مثلت مجزرة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في منتصف شهر أغسطس من العام 2013، حجر الأساس والزاوية في تكوين جيلٍ كامل داخل جماعة الإخوان المسلمين، بات بعضه يرى أن العنف هو حل المأزق الحالي للجماعة مع السلطة في ظل فشل أول تجربة حكم ديمقراطي للجماعة، وفي ظل المعادلة الصفرية التي تجذرت بين الجماعة والنظام، واستمرار الأجهزة الأمنية في استخدام العنف بشكل مفرط ضد كافة المعارضين الذين ينتمي معظمهم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهو ملمح يطعن تجربة التغيير السلمي في مقتل بنظر كثيرين داخل الجماعة.

هذه التحولات والاضطرابات الناتجة عن الأزمة الفكرية والتنظيمية التي تمر بها الجماعة جعلتها، وبالتحديد شبابها، مطمعًا رئيسيًا لكثير من التنظيمات الجهادية المسلحة في مصر وخارجها.

ساهمت إستراتيجية الجماعة المعلنة أيضًا، التي عُنونت بشعار «سلميتنا أقوى من الرصاص»، في دفع العديد من الشباب إلى تلبية النداءات المتكررة للتنظيمات المسلحة بعد اعتقادهم بفشل هذه الإستراتيجية على مر الشهور التي تلت فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.

هذه الدعوات الموجهة لشباب الجماعة بالتحديد ما لبثت أن أصبحت منوالًا لهذه التنظيمات الجهادية في كُل إصداراتها، فتارة يظهر أحد أعضاء هذه التنظيمات، وهو يتحدث إلى الجماعة، بأن سلميتهم هذه هي التي أودت بمئات القتلى، وأقبعت آلافًا آخرين في سجون النظام المصري، وأنه لا طريق للثأر لهؤلاء إلا هذا الطريق، وكان يُشير بيده إلى سيارة مفخخة في أحد الإصدارات الجهادية، وبتتبع أمر هذا الإصدار علمنا من مصدر خاص بأن المتحدث في هذا الإصدار كان ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين في السابق وانضم بالفعل إلى تيار جهادي.

وهكذا جرى الأمر في حديث «أبو أسامة المصري»، المسؤول الشرعي لتنظيم ولاية سيناء، والمتحدث الأبرز باسم التنظيم، الذي ظهر في أحد الإصدارات الأخيرة للتنظيم موجهًا كلامه إلى الإخوان المسلمين بأن ها هي السلمية المزعومة التي لم تقتل إلا أهلها، داعيًا إياهم إلى رفع السلاح في وجه «الطاغوت».

فلماذا تتكالب التنظيمات الجهادية على جسد تنظيم الإخوان المسلمين الضخم؟، وما الذي دفع تيارًا شبابيًا داخل الجماعة إلى هذه المرحلة من التقلبات الفكرية شديدة الحدة؟.


من «سلميتنا أقوى من الرصاص» إلى بوادر العنف

كان لنا لقاء مع (ش.ي)، وهو شاب تربّى داخل جماعة الإخوان المسلمين، عمل بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة ضمن ما عُرف بلجان «العمليات النوعية»، وهي مجموعات تبنت وسائل عنيفة بدرجات مختلفة ضد النظام، حيث حدثنا عن تجربته الخاصة في هذه الأعمال، وأين انتهى به فكره بعد النشاط فيها.

أخبرنا (ش.ي) أن القصة بدأت بشروع المكتب الجديد لجماعة الإخوان المسلمين في «هيكلة» الحراك المناهض للنظام وتقسيمه إلى القسمين؛ الأول وهو المسؤول عن المسيرات والفعاليات السلمية، والآخر وهو ما نعنيه في تحقيقنا، العمل النوعي -شبه المسلح-، حيث يُستقطب إلى هذا القسم أبناء الجماعة الثقات، المعروفون بولائهم التام للتنظيم.

العمل النوعي العام المعني بتأمين المسيرات، وقطع الطرق، وأحيانًا إشعال النيران في أكشاك الكهرباء، يكون تسليحهم في أقصى حالاته «فرد خرطوش».

أما القسم الأهم، وهو العمل النوعي الخاص، فهو المنوط به إشعال سيارات الشرطة، وتأديب -حسب وصف المصدر- أمناء الشرطة أو المتعاونين معهم الذين يتصدون للتظاهرات، في تعامل وصفه «بما هو دون الدم» ما لم يثبت عليهم القتل.

كانت المناهج التربوية لعمل هذه المجموعات مناهج تحفيزية على الجهاد، واعتباره الفريضة الغائبة، دون تطبيق ما في تلك المناهج في الواقع العملي، ما أحدث تناقضًا نفسيًا وفكريًا لكثير من الشباب المنضمين تحت لواء هذه اللجان الذين شُحنوا تربويًا في هذه الفترات بأكثر مما تريده القيادة منهم، كان (ش.ي) أحدهم.

