بقلم رشيق فتّان، تُدلي الأديبة اللبنانية «وداد سكاكيني» (1913- 1991م) بخواطرها الراقية حول الحج، لا نقول إنها تنظر نظرة نسوية من زمن فات لأبناء جنسها ورؤيتهن لهذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وإنما نقول إنها نظرة أنيقة لفتاة من فتيات الإسلام في العصر الحديث لهذه الشعيرة المباركة.


يتهادَيْنَ في الحج

هنالك على السفوح المقدسة من عرفات ومنى، حيث يتناوحُ الأخشبانِ بهامتيْهِما العاريتين، وفي عَدْوة المسعى بين الصفا والمروة تتهادى نساءُ في الحجيج، متلفعات بالأبرار البِيض، مؤتزرات بأنقى الجلابيب، يبتهلْنَ إلى الله بوجوه مشرقةٍ بالرضا، وقلوبٍ فياضة باليقين، جياشة بالحنين، إلى بيته الحرام؛ وكما يزم الرجل رحاله، ويلملم أحماله، ويطوي البِيد أو يمخرُ البحار، ليصل إلى ديار بني هاشم وعبد شمس، بإيمان لا يزعزعه زمان، وآمال ترثها الأجيال من الأجيال؛ هكذا تسارع نساؤنا في مواكب الرجال، إلى دارة الوحي وكعبة الدين، لا يصدهن عن الحج حرب ولا بُعد، ولا يعوقهن غد غامض مجهول، أو ولد حبيب، فإذا بلغن مكة المكرمة، وباشرن فريضة الحج، بدأن من الشعائر بالإحرام، فلبسن كالرجال إزاراً ورداء جديدين ناصعين بالبياض، ثم والْينَ التلبية، رافعات بها الأكف، مبدئات ومعيدات: الله أكبر، الله أكبر! لبيك اللهم لبيك… فيتردد هذا الهتاف، ويضيع في زمام الحجيج كلما علون شرفاُ ونجادا، أو هبطن سفحاً ووهادًا، فمن حول البيت العتيق كم طوفت مسلمات مستلمات الحجر الأسود، ميامنات فيه أشواطاً سبعة مباركة! ولكم ثمة وفين بالنذور، وتشبثن بالأستار الشريفة، داعيات إلى الله بالرحمة والغفران، وسلامة الإياب إلى الأوطان.


حاجّات من زمن فات

كانت «زُبيدة بنت المنصور» زوج الخليفة العباسي هارون الرشيد تتوق للحج كلما حج الرشيد، الذي كان من دأبه أن يغزو عامًا ويحج عامًا، فلما قتل ابنها الأمين، واستولى المأمون على الخلافة، جاءت زبيدة الثكلى حاجة محتسبة عند بيت الله مصابها في ابنها، فأكبت على المبرات، وأجرت عيناً حتى اليوم باسمها، يجد عندها الحجيج سكناً للهاثهم، وريّاً لظمائهم… ومن يدري، فلعل السيدة زبيدة – يرحمها الله- كانت إذا وقفت عند أستار الكعبة تمزج الرحمات بالدمعات، وتنشد قول الحسن بن هانئ في ابنها الأمين:

طوى الموتُ ما بيني وبين محمد … وليس لما تطوى النية ناشر لئن عُمّرت دور بمن لا أحبُّه … فقد عُمِّرت فيمن أحبُّ المقابر وكنتُ عليه أحذر الموتَ وحده … فلم يبقَ لي شيء عليه أحاذرُ

ثم تنثني إلى الصدقات، فتأمر بإمداد المعوزين والمساكين: فتكسوا العريان، وتطعم الجائع، وتعطى الفقير… ومن الغريب ألا يسلم عصر من عصور الأدب من مزاحمة الشعراء للنساء، ولو كن في مناسك الحج ومحاريب العبادة والزهادة: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟)… هكذا كانوا يرتقبون أسباب الدعاء، ويتلمسون مراتع الفتون، فيجيبون داعي القلب، كما يجيبون داعي الرب.


غَزَلٌ في المشعر الحرام

على أن أشهر وأكثر من تصدي للنساء بالغزل والثناء هو «عُمر بن أبى ربيعة»، فقد اتخذ من أيام الحج موسماً للهو ومجانته، وكثيراً ما وقف عند الحطيم هائم النفس يترقب وينشد:

أيها الرائحُ المجد ابتكارا … قد قضى من تهامة الأوطارا من يكنْ قلبُه صحيحاً سليماً … ففؤادي بالخيف أمسى مُعارا ليت ذا الدهر كان حتماً علينا … كل يومين حجة واعتمارا

وقد بلغ من عبثه وغزله أن نفرت كل حصان رزان من الحج، وأبى أحرار الرجال على نسائهم تأدية هذه الفريضة كلما جاء هذا الشاعر المخزومي إلى تلك المناسك المباركة.

