب الحكم المصري لقطاع غزة والأردني للضفة الغربية منذ عام 1948 حتى 1967، فاتبعت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين وقتها سياسة تربوية جديدة، اعتمدت على فلسفة التعليم العربي المتبعة وفق توصيات الجامعة العربية ومنظمات التعليم المنضوية تحت لوائها، كان التركيز في المناهج على القومية والدين ووحدة الدم والتراث.

وبعد إصدار القانون الذي أقر بإلزامية التعليم للسنوات التسع الأولى لجميع الطلاب، ازدهر التعليم، وبات الفلسطينيون يعتمدون عليه في الحصول على فرصة للعمل وكسب لقمة العيش سواء داخل فلسطين أو خارجها، بالاتجاه إلى دول الخليج العربي التي استقبلت الكفاءات الفلسطينية في كافة المناحي المهنية والتعليمية.


سيطرة الاحتلال على العملية التعليمية

لم يكن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية احتلالًا للتراب وحسب، بل إنه نال من كل مظاهر الحياة الإنسانية والثقافية والسياسية والاقتصادية وحاول إصباغها بلونه التهويدي وبثقافته القائمة على إلغاء الغير.

فمنذ سيطرته الكاملة على الأراضي الفلسطينية عام 1967، أخضع قطاع التعليم لسياسة التجهيل حتى وصلت نسبة التسرب الدراسي لدى الطلبة الفلسطينيين في ثمانينيات القرن الماضي إلى النصف تقريبًا؛ ما شكّل تهديدًا على مستقبل الشعب الفلسطيني.

وقد اتخذ عدة طرق وأساليب وصولًا لتلك النتيجة؛ منها منع التعليم من القيام بدوره في المساهمة الفاعلة في التنمية، عبر حرمان القائمين على نظام التعليم من الاحتكاك بالعالم الخارجي، والتعاون مع المجتمع الدولي، بما يعرقل تقدمهم على المستوى الحضاري والإنساني. كما عمد الاحتلال إلى خفض الموازنات الخاصة بقطاع التعليم، وممارسة سياسات الإغلاق بحق المراكز التعليمية.

نشاطات طلابية في إحدى مدارس غزة الابتدائية
نشاطات طلابية في إحدى مدارس غزة الابتدائية

التجربة الفلسطينية في المناهج

بعد العام 1994، وبعد عودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى قطاع غزة والضفة الغربية إبان اتفاقية أوسلو، تمكن الشعب الفلسطيني من السيطرة على نظامه التربوي والتعليمي، وأصبحت مؤسسات التعليم جميعها تخضع للإشراف والرقابة الفلسطينية، وعمدت وزارة التربية والتعليم التي تشكلت وقتها إلى وضع المواصفات والمقاييس الجديدة للتعليم بمناهجه ومراحله المختلفة.

تلعثمت المناهج الفلسطينية بعد عام 2000 في تعليم الطلاب حق العودة، فلم تذكره إلا ذكرًا يسيرًا.

وفي العام 1998 وافق المجلس التشريعي الفلسطيني على خطة المنهاج الفلسطيني التي أعدتها وزارة التربية والتعليم العالي آنذاك، تلك الخطة اقتضت إنتاج مناهج فلسطينية متخصصة لجميع المقررات الدراسية من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية العامة بطابع يحفظ التاريخ ويُراعي خصوصية الفلسطينيين الذين يُواجهون سياسة الاحتلال في الطمس والتضليل، وتم البدء باستخدام هذه المناهج من السنة الدراسية 2000/2001، وذلك للصفوف من الأول إلى السادس الابتدائي، على أن يتم استبدال المناهج القديمة خلال أربع سنوات.

تحمّس الفلسطينيون للمناهج التعليمية، واعتبروها فخرًا ورمزًا لسيادة الدولة الفلسطينية، وأنها قادرة على توحيد الفلسطينيين وتجسيد الهوية من جهة، وكذلك المساهمة في تأسيس الشخصية الفلسطينية والمحافظة على هويتها عبر ترتيب المباحث بما تتناسب مع احتياجات المجتمع الفلسطيني.