وهُنا حدثت إشكالية بين القيادة التي أقحمت الشباب في مسار العنف، بفكر ومعلومات قاصرين، وبين هؤلاء الشباب، فبدأ هؤلاء الشباب في البحث عن تطبيق لما درسوه وتعلموه خارج نطاق الجماعة، أو خارج القيد المفروض عليهم الذي يمنعهم من الولوج أكثر في الدموية أمام انتهاكات النظام المتزايدة.

القيادة كان ردها على هذه التحركات كما أخبرنا المصدر، هو إعادة فرز هؤلاء الشباب وتصنيفهم، فمن حدثته نفسه بأكثر مما يُطلب منه ويقتضيه الواقع –بحسب رأي القيادة- كان يتم إبعاده عن العمل بأشكال كثيرة.

ويخبرنا (ش.ي) أنه، في إحدى المرات، حصلت مجموعته على صندوقين للسلاح، «غنيمة» من إحدى سيارات الأمن المركزي، فقام «الإخوة» بمصادرة هذه القطع، ومنعوها عن الشباب؛ الأمر الذي دفع عددًا كبيرًا من أعضاء هذه المجموعة إلى ترك «العمل» نتيجة التدخل المُقيد لتحركاتهم.

أيضًا، حدثت اختراقات أمنية أوقعت بكثير من العاملين في هذه المجموعات، وهو ما دفع البعض الآخر إلى الابتعاد عن «العمل» لسلامته وأمنه الشخصيين.

ثمة حالة اختيار عشوائي كانت تحكم تشكيل هذه المجموعات، عدا عنصر الثقة الذي كان يتم التأكيد عليه أثناء الاختيار، وهو ما مثّل أحد نقاط ضعف هذه المجموعات. فبحسب المصدر، فإن نسبة 90% من الشباب الذين تم اختيارهم للعمل ضمن هذه المجموعات لا يعلمون أي قواعد عن العمل المسلح، حتى أن من يقومون بالاختيار، لا يمتلكون هذه الإمكانات من الأساس.

أحد قيادات الجماعة كانت لديه خبرة ليست بالهينة، لجأ إليه (ش.ي) في أحد الأوقات للاستعانة به وبخبرته، وبعد العمل معه لفترة، فُتح مع هذا القيادي تحقيق داخل الجماعة، وأُمِر بعدم التعامل مع هؤلاء الشباب، ومُنع (ش.ي) ومجموعته من التعامل مع هذا القيادي.

دفع هذا الأمر (ش.ي) ومجموعته لخوض غمار التجربة بعيدًا عن الجماعة. يحكي المصدر أنه تعرّف على أحد تجار السلاح لتأجير قطعة سلاح منه لتنفيذ عملية ما -رفض الإفصاح عن مكانها-، لم يكُن لها أي صدى ولا أية نتيجة، لكنها عوّضته عن «حرمان» الانتقام، حتى وإن كان هذا الانتقام غير مُجدٍ.

تاجر السلاح هذا هددته قيادات من الجماعة، وحذرته من التعامل مع هذه المجموعة لأنهم سيودون به إلى السجن في نهاية المطاف نتيجة «طيش الشباب»، حسب وصف القيادات.

هذه القصة التي يرويها أحد شباب الجماعة تعطي إجابة أولية عن كيفية ولادة الأفكار العنيفة لدى مجموعات من شباب الجماعة تم شحنه دينيًا أمام عنف السلطة دون تفريغ حقيقي لهذه الشحنات من قبل لجان الجماعة التي كانت أقل من طموحات هؤلاء الشباب، لذا انفرط عقد هذه المجموعات بعيدًا عن يد التنظيم نتيجة لسياسة «الجهاد بلا جهاد».

أضاف (ش.ي) بُعدًا آخر أثناء حديثه إلينا حول أسباب لجوء تيار من الشباب إلى العنف، وهي تجربة الاعتقال؛ السبب التاريخي المعلومة نتيجته لدى بعض عناصر التيارات الإسلامية التي تتحول داخل السجون إلى اعتناق الأفكار الجهادية.

وصفها (ش.ي) بأنها مفرمة فكرية ونفسية لهم -اعتقل المصدر أكثر من مرة-، ففي السجن يلتقون بالجهاديين ويسمعون منهم، وتسنح لهم الفرصة بلقاء قيادات الإخوان ويسمعون منهم أيضًا، ونتيجة التعذيب والمعاملة السيئة والتحقيقات التي لا تخلو من الإهانة، يتولّد لدى المعتقل طلب للثأر والانتقام، وفي الأغلب لا يجد طرق هذا الانتقام إلا عند مروجي الأفكار الجهادية داخل السجن، ثم يتحوّل رويدًا رويدًا إلى مؤمنٍ بها، بل وعاملًا تحت مظلتها أيضًا.

يؤكد (ش.ي) أن صدمات الدم ورحى القتل بعد الانقلاب العسكري كانت عاملًا مؤثرًا أيضًا لا يمكن إغفاله، بداية من مذبحة الحرس الجمهوري التي وقعت فجر الثامن من يوليو أمام دار الحرس الجمهوري إبان اعتصام مؤيدي الرئيس السابق محمد مرسي، ومذبحة المنصة التي وقعت في 26 يوليو، ثم مذبحة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس، تلك الأحداث التي مثلت لدى المصدر وعدد من شباب الجماعة قناعةً بأن المسار السياسي والديمقراطي لا جدوى منه، وهذا النظام الذي ينتهك حرمة الدم والعرض لا يرتدع إلا بالقوة، من وجهة نظرهم، وهو ما لا يجيده دعاة السلمية والديمقراطية.

