لا يقتصر الخطأ في التشخيص الطبي على عدم القدرة على الوصول للتشخيص الصحيح فحسب، إنما يشيع بكثرة – خاصة مع الفوضى في ممارسة الطب في مصر – ما يسمى المبالغة في التشخيص. فشيوع بعض الأمراض يدفع بعض الأطباء إلى التساهل في تشخيص الإصابة بها. سيحاول البعض أن يبرر فيقول، المبالغة في التشخيص خيرٌ من غياب التشخيص، وهذا خطأٌ فادح للأسباب التالية:

  • المبالغة في التشخيص تؤدي إلى إغفال التشخيص الصحيح أو تأخره، مما يعرض حياة المريض للخطر.
  • خسائر مادية في إجراء أشعاتٍ وتحاليل وتناول أدوية في غير محلها.
  • فقدان الثقة بين المريض وطبيبه بعد اكتشاف التشخيص الصحيح عاجلًا أو آجلاً.
  • الوصمة النفسية التي تتملك المريض عندما يخبره الطبيب أنه مصاب بالمرض الفلاني، تؤثر بشدة على مسار حياته الطبيعية، وتسبب ضغوطًا نفسية ومادية لا حصرَ لها عليه.

ومن أشهر أمثلة المبالغة في التشخيص، قضية الحمى الروماتيزمية rheumatic fever في مصر.


لماذا الحمى الروماتيزمية؟ ولماذا مصر؟

الحمى الروماتيزمية هي مرض من أمراض المناعة الذاتية. أرجح النظريات في سببها هو أن فصائل معينة من المجموعة الأولى من البكتيريا السبحية Group A of B-hemolytic streptococci – والتي تعد من أهم أسباب التهابات الحلق الشائعة – تمتلك بروتينًا معينًا، يثير جهاز المناعة لدى بعض الأشخاص، فيهاجم بالخطأ أجزاء من الجسم تمتلك بروتينًا شبيهًا في تركيبه بهذا البروتين، فتسبب فيها التهاباتٍ شديدة، ومضاعفاتٍ حادة ومزمنة. وأهم الأجزاء المتضررة (القلب خاصة صماماته، المفاصل، الخلايا القاعدية في المخ basal ganglia، الجلد)، وأكثر فترة عمرية معرضَّة للإصابة هي الأطفال من عمر 5 إلى 15 عامًا.

والحمى الروماتيزمية منتشرة في مصر، خاصة المناطق الشعبية والريفية. فقد وُجِدت علاقة واضحة بين معدلات انتشارها، وانخفاض المستوى المعيشي للمجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا. ولذا فقد قلَّت معدلات الإصابة الجديدة بها بشدة في البلاد المتقدمة، وحتى في مصر في السنوات الأخيرة قلَّت نسبيًا. لكن ما زال عندنا الآلاف المؤلفة من الذين أصيبوا بها في صغرهم، وتركت مضاعفات مزمنة لديهم، خاصة ضيق و ارتجاعات صمامات القلب.


كيف نشأ مهرجان الروماتيزم للجميع؟

تتكرر القصة يوميًا بالشكل التالي، طفل صغير يصابُ بالتهاب بالحلق، مصحوب بارتفاع في درجة الحرارة. يشكو الطفل أيضًا من ألم في مفاصله لأي سبب (قد يكون بسبب الإجهاد العام الذي يصاحب ارتفاع الحرارة)، ترتعب الأم وتربط ألم المفصل بأن ابنها مصاب بـ (الروماتيزم)، تذهب إلى طبيب الأطفال وهي في حالة هلع. يطلب الطبيب إجراء تحليل سرعة الترسيب ESR، وهو تحليل غير متخصص، ترتفع قيمته في أي التهاب حاد أيًا كان نوعه، وفي الأمراض المناعية جميعًا، وكذلك السرطانات.

غالبًا تكون نتيجة التحليل إيجابية بسبب التهاب الحلق، فيتعجَّل الطبيب لإرضاء هلع الأم، ويحكم أن الطفل أصيب بدور روماتيزم، ويأمر بإعطاء الطفل حقنة البنسيللين طويل المفعول التي تقتل البكتيريا السبحية المتهمة بإحداث الحمى الروماتيزمية، وذلك بواقع حقنة كل أسبوعين أو ثلاثة، حتى يكبر الطفل، تجنبًا لحدوث أدوار لاحقة من الروماتيزم تسبب أضرارًا أكثر. وقد يطلب أيضًا إجراء موجات صوتية على القلب Echo-cardiography دون أن يشك أولًا بالسماعة في وجود ما يسمى بلغط القلب murmur وهو أصوات غير طبيعية ترجح وجود تضرر في الصمامات.


ما هي الأخطاء في السيناريو السابق؟

1. التساهل في إعطاء الطفل حقنة مؤلمة لسنواتٍ من عمره، يترك آثارًا جسيمة على نفسيته وحياته، ولذا فلابد ألا يتم اللجوء إلى استخدامها إلا بعد التشخيص السليم.

