تبدأ وقائع الأزمة في 26 أبريل/نيسان الماضي عندما نجحت المقاومة السنية في محافظة سيستان-بلوشستان الإيرانية، في اغتيال 10 عسكريين بينهم ثلاثة ضباط من قوات حرس الحدود، وعبر المهاجمون الحدود عائدين إلى باكستان حاملين معهم ضابطًا أسيرًا.

بعد ذلك أعلنت جماعة «جيش العدل» مسئوليتها عن الهجوم، وأن مقاتليها سيستمرون بمقاومتهم حتى طرد آخر جندي فارسي وتحرير آخر شبر من أرض بلوشستان، وعرضت صورة لأسلحة وصفتها بـ«غنائم الهجوم».


جيش العدل يوقع بين طهران وإسلام أباد

ويعرّف جيش العدل نفسه بأنه «حركة جهادية في بلاد فارس تسعى لإسقاط الحكومة الإيرانية وتحكيم الشريعة الإسلامية»، وتأسست الحركة عام 2012، بعد عامين من إعدام السلطات الإيرانية، لعبد الملك ريغي، زعيم حركة جند الله، فتبنى رفيقه صلاح الدين فاروقي، مبادرة لتوحيد فصائل المقاومة ضد الاحتلال الإيراني في محافظة سيستان-بلوشستان أسفرت عن تأسيس جيش العدل، ومنذ انطلاقه تبنى أكثر من 200 عملية، تضمنت قتل واختطاف أكثر من 150 من أفراد قوات الأمن الإيراني، وتتهم الحركة السلطات الإيرانية باضطهاد أهل السنة وإعدام العلماء والدعاة، وارتكاب انتهاكات بشعة ضد السكان البلوش السنة، بينما تتهمهم إيران بتلقي دعم خارجي من أعداء الدولة،لكن الحركة نفت على لسان إبراهيم عزيزي، مسؤول العلاقات العامة بها، تلقي أي دعم من دول أخرى، بل قال إنهم يرحبون بأي دعم خارجي، في ظل شح الموارد والإمكانيات الذي يعانون منه.

وقد اختارت المقاومة موضع الهجوم ببراعة شديدة، فهذه هي الجهة الوحيدة التي لا يستطيع الإيرانيون ملاحقتهم فيها، فالجانب الباكستاني من الحدود خارج نطاق سيطرة الحكومة، فلا يوجد بها أي تواجد أمني، ولا سلطة هناك سوى سلطة القبائل البلوشية، التي توفر الحماية لأبنائها من أعضاء المقاومة، فالبلوش يتواجدون على جانبي الحدود، حيث تتقاسم إيران وباكستان مساحة كبيرة من إقليم بلوشستان، وبلوش الدولتين لهم نفس اللغة والدين والمذهب والعرق، وكلا الشطرين يعاني من الفقر والتهميش، ولا يعترفون بالحدود التي تفرق بينهم.

ونظرًا لاتخاذ جيش العدل إقليم بلوشستان الباكستاني قاعدة آمنة له لشن هجماته على الحدود الإيرانية، فقد حمّلت طهران جارتها الشرقية مسئولية الهجوم، وكررت التهديد بإعلان الحرب عليها واجتياحها عسكريًا، على لسان محمد باقري، رئيس الأركان الإيراني، أعقبه تصريح من نائب قائد الجيش الإيراني، أحمد رضا بوردستان، بأن «إيران تحتفظ بحقها الطبيعي والقانوني في تدمير أوكار الإرهابيين في عمق أراضي الجيران»، وأن «إيران لا تجامل حول أمنها أي طرف آخر».

في حين اكتفت إسلام أباد بإدانة التصريحات الإيرانية، ونفت وجود ما يسمى بجيش العدل على أراضيها، وطالبت طهران بتزويدها بأي أدلة أو معلومات عنها، إذ أنها تدرك عجز الإيرانيين عن معرفة أية معلومات عن الجماعات المتواجدة حتى داخل حدودهم،فأرسلت طهران وزير خارجيتها، محمد جواد ظريف، في 3 مايو/آيار الجاري، فاتفق مع الباكستانيين على إنشاء خط ساخن بين مسئولي أمن البلدين، والعمل على تحرير الأسير.

وكانت الشكوك زادت بين إيران وإسلام أباد، منذ انضمام الأخيرة للتحالف العسكري الإسلامي الذي أعلنته السعودية والذي يضم 39 بلدًا، وقد فاقم التوتر بين البلدين، تولي القائد السابق للجيش الباكستاني الجنرال رحيل شريف، قيادة قوات التحالف، برغم التحفظات الإيرانية، و حاولت باكستان قبيل الهجوم الأخير تلطيف الأجواء مع طهران بطلب ضمها للتحالف، وهو الطلب الذي رفضته السعودية واستغربته إيران، إذ أن التحالف أنشئ بالأساس لمواجهة مشاريعها التوسعية.