فبعدما كان بعض هؤلاء الشباب، المسؤول عن تأمين بوابات اعتصام رابعة -كان مصدرنا أحدهم-، يمنع دخول أي نوعٍ من السلاح للاعتصام حفاظًا على سلميته، أصبح يبحث عن مصادر للتوريد، أكثر مما يبحث عن مصادر لطعامه وشرابه، وانتهى المطاف بـ (ش.ي) كممثل لهذه الشريحة الآن معتبرًا أن الفكر «الوسطي» الذي ظلّ يبحث عنه لسنوات هو فكر تنظيم القاعدة في مواجهة الأنظمة.


شباب الجماعة في الخارج: الطريق مفتوح إلى سوريا

خلصنا إلى بعض أسباب تحول قطاع من شباب جماعة الإخوان المسلمين إلى العنف في داخل مصر من خلال التجربة السابقة.

لنتحول إلى البحث عن أسباب تحول مجموعات من شباب الجماعة خارج مصر إلى اعتناق الفكر الجهادي الذي دفع بعضهم للانضمام إلى مجموعات سلفية جهادية بالفعل من خلال السفر إلى سوريا والقتال هناك بجوار تيارات مختلفة.

في هذه الأثناء، قابلنا أحد شباب الجماعة في الخارج الذين أجبروا على السفر بعد ازدياد الملاحقات من قبل أجهزة الأمن المصرية، وهو حال الآلاف، في دول المنفى الإجباري.

في البداية تحدثنا مع (خ.ز) الذي حكى لنا عن تجاربه مع أعضاء الجماعة الفارين في عدة دول أقام فيها بنفسه، كانت أبرزها تجربته في دولة السودان التي تحتضن العشرات من شباب الجماعة.

حدثنا (خ.ز) عن الإهمال الفكري والتربوي الذي يُلاقيه هؤلاء الشباب في الخارج، وهو الأمر الذي يشعرهم بالطبع بانعدام التقدير، بعدما كانوا في مصاف القيادة في مصر قبل خروجهم الاضطراري.

حيث روى لنا (خ.ز) عن بعض هؤلاء الشباب الذين كانوا يقودون حراك التظاهرات المناهضة للانقلاب في مصر بعد اعتقال قيادات الإخوان من الصف الأول والثاني، واعتماد القيادات المتبقية على الشباب الذي لديه قدرة على الحركة بعيدًا عن الملاحقات الأمنية.

(خ.ز) حدثنا عن نفسه، أن تظاهرة بها أعداد تُقدر بـ 15 ألف متظاهر بعد فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة كانت تتحرك وتتوقف وتشتبك، بإشارة واحدة منه، وهو شاب لم يتجاوز 18 من عمره، وقتها.

المصدر، وأمثاله من شباب الجماعة، بعد خروجهم من مصر لم يلاقوا أي اهتمام من القيادات في الخارج بالرغم من رؤيتهم لأنفسهم أنهم كانوا أكثر تأثيرًا على الوضع في مصر من هؤلاء القيادات قبيل خروجهم، وهو ما أحدث هزة داخل صفوف هؤلاء الشباب بسبب معاناة الإهمال والتهميش في وجهة نظرهم، فمنهم من اتجه بحسب وصف (خ.ز) إلى الانخراط في المسار الحياتي، وآخرين اتجهوا للبحث عن بديل يخدم قضيتهم التي خرجوا من أجلها.

شهاب (اسم حقيقي)، أحد أولئك الذين بحثوا عن بدائل لخدمة أفكارهم، وهو الذي اعتقل وأصيب بعد فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.

عُرف عن شهاب الحركية الشديدة، إلا أن حركيته هذه أودت به إلى المنفى الإجباري، وما لبث أن بدأ التواصل مع مجموعات الإخوان المتواجدة في السودان، لكن بأي شيء يفيدونه، وهم لا يقدمون سوى الطعام للشباب؟، يتساءل مصدرنا.

حينها بدأ شهاب يبحث عما يقدمه للداخل في مصر، فكانت أولى خطواته البحث عن مشروع آخر في ظل عدم اقتناعه بجدوى ما يفعله الإخوان في الخارج.

تعرف شهاب البالغ من العُمر 19 عامًا، خلال فترة إقامته في السودان، على مجموعة تعمل على تجنيد الشباب لصالح جماعة جهادية في سوريا. ويروي (خ.ز) أنه بمجرد معرفة قيادات الإخوان بذلك، بدأت عملية وصفه بأنه «عنصر مخابراتي» يجب تجنبه ونبذه، وبحسب المصدر، فإنه من الطبيعي أن يلجأ شهاب لمن احتواه في وقت أزمته مع الإخوان من المجموعات الجهادية التي تعرف عليها، والتي علم (خ.ز) بعد ذلك أنها ساعدته في السفر إلى سوريا، ليصل خبر مقتل شهاب إلى أصدقائه في السودان ولتتعامل القيادات الإخوانية هناك معه بتكتم شديد.