انتقادات لم يخلُ منها المنهاج الفلسطيني

الإنجاز الذي حققه الفلسطينيون منذ عام 2000 بإنتاج مناهج تعليمية فلسطينية، بديلة للمناهج المصرية والأردنية التي أُوجدت في زمن الاحتلال الإسرائيلي، لم يخلُ من انتقادات؛ بعضها رأت أن المناهج الجديدة «صماء» عاجزة عن مُجاراة الحوار بسبب عزلة المعرفة عن القوى المسيطرة عليها، وأخرى لم يرق لها الحالة التقليدية التي جاءت عليها المناهج والكم الهائل من المعلومات والمعارف التي احتوتها دونما أن تتوافق مع المهارات المستحدثة في العصر الحديث، إذ خلت المناهج الفلسطينية من المواد العلمية المرتبطة بتنمية التفكير الإبداعي والتفكير الناقد القائم على البحث والاستكشاف، وذلك أثر سلبًا على تحقيق الأهداف المرجوة من المناهج الفلسطينية.

كما أُخذ على المناهج الفلسطينية أنها تلعثمت في تعليم الطلاب حق العودة إلى القرى والبلدات التي هُجّر منها الآباء والأجداد، فهي لم تذكره إلا ذكرًا يسيرًا، فحذفت بعض القصائد والقصص والدروس التي تتعلق بحب الأرض وتتحدث عن حق العودة، وحذفت بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن الجهاد.

إحدى دروس اللغة العربية للصف الرابع الابتدائي والتي تصف جدار الفصل العنصري بمصطلح “الجدار الأسمنتي”.

لم يكن ذلك غريبًا، فالمناهج التي أُعدت بأيدٍ فلسطينية لم تخلُ من التدخل الأجنبي، الذي أتى في صورة دعم مالي فرض أجندة الممول، والتي جاءت متساوقة مع أجندات ورغبات الاحتلال الإسرائيلي.

هذا الحذف الخطير أدى إلى تراجع دور المناهج التعليمية في تعزيز القيم الوطنية والأخلاقية وأثر سلبًا على حالة التعبئة الجماهيرية للأجيال القادمة بالقيم الوطنية العليا والتمسك بالثوابت، ومن جهة أخرى وضع المناهج والقائمين عليها في مواجهة تهمة «غسل الأدمغة».

لقد حوربت المناهج الفلسطينية منذ انطلاقتها ووصفها الغرب بأنها مناهج «إرهابية» تحض على العنف، واستخدموا الجهات المانحة الدولية في ذلك، وقد عمدت تلك الجهات إلى المناداة بتغيير المناهج واستبعاد بعض المقررات وإصلاح بعض المصطلحات التي تؤكد على الحق الفلسطيني في الأرض والعودة.


مناهج القدس تواجه الأسرلة

كتاب اللغة العربية الصف الرابع الابتدائي - فلسطين
كتاب اللغة العربية الصف الرابع الابتدائي – فلسطين

وكحال المدينة المقدسة مع التهويد وسلخ تاريخها الإنساني والحضاري عن وجهها لصالح التهويد، واجهت المناهج التعليمية في القدس المحتلة التهويد والأسرلة، بل إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي مؤخرًا أقدمت على حجب الدعم المالي عن مدارس القدس لإرغامها على تطبيق المنهج الإسرائيلي، إلا أن ذلك لم يحدث أبدًا.

في البداية اتجهت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى إلحاق جميع المدارس الحكومية بالقدس والتابعة لوزارة التربية والتعليم الأردنية بجهاز سلطات المعارف الإسرائيلية، وسهّل لها اعتقالها لمدير التربية وقتها وإغلاقها لمكتب التربية والتعليم الأردني في القدس تنفيذ ذلك دون أي مواجهة.

كتاب الرياضيات الصف الثالث الابتدائي - فلسطين
إحدى تدريبات كتاب الرياضيات للصف الثالث الابتدائي، حيث يتمحور الحديث حول مدينة رام الله وكأنها العاصمة وليس القدس.