باكستان بين عطايا الملوك وشراسة الفرس

نواز شريف، حسن روحاني
الرئيس الإيراني، حسن روحاني ورئيس الوزراء الباكستاني، نواز شريف

وجاءت المطالبات الإيرانية الأخيرة لتزيد من الأعباء الأمنية على حكومة إسلام أباد، التي تنفق مليارات الدولارات على الملف الأمني في الإقليم الملتهب، للتصدي للحركات الانفصالية التي تسعى للاستقلال وتأسيس دولة بلوشستان الكبرى، بالإضافة إلى التنظيمات الجهادية والتكفيرية، وبالكاد تستطيع تأمين المنشآت الحكومية والاستثمارات الأجنبية في الإقليم الذي يعتبر نقطة تركز الاستثمارات الصينية الضخمة، وبالتالي فإن بكين حاضرة في المشهد بدرجة ما، لكن هذا ربما لا يغير من الموقف الباكستاني كثيرًا، فالبلدان لا يريدان أي نزاع مع الرياض أو طهران، فكلاهما له أهميته الكبيرة، فباكستان لا تريد استفزاز جارها المشاكس، ولا خسارة الدعم السعودي السخي، والصين ترتبط باستثمارات كبيرة مع الاثنين، ولن تنحاز لصف إسلام أباد حال نشوب نزاع مع إيران، كما هو حاصل في الصراع مع الهند، فالموقف هنا مختلف.

وتواجه باكستان مهمة شبه مستحيلة عندما تحاول التوفيق بين علاقاتها مع السعودية وإيران، إذ ترى الأخيرة أن إسلام أباد تنخرط تدريجيًا ضمن مخطط سعودي لتأليب الأقليات السنية داخل إيران، لاسيما بعد تصريحات الأمير محمد بن سلمان في لقائه الأخير على التليفزيون السعودي مطلع هذا الشهر، حيث قال: «لن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سوف نعمل لكي تكون المعركة لديهم في إيران».

وجاء رد حسين دهقان وزيرِ الدفاع الإيراني، سريعًا؛ إذ هدد في حديثٍ لقناةِ المنار اللبنانية بأنه: «إذا ارتكبت الرياضُ أيَ حماقةٍ بالاعتداءِ على إيرانَ فانه لن يَبقى منَ السعودية مكانٌ آمنٌ غيرُ مكةَ والمدينة»، وجاء اختيار القناة التابعة لحزب الله لتذكير خصمه بامتلاك طهران أذرع ضاربة ممتدة في المنطقة، فالتهديدات السعودية تقلق الإيرانيين بشدة، فالأقليات هي نقطة ضعفهم الكبرى، ويخشون من امتداد أيادي الرياض للداخل الإيراني، فالأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق للمخابرات السعودية، قال بكل وضوح «أنا أريد إسقاط النظام» خلال حضوره مؤتمر جماعة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة، في باريس العام الماضي.

ويأتي حضور رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف، للقمة العربية الإسلامية الأمريكية المنعقدة بالرياض، لتزيد من شقة الخلاف مع إيران، إذ أن الاجتماع يبحث وسائل جماعية مشتركة لمحاصرة إيران وتقويض نفوذها، وتكتيل العالم السني في مواجهتها.

ورغم أن الموقف الرسمي الباكستاني، في عهد نواز شريف، يميل لصالح الأجندة السعودية، إذ يرتبط شريف مع الرياض بعلاقات وثيقة، فهي التي أنقذته من الإعدام بعد انقلاب 1999 واحتضنته وساعدته في العودة إلى السلطة، لكنه في النهاية لا يستطيع تجاوز مراكز القوى في بلاده المتماهية مع الأجندة الإيرانية، في ظل وجود أقلية شيعية مؤثرة، متواجدة بقوة في المناصب العليا بالجيش والقوات الأمنية والإدارة المدنية، وعدد من المركز الحساسة، بالإضافة إلى وجود أعداد كبيرة من المعاهد والجامعات والمراكز الثقافية الإيرانية، المنتشرة في أنحاء البلاد، وسيطرة اللوبي الإيراني على وسائل الإعلام، وقدرته على توجيه الرأي العام؛ فلم يستطع شريف مشاركة السعودية في عملية عاصفة الحزم بسبب رفض البرلمان، وضغوط القوى الشيعية.

ويخشى شريف من أن إقدامه على أي خطوة غير محسوبة، قد يكون له عواقب وخيمة على بلاده، فالبلاد لها تاريخ قريب مؤلم في الصراع المذهبي، الذي ينتظر أي شرارة لتأجيجه، والشيعة يمثلون أغلبية في بعض مناطق الشمال مثل كلكت وبلتستان، وينخرط الآلاف من شبابهم في ميليشيات عسكرية، تشارك في حروب إيران التوسعية، ولهم لواء عسكري كامل يقاتل في سوريا مع القوات الإيرانية تحت اسم «لواء زينبيون»، فطهران تمتلك أوراقًا كثيرة كفيلة بإرباك المشهد الباكستاني تمامًا، وقد استغلت هجوم بلوشستان لتصب جام غضبها على إسلام أباد، بسبب محاولتها التخلي عن سياسة التوازن الإقليمي، لتدفعها إلى مراجعة خطواتها وإعادة قراءة المشهد بطريقة أكثر حذرًا، وعدم الاستهتار بـ«اللعب بالنار» مع النظام في طهران.