«شهاب» شاب إخواني انضم إلى جماعة جهادية في سوريا

قصة شهاب هذه ما هي إلا قصة واحدة من قصص عديدة لشباب ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين في الخارج انتهى بهم الحال في سوريا؛ في ظل غياب حالة الاحتواء الفكري، والفشل في تقديم بديل يحتوي طاقة هؤلاء الشباب في الخارج.

مصادر أخرى من بين شباب الجماعة المتواجدين في السودان أكدوا لنا وجود أعداد ليست بالقليلة لديهم النية للسفر إلى سوريا بعد رؤيتهم أن مسارات الجماعة في التعامل مع الأزمة الحالية لن تفيد، وأن انتهاج العنف الكامل أمام النظام هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة.

عدنا إلى (خ.ز) لسؤاله عن كيفية وصول الحالة بين الشباب الصغير في السن والقيادات إلى هذا الطريق المسدود الذي يدفعهم للسفر إلى سوريا وتبني الأفكار الجهادية رغم نشأتهم الإخوانية.

أجابنا (المصدر) أنه سافر إلى تركيا ومكث بها عدة شهور دون وجود أدنى تواصل مع قيادات الإخوان في تركيا، وأنه إذا أراد السفر إلى سوريا فلن يمنعه أو يناقشه أحد في ذلك؛ إذ أرجع هذه الحالة التي وصل إليها الشباب إلى انعدام التواصل والحوار معهم، بالإضافة إلى عدم تقديم إجابات مقنعة حول تساؤلاتهم عن رؤية الجماعة للصراع مع النظام في مصر.

وفي ظل تخبط رؤية الجماعة في مواجهة أزمتها مع النظام وعدم احتواء هذه الطاقات الشبابية التي تنظر إلى الأوضاع في مصر وتراها تزداد سوءًا نتيجة فشل القيادة من وجهة نظرهم، كان من الطبيعي أن يبحث بعضهم عن حلول لحالة العجز التي انتابتهم، وذلك بالسفر إلى سوريا.

أزمة الجماعة الداخلية حاليًا، والنزاع بين قياداتها على أحقية الإدارة ومنهجية التعامل مع النظام في الوقت الحالي، يؤكد المصدر أنها أحد أسباب يأس الشباب من طريق الجماعة، وهو أحد الأسباب الرئيسية أيضًا التي دفعت بعض الشباب للبحث عن طرق أخرى كالسفر إلى سوريا، في الوقت الذي ترى فيه هذه القيادة التي فشلت طوال الأعوام الماضية نفسها مهيئة للقيادة في المستقبل، حسب وجهة نظر هؤلاء الشباب.


ما الذي يدفع الشباب في هذا الاتجاه؟

بعد حديثنا مع (خ.ز)، وإثارته لمسألة تجنيد بعض شباب الجماعة المصريين المتواجدين في السودان لصالح الجماعات الجهادية، وذلك عن طريق مجموعات مختلفة، وكذلك تأكيد بعض المصادر الأخرى وجود نية السفر إلى سوريا للالتحاق بالجماعات الجهادية هناك لدى بعض الشباب صغير السن.

آثرنا البحث في هذه القضية بالتواصل مع مصادر أخرى تنتمي لجماعة الإخوان المسلمين متواجدين على الأراضي السودانية لمحاولة استيضاح الأمر، ولعدم التسليم برواية واحدة أثناء الاستقصاء حول أسباب سفر مجموعات من شباب الجماعة إلى سوريا واعتناقهم الفكر الجهادي.

نجحنا بالفعل في التواصل مع الشاب (م.هـ) أحد شباب الجماعة بالسودان الذي أكد لنا أن شعور الشباب بأنه مفرّط في حق المعتقلين في مصر يعد أحد الدوافع الرئيسية وراء وصول مجموعات من الشباب في السودان إلى هذه الحالة. فبحسب مصدرنا، يرى هؤلاء الشباب أنه لا سبيل لتحرير المعتقلين غير القوة، موضحًا أن الكثير منهم يريد السفر من أجل إجراء عملية إعداد نفسية وعسكرية، منتظرين دخول الصراع مع النظام في مصر إلى منحنى عنيف يمكنهم من العودة لما يسمونه «جهاد الطاغوت».

لم نكن مقتنعين تمامًا بتلك الأسباب فقط، وفتشنا في بحثنا عن دوافع أخرى قد تكون لدى هؤلاء كالدوافع الاقتصادية أو الاجتماعية وطرحنا هذه الاسئلة على الشاب (م.هـ).

الذي أجابنا بقوله: «ليس سوء الأوضاع المعيشية من الأسباب وراء الرغبة في السفر إلى سوريا لأنه لا يوجد مقارنة بين السودان وسوريا، ولكن من أهم الأسباب في وجهة نظري عدم احتواء القيادات للشباب، وهو ما سهل على أصحاب التوجهات المختلفة استغلال هذه الجزئية في استقطاب شباب الجماعة وإعادة تشكيل فكرهم».