كان عمر يقتحم العقبات ولا يحجم عن تعقب الحسان وتتبع الغواني في مغاني الطائف أو بين مسارب العقيق وواديه البهيج، مهما لقي من تهديد الخفاء والمتزمتين، ومِن وعيد أصحاب الغيرة على الحرمات، ولكَم هجرَ مكة أناسٌ فراراً من هذا الشاعر الغَزِل، وخشية تشبيبه بكرائمهم، وتنويهه بأسمائهنّ، وكشفه عن معالم الجمال فيهن.

أما موكب النبيلات من شريفات الحجاز أو العراق والشام في مواسم الحج، فكانت حافلة بالهوادج والرواحل مثقلة بالمتاع والزينة. روي أن عائشة بنت طلحة ذات مرة ومعها ستون بغلاً عليها الرحائل والقباب، فعرض لها «عروة بن الزبير» قائلاً:

عائش يا ذات البغال الستين … أكل عام هكذا تحجين؟

فأرسلت إليه: نعم يا عُرَيَّة! فتقدَّم إن شئتَ. فكفَّ عنها، ونَدِم على فضوله.

ولم تكن كلُّ النساء في عصر عُمر سواء في التنكر للشعراء، والتحرج من غزلهم ولهوهم، فالجميلة منهن كانت تتمنى أن يسير في ذكرها الشعر، ولاسيّما في شعر عمر بما يزيدها تيهاً بحسنها، ويغري بها الخُطَّاب.

وكان الشاعر العرجي يتصدى في موسم الحج لمن عناهن بقوله:

مِن اللاء لم يحججن يبغين حسبة … ولكن ليقتلن البريء المغفَّلا

ولكُثير عزة، وجميل بثينة، والأحوص أشعار في بعض الحاجَّات المترفات ممن رضين بالأماديح، وعُدن تياهات بلقيا الشعراء، مباهيات بغزلهم ونسيبهم، حتى أن النواسي على مجونه لحق بجنان جارية الثقفي إلى طريق الحج، فقال:


نساء الأربعينيات من القرن العشرين

حججتُ وقلتُ قد حجَّتْ جنان … فيجمعني وإياها المسير!

وفي الواقع أن نساءنا في الحجِّ كن في القديم يؤدين هذه الفريضة بشوق وحماسة ودافع ديني صميم؛ وهنالك كن يشهدن في ذاك الموسم العظيم مباهج الإسلام، وعزة الدين، وفضل المساواة، وكانت الحاجّة تعود إلى بلادها سعيدة جد سعيدة، مزهوة بما نالت مِن شرف الخطوة بالأرض المطهرة التي فيها أول بيت وُضع للناس، والتي ضمت قبر الرسول عليه السلام، وصحبه الأكرمين، وأطلعت آفاقها المنورة كواكب رجال تسلموا مفاتح الدنيا وملكوت زمامها.

أما نساء اليوم من أنداد مترفات الأسر، وفضلياتهن فقلَّما يدور الحج في خواطرهن وهن مستطيعات إليه سبيلاً، إذ أن تيار الحضارة قد جرفهن بريحِه العاتية نحو الغرب فسُجِنّ في بلاده، وزُرْنَ عواصمه الكبرى للمعرفة والسلوى وكان إليها حِجهن المبرور.

فيا مهبط الوحي ويا موطن النبوة والهجرة، إليك تهفو روحي هفهافة كالأجنحة، خالصة صافية كماء النبع، متوجهة للذي فطر السموات، متوسّلة إليه أن أراني يوماً طوَّافة في البيت الحرام، حوّامة على ذلك الصعيد الطهور الذي دَرجت في حِماه خديجة الكبرى وفاطمة الزهراء وعائشة أم المؤمنين وأسماء بنت أبي بكر وسكينة بيت الحسين وغيرهن من القانتات الطاهرات.

ويا حجيج هذا العام مِن مترامي بقاع الإسلام، يا من طويتُم المراحل في غمرة هذه الحرب الضروس إلى بيت الله ومثوى الرسول؛ سلوا ربكم أن يرفع غضبه عن بني الإنسان، ويحقن الدماء التي يسفكها الجبابرة والطغاة، ليقيموا على جماجم الأبرياء مجداً لجشعهم صبيغاً بالنجيع.


* نُشر في مجلة الرسالة، العدد 447، بتاريخ 26 يناير / كانون الثاني 1942م.