ولمزيد من السيطرة ضُمت المدارس المقدسية الخاصة إلى وزارة المعارف الإسرائيلية وفقًا لما يقتضيه قانون رقم (564)، وعمدت بعد ذلك بثّ سمومها التهويدية في نفوس الطلبة عبر تطبيق المناهج الإسرائيلية التي اعتبرت الأرض المقدسة يهودية محتلة من قبل الدخلاء العرب «الفلسطينيين».

يسعى الاحتلال بكل الطرق والوسائل إلى السيطرة على قطاع التعليم في القدس المحتلة.

الخطير في موضوع تعليم القدس أن الاحتلال عمد إلى إمداد المدارس العربية هناك بمدرسين يفتقرون للمؤهلات العلمية والمهنية والفنية، جُلّهم كانوا خريجين من الثانوية العامة، كما عمدت إلى إفشاء ظاهرة التسرب المدرسي بعدم إلزامها للطلبة بالالتحاق بالمدارس، والأخطر من ذلك أنها حاربت التعليم بحرمان أهل القدس من إنشاء مدارس وأرهقتهم بالضرائب حتى باتوا يفضلون العمل وكسب المال على التعليم، ولكن هذه السياسة قوبلت برفض شديد على مستوى السكان والجهاز التعليمي.

تسعى حكومة الاحتلال الإسرائيلي بكل الطرق والوسائل إلى السيطرة على قطاع التعليم في القدس المحتلة، ولتحقيق ذلك لا تُزود المدارس الفلسطينية بالكتب المدرسية، كما تعمد بين الفينة والأخرى إلى إغلاق المدارس التي ترفض تعليم المناهج العبرية للطلاب الفلسطينيين فيها.

وتُشير تقارير إعلامية إلى أن وزارة المعارف الإسرائيلية تجري باستمرار تعديلات طفيفة على المناهج المدرسية وتقوم بحذف كل ما يتعلق بحقائق القضية الفلسطينية، ومصطلحات النكبة وحائط البراق وفلسطين، والشعار الفلسطيني.

كما تمنع الوزارة الإسرائيلية الطلبة الفلسطينيين من إنشاد النشيد الوطني الفلسطيني في الطابور الصباحي، وحذفت من المناهج مواضيع عن الانتفاضة بالإضافة إلى بعض القصائد الوطنية، كـ قصيدة «عائدون» للشاعر الفلسطيني الكبير هارون هاشم رشيد من كتاب اللغة العربية للصف السابع الابتدائي، كما تم إلغاء درس «معركة حطين» من كتاب التربية الإسلامية للصف السادس الابتدائي، وقامت بشطب تمرين من كتاب التربية الإسلامية يسأل عن كيفية المحافظة على فلسطين.

وتعمد سلطات الاحتلال إلى استخدام أسلوبي الترغيب عبر تقديم مساعدات للمدارس التي تُطبق منهاجها، والترهيب عبر إجراءات التضييق والإغلاق، وذلك من أجل القضاء على الثقافة الوطنية الفلسطينية في مدينة القدس وتهويدها بالكامل.

المراجع
  1. هبة سهيل أبو غضيب، "المناهج الفلسطينية تتلعثم في تعليم حق العودة"، موقع منظمة ثابت لحق العودة، ديسمبر 2012.
  2. أفنان دروزة، "مشكلات يواجهها التعليم الفلسطيني حاليًا"، المدونة الخاصة بالكاتب، ديسمبر 1996.
  3. "تفاصيل المنهاج الدراسي الجديد من الصف الاول حتى توجيهي"، وكالة فلسطين اليوم، 11 أغسطس 2016.
  4. علياء العسالي، "قراءة في أثر الاحتلال على واقع التعليم في المجتمع الفلسطيني".
  5. رنا الشرافي، "التعليم في القدس: المال مقابل تطبيق المنهاج الإسرائيلي"، 8 أغسطس 2016.