أكد لنا المصدر أن أغلبية هذه المجموعات لا تُظهر هذا التوجه حتى لا تصطدم مع الإخوان؛ لأن من يتحدث في هذه الأمور يتم إقصاؤه من الجماعة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولكن من يستطيع السفر منهم يفعل ولا يتأخر.

يضيف (م.هـ)، «70% من هؤلاء الشباب يريد السفر، والعدد في تزايد مستمر بسبب عدم وضوح الرؤية، كما أن أغلب الشباب يشعر أنه يأكل ويشرب وينام فقط، كما أن لديهم شعورًا آخر، وهو أن مصيرهم حين خرجوا من مصر لم يكن يتوقعوه بهذه الصورة».

أعدنا أسئلتنا على (م.هـ) من قبيل التأكد إن كان هؤلاء الشباب يريدون السفر لدافع الهروب من الواقع مثلًا، لكنه أجابنا بقوله: «هؤلاء ليسوا بحاجة للهروب من الواقع، فأغلب من سافر كانوا في كليات مرموقة، وكانت حياتهم مستقرة إلى حد كبير».

ويشير الشاب في حديثه معنا إلى أن الكثير من الشباب ربط الفكرة والمنهج بالأشخاص القائمة بمسؤولياتها عن بعض الأمور، وحين فشلت القيادة أدى ذلك إلى كفرهم بالمشروع؛ ما دفعهم للبحث عن مشاريع أخرى.

مؤكدًا أن الحل في الاستماع إلى الشباب والنزول على بعض رغباتهم في حدود الإمكانيات المتاحة، من خلال إعدادهم فكريًا وعقائديًا وبدنيًا إن سمح الأمر؛ وذلك لإبعادهم عن الطرق الأخرى التي يلجأون إليها كالسفر إلى سوريا، بالإضافة إلى ضرورة تعريف الشباب بدوره في المرحلة القادمة، وما هي آلية الجماعة في مواجهة النظام الحالي، بحسب قوله.

هذه كانت مرحلة الرغبة التي رصدناها لدى قطاع من شباب جماعة الإخوان المسلمين المنفيين في الخارج وشريحة غير هينة ممن في الداخل.


أثناء الرحلة

عقب ذلك انتقلنا إلى جزء آخر من المشهد وهو استقبال هؤلاء الشباب لتوصيلهم إلى الداخل السوري، نجحنا عن طريق وسيط في لقاء أحد الأشخاص بإحدى المدن التركية، من المسؤولين عن استقبال مثل هذه الحالات لتوصليها إلى الداخل السوري لفصائل جهادية مختلفة عبر الحدود.

يُدعى (هـ.ر)، وظيفته كما يُحب أن يطلق عليها (استقبل ووصل) في إشارة لاستقباله لهؤلاء وتوصليهم إلى وجهتهم.

قال لنا (هـ.ر): «استقبلت عددًا كبيرًا جدًا من الشباب المصريين، لا أستطيع أن أحصيه، لكن يمكنني القول تقريبيًا أنني استقبلت ما يقارب ألف شاب مصري خلال الخمس سنوات الماضية، معظمهم كانو ينتمون إلى التيارات الإسلامية سواء من الإخوان المسلمين أو من غيرهم».

مضيفًا: «أن عدد المصريين في الداخل عمومًا كبير جدًا لا يمكن حصره. مجموعة ليست هينة من هؤلاء المصريين قامت بتشكيل كتيبة كاملة، تعارف عليها المجاهدون في الداخل باسم كتيبة المصريين. بعد الانقلاب العسكري وقبل إحكام القبضة الأمنية، استقبلت حوالي 300 شخص، لكن بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة وإحكام السيطرة الأمنية، قلّ عدد الساعين للدخول إلى سوريا بشكل كبير، رغم أن طالبي الانضمام كانوا في تزايد مستمر».

مؤكدًا أن الأمر تغير في هذا التوقيت عنه إبان حكم الرئيس السابق محمد مرسي، فمن كان يريد سوريا كان الأمر بسيطًا، ولا يحتاج لكثير من العناء والسؤال، بحسب قوله.

يرى (هـ.ر) أن سبب طلبهم للقتال في سوريا، كان بالأساس نصرةً للسوريين الذين يرونهم عبر الشاشات في مشاهد اعتقال للسيدات والسجون والقتل والدمار الذي يحدثه النظام السوري وميليشياته هناك؛ مما جعل البعض منهم يقع تحت تأثير المشاهد السالف ذكرها، فأراد أن يفعل شيئًا.

وعن الأحوال في الداخل لهؤلاء تحدث (هـ.ر) قائلًا: «باستثناء من لم يُقتل من أولئك الذين استقبلتهم، فأنا متواصل بشكل كامل مع 60% منهم، فالعلاقات مع الداخل لا تنقطع، فأحيانًا يحتاجون إرسال أشياء أو حتى أشخاص إلى تركيا، وأحيانًا نحتاج إليهم في التأكد من معلومة أو إرسال شيء أو حتى شخص للداخل، لكن الذين انضموا إلى تنظيم الدولة الإسلامية انقطعت علاقتي معهم بشكل تام».