2. لتشخيص الحمى الروماتيزمية تطبق منظومة مشهورة اسمها منظومة جون المعدَّلة modified Jone’s criteria، والتي وضعت منذ عشرات السنين، وعدِّلت بشكل طفيف مراتٍ عدة آخرها 2015. وليتحقق التشخيص لابد من دليل على الإصابة بالنوع A من البكتيريا السبحية + 2 من خصائص التشخيص الكبرى، أو دليل على الإصابة بالنوع A من البكتيريا السبحية + خصيصة كبيرة + 2 من الخصائص الصغيرة. وغالبًا ما تعقب الحمى الروماتيزمية التهاب الحلق بحوالي أسبوعين أو ثلاثة.

أولًا: دليل الإصابة بالنوع A من البكتيريا السبحية: أيّ من الآتي:

1. الأجسام المضادة لها، وأشهرها ASOT، و anti-DNase.

2. مزرعة بكتيرية إيجابية لِعَيِّنة من الحلق، أو عينة إيجابية من الاختبار السريع الكاشف لوجود مضاداتها antigens بالحلق لدى الأطفال المصابين بالتهاب الحلق.

ثانيًا: الخصائص الكبرى:

1. التهاب بأي من أجزاء القلب Carditis، وأشهرها الصمامات.

2. التهاب بالمفاصل، وأشهرها المفاصل الكبيرة كمفصل الركبة والفخذ والكوع، ويمتاز بتنقل الالتهاب من مفصل لآخر fleeting arthritis. والالتهاب ليس مجرد الألم، إنما يشمل تورم المفصل، واحمرار جلده، وسخونته، بجانب الألم خاصة مع الحركة.

3. التهاب بالخلايا القاعدية للمخ يسبب اضطراباتٍ لا إرادية في الحركة Sydenham chorea.

4. طفح أحمر مميز بالجلد Erythema marginatum.

5. عقد تحت الجلد subcutaneous nodules.

ثالثًا: الخصائص الصغرى:

1. ارتفاع درجة الحرارة أعلى من 38.5 درجة سليزية.

2. ألم المفاصل arthralgia دون التهاب ظاهر.

3. ارتفاع دلائل الالتهاب بالدم؛ سرعة الترسيب ESR، وبروتين سي التفاعلي CRP

4. استطالة الفاصل بين الموجة P و R في رسم القلب دون وجود التهاب في القلب Prolonged PR interval.

إذًا الأمر ليس بالبساطة التي يتم بها على الواقع. فإذا عدنا للمثال الذي ذكرناه، فالطفل لا يعاني إلا من خصيصتيْن صغيرتيْن فقط (ألم المفاصل، ارتفاع الحرارة)، وبالتالي لا ينعقد التشخيص.


الوقاية من الحمى الروماتيزمية في نقاط:

1. تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العامة مركزين في الوقاية الأولية منها، ولذا أصبحت من الأمراض النادرة في البلاد المتقدمة.

2. للوقاية الثانوية، وهي الوقاية من تكرار حدوث أدوار الحمى الروماتيزمية للطفل الذي أصيب بها سابقًا، وذلك لمنع حدوث المزيد من المضاعفات، فاستخدام حقن البنسيللين طويل المفعول long acting benzathine penicillin هو الركن الركين، فهو يقضي على البكتيريا السبحية من النوع الأول، ويمنعها من بدء متسلسلة المشكلة، ويتم إعطاء الطفل حقنة كل 4 أسابيع.

لكن الأفضل استخدامها كل 3 أسابيع لمزيد من الوقاية، لكن يعيب هذا تكرار ألم الحقنة على الطفل على فاصل أقرب.

3. بالنسبة لمدة المواظبة على حقن البنسيللين، فهي تختلف حسب مدى شدة الإصابة السابقة للطفل:

  • إذا لم يصب بأي ضرر في القلب، والذي هو أشد مضاعفاتها، فلابد من خمس سنوات من الحقن على الأقل، أو حتى عمر 18-21 عامًا، أيهما أبعد.
  • إذا أصيب بالتهاب في القلب، لكن لم يترك مضاعفات في صمامات القلب، فلابد من عشر سنواتٍ على الأقل، أو حتى عمر 25 عامًا، أيهما أبعد، مع المتابعة بعمل موجات صوتية على عضلة القلب echocardiography كل عامين أو ثلاثة.
  • إذا أصيب بالتهاب في القلب، أتبعه ضرر شديد في صمامات القلب، فلابد من استمرار الحقن حتى عمر 40 عامًا، ويفضل بعض الاستشاريين استمرارها طوال العمر. ولابد من عمل الموجات الصوتية على القلب سنويًا لمتابعة تطور حالة القلب نتيجة اختلال الصمامات، وبحث مدى الحاجة لتغييرها جراحيًا، أو توسيعها في حالة الضيق .. إلخ.