مستكملًا حديثه في وصف حالهم بالداخل، بأنه «جيد»، مستطردًا: «بعض الفصائل، بخلاف تنظيم الدولة الإسلامية، كجبهة النصرة مثلًا، تعطي رواتب للمقاتلين، 200$ كل ثلاثة أشهر، غير حالتهم المادية، فهم موجودون ومؤثرون».

يضيف (هـ.ر): «سألت عددًا كبيرًا من الذين دخلوا إلى سوريا، يريدون العودة، ولكن إلى أين يعودون؟، فكانت إجابتهم أن الوضع في مصر غير مؤهل لحمل السلاح، وإن حملوا السلاح فإن ‹الإخوان الانبطاحيين› سيقومون بتشويه المشهد، كما حدث في جبهات قتالٍ كثيرة، أو سيتخلون عنا، وسنصبح بالنهاية وحيدين في مواجهة ‹نظام الطاغوت›، وبعض الذين عادوا بعد الانقلاب للعمل في مصر تم إلقاء القبض عليهم، ويقبعون حاليًا داخل السجون، فالواقع في مصر غير سوريا، فمن قدموا من مصر قد قدموا على حرب وسلاح ومناطق محررة، فمصر الآن ليست ساحة حرب بكل بساطة».

لكن (هـ.ر) يرى بأنه لو فُتحت جبهة قتال «حقيقية» في مصر، واتفق الفصيل الأكبر (الإخوان المسلمون) على حمل السلاح، فسيعود الكثير لنصرتهم هناك.

في رحلة بحثنا عن مشاهد الانتقال من الحالة الإخوانية إلى الجهادية أردنا الحصول على المزيد من المعلومات حول رحلة هؤلاء الشباب؛ لنصل لأحد القريبين من هذا الحقل، وهو مصدر آخر، وظيفته أيضًا (استقبل ووصل) التي شرحنا ملخصها في السابق.

(م.م) روى الحكاية لنا من بداية استقبال الجهاديين الجدد، حيث قال: «تبدأ الحكاية في تركيا باستقبال الشباب الراغب في الدخول إلى سوريا. 90% ممن يقدمون إلى هنا ليسوا على دراية كاملة بما يحدث في الداخل من صراع بين الفصائل، لكنهم من حملة الفكر والأيديولوجيا الإسلامية. يسألون عن ‹الفتنة› التي حدثت بين الفصائل وتنظيم الدولة الإسلامية، وإذا كانت قائمة حتى الآن أم لا، يسألون عن التكفير، وتحرير فلسطين، وأسئلة أخرى تدل على عدم الإلمام بالواقع السوري الجهادي الآن».

يُشير (م.م) إلى أن سبب سعيهم للدخول إلى سوريا هو «الجهاد المنشود» الذي تربوا عليه في أدبياتهم الإسلامية، لكنهم لم يجدوه في واقع مصر بعدما تشبّعو بشعاراته وأناشيده ومناهجه.

يُضيف (م.م): «أن غالبيتهم صدموا بالواقع الذي يعيشونه الآن، وشباب الإخوان منهم ينظرون إلى وضع الجماعة الحالي على أنه سراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا اقترب منه لم يجده شيئًا، كذلك فقدان الرؤية والمنهج يجعلهم لا ينتظرون من الجماعةِ رجًا ولا أملًا» بحسب تعبيراته.

يروي أيضًا أن كثيرين من هؤلاء يريدون العودة لمصر لكنهم لا يستطيعون، فلا إمكانيات لديهم، ولا خبرة قوية تجعلهم قادرين على فتح جبهة جهادية أمام النظام في مصر.

لكن على العكس في سوريا هناك نماذج قائمة بالفعل، يستطيعون من خلالها الجهاد -كما يرون-، وتقديم ما عجزوا عنه في مصر، ويأمل الكثير منهم أن يفتح تنظيمه جبهة هناك، ويتم إيفاده للعمل تحت لوائها، بعضهم فعل ذلك بشكلٍ فردي، ونسبتهم الكُبرى ممن كانوا منضمين إلى جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا) في سوريا، وهناك بعضٌ قليل كان تحت لواء تنظيم الدولة الإسلامية «داعش».

من خلال بحثنا عن حالات ومواقف بعينها، فوجئنا بأن متوسط أعمار معظمهم بين الـ 17 و الـ 20. أحدهم كان يبلغ من العمر 20 عامًا، كان يحمل خلفية إسلامية، أخوه معتقل في مصر، وأبوه كان معتقلًا سابقًا، شهد مجزرة الفض وغيرها من المجازر الدموية في مصر، اضطر للسفر إلى الخارج بسبب مشكلة أمنية تمت على إثرها تصفية المجموعة التي كان يعمل فيها ضمن منظومة «العمل النوعي» في مصر.

وصل إلى تركيا وهدفه سوريا، أو تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» بالتحديد، اقتنع بهذا الفكر بالبحث الفردي في كتب زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، والأب الروحي لتنظيمات الجهاد العالمي عبد الله عزام، ومراجع تنظير الفكر الجهادي، ثم متابعة إصدارات تنظيم الدولة الإسلامية والانبهار بها، ليصبح فيما بعد عضوًا بالتنظيم في سوريا، ومن ثمّ، انضم لجبهة التنظيم في العراق ليُصاب هناك، ثم لقي حتفه في غارة للتحالف الدولي في سوريا.

انتقل بنا (م.م) بين مراحل القوة والضعف لفكرة السفر للقتال في سوريا، حيث بدأ حديثه عن فترة أعقاب ثورة يناير، وبداية تسليح الثورة السورية، مرورًا بالعمليات الكُبرى في الداخل السوري، مؤكدًا أن المصريين كانوا لا يتجاوزون في ذلك الوقت الـ 800 مقاتل في كل الفصائل، أحد أشهر هؤلاء كان ضابطًا بالجيش المصري انضم إلى جبهة النصرة وقُتل في سوريا على إحدى جبهات التنظيم (مع التحفّظ على تحديد المكان).

بعد الانقلاب العسكري في مصر، يوليو 2013، زاد عدد المصريين المنضمين للتنظيمات الجهادية في سوريا، وتضاعف العدد بشكل سريع بعد مجزرة فض اعتصامي رابعة والنهضة وما تلاها من أحداث دموية.

وبحسب تقديرات لمصادر خاصة، فإن المصريين المنضمين إلى تنظيم الدولة الإسلامية يزيد على 2000 مقاتل، وفي جبهة النصرة يتراوح عددهم بين 600 إلى 700 مقاتل، منهم من ذهب للانضمام لتنظيم الدولة مباشرة، وقد خرج بعضهم من سوريا تمامًا لأسباب خاصة به، حسبما تروي المصادر.

ويستأنف (م.م) حديثه عن شباب الإخوان في هذه الرحلة، قائلًا: «سابقًا، كان شباب جماعة الإخوان المسلمين يصنفون تنظيم القاعدة وغيره من تنظيمات الجهاد العالمي على أنها صناعة أمريكية، لكن القاعدة الآن أصبحت لدى كثيرين منهم تمثّل ‹الجهاد الوسطي›».

وبشكل عام، يقول (م.م) إن الظروف الاقتصادية والاجتماعية لا تعتبر دافعًا للشباب للانضمام للتنظيمات الجهادية، ضاربًا المثل بأحد أبطال العالم في الفنون القتالية، كان قد انضم إلى جبهة النصرة، ثم خرج من سوريا، ثم عاد وانضم إلى تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، وأصبح مسؤولًا عن أحد المعسكرات التابعة للتنظيم، فهناك يتم توظيف القدرات بشكل جيد، ووضع كل شخص في مكانه الصحيح، تبعًا لحديث (م.م).

على الناحية الأخرى يؤكد (م.م): «لم يُعد سهلًا الانضمام إلى صفوف المقاتلين، فحاليًا يتم تشديد القبضة الأمنية على معاوني هذه التنظيمات في تركيا. كثير من مكاتب الاستقبال تم إغلاقها بالكامل، كذلك تقلّص عدد ما يوصف بـ ‹البيوت الآمنة› للتنظيمات الجهادية في تركيا، وخطوط الإمداد والتمويل والاتصال أصبحت معروفة للسلطات التركية؛ ما سهّل عملية السيطرة عليها، وهو ما يجعل الراغبين في الانضمام لمثل هذه التنظيمات حاليًا ضمن قوائم ما يتعارف عليه بـ ‹الويتينج ليست›. هذه القوائم تضم شبابًا من الإسلاميين، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، بعضهم يقيم بتركيا والسودان وبالتأكيد في مصر».


على قوائم الانتظار

ولنتعرف أكثر على ساكني تلك القوائم التي نتحدث عنها. السودان، كانت محطتنا الرئيسية حيث يوجد عدد لا يستهان به من شباب جماعة الإخوان، ينتظر على تلك القوائم. نجحنا في الحديث مع ثلاثة منهم، مع وعد بعدم تسجيل اللقاءات أو التصريح بأسمائهم الحقيقية، أو أي معلومات تدل عليهم.

وببساطة، سألناهم عن أسباب رغبتهم في السفر إلى سوريا.

بلهجة «جهادية» لم نعتدها في حديثنا مع تيار الإخوان المسلمين، تحدث إلينا أصغرهم، والذي يبلغ من العمر 16 عامًا، لديه رغبة في السفر إلى سوريا مجاهدًا لأن «ذروة سنام الإسلام الجهاد».

«الروافض»، حيث المجازر التي يرتكبونها في سوريا، كما وصف، هم أحد أسباب نيته للسفر إلى سوريا والالتحاق بأحد الفصائل الجهادية.

وعلى الرغم من حديث الشاب الذي يمكن تصنيفه أنه هجومي وحاد، فإنه لم يفقد الثقة في قيادة الإخوان الحالية، وما زال يظنهم على «الخير»، حيث أشار في حديثه إلى أن الوضع في مصر صعب للغاية ومعقد.

إذ أنه يرى مسألة «الجهاد» في مصر أصعب من سوريا لأن الوضع في سوريا واضح، وكذلك في فلسطين، وفي اليمن أيضًا، بينما مصر لم يتضح الأمر للعامة بعد، كما هو واضح له، مؤكدًا أن أسلوب العمليات النوعية هو الأفضل حتى الآن، إلى أن يأتي الوقت المناسب لإعلان هذا «الجهاد» بحسب رؤيته.

وعن الفصيل الذي يود القتال تحت رايته، سمى لنا جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا)، نافيًا أن تكون الأسباب المادية والاجتماعية وراء رغبته في هذا السفر، حيث وصف حالته المادية بالمستقرة.

وفي معرض حديث هذا الشاب عن قيادات جماعة الإخوان وأسلوب إدارتهم للصراع في مصر، صرح بأنه يشعر بأن الصراع الحالي بين قيادات الجماعة يضعفها، مضيفًا: «التاريخ أثبت أن الانشقاق والحديث في العلن يضعف الجماعة ويدمرها»، ويرى أيضًا أن أحد الأشياء التي تزيد الموقف الحالي خبالًا بخصوص جدلية (السلمية والعنف) أن بعض هذه القيادات ترى كل الشباب المخالف لفكرهم، هو غير عاقل بالضرورة، وهو ما يزيد الموقف الحالي تعقيدًا.

قائلًا: «حتى لو كان رأي الاستمرار في العمليات النوعية في الخفاء وإظهار السلمية رأيًا صائبًا، فيجب أن يتعامل القيادات مع من يرى غير ذلك بطريقة لائقة، لا بالاتهامات التي ليس لها أي أساس من الصحة».

وتحدث أيضًا عن أن رؤيته لحل الأزمة الحالية في مصر بإيقاف التظاهرات التي تُكثر من المعتقلين، بجانب محاولة زيادة وتيرة ما أسماه «العمليات النوعية».

أفصح لنا هذا الشاب عن رغبته القديمة في السفر إلى سوريا التي ازدادت مع خروجه من مصر منذ عام مع مشاهدته للمجازر التي تحدث في سوريا يومًا بعد يوم، إلا أنه لم يفصح لأحد من قيادات الجماعة عن رغبته هذه أو نيته.

هذا الشاب كان النموذج الأول من شباب الإخوان في الخارج الذين يخططون لمثل هذه الرحلة التي يرى ضرورتها لأسباب متعلقة بتهيؤ البيئة السورية لـ «الجهاد» من وجهة نظره، منتظرًا انفراجة تسمح له بالقتال ضد النظام في مصر.

آثرنا أن نلتقي بشبابٍ آخرين من الجماعة في دولة السودان؛ لنجد أن لهجة الخطاب الجهادي لا تختلف كثيرًا عما سمعناه. لكننا سألنا شابًا من أبناء الجماعة عن مدى ثقته في مشروع الإخوان المسلمين الحالي فكان رده: «عن أي مشروع تتحدث؟!»، مستنكرًا تحقيق أي مشروع عن طريق ما أسماه «الازدواجية» و«النفاق السياسي».

ويلخص أهمية مسألة السفر إلى سوريا في هذا التوقيت، في الاستعداد البدني والروحاني وإجادة فنون القتال العسكرية على أرض الواقع، ومن ثم الاستعداد لإسقاطها على الوضع في مصر.

تلك الحماسة التي رأيناها في هذا الشاب الصغير، ربما هي التي دفعته لإبداء مزيدٍ من الأسباب لنا حول رغبته في السفر للقتال بسوريا. حمّل غالبيتها لجماعة الإخوان، حيث قال إن غياب التربية والإعداد والتأهيل داخل صفوف الجماعة دفعه إلى ذلك الأمر بشكل رئيسي، نافيًا هو الآخر وجود أي دوافع مادية لكي يخطو تلك الخطوة، وإنما «العقيدة».

كما يرى أيضًا أن أقرب الفصائل التي يريد الانضمام إليها هي «جبهة فتح الشام» أو «الجبهة الشامية»، وهي مفارقة أخرى توضح إلى أين يميل هؤلاء الشباب في رحلتهم التي ربما ستكون نهايتها أحد أفرع تنظيم القاعدة في سوريا.

ويبرر عدم اضطراره للبقاء داخل مشروع الإخوان الحالي أن تجارب عديدة حدثت للإصلاح، وأنك إذا ما انتقدت سياسات بعض الأشخاص تتعرض لما وصفه بـ «التخوين والإقصاء، وتهم أنت في غنى عنها».

مضيفًا: «ليست التظاهرات وحدها هي الحل، بل تنظيم العمل النوعي حتى الوصول إلى لحظة إعلان الثورة المسلحة»، و«أنه عندما استشعر بأن المشهد المصري سيتحول عما قريب إلى المشهد السوري والعراقي أراد أن يكون جاهزًا لهذا اليوم».

سألناه عما إذا كان قد فاتح قيادات الإخوان أو أحدًا من أهله في مسألة السفر إلى سوريا، فبادرنا بالرد: «لا بالطبع، في حالة استشعار أن أحد الأفراد يريد السفر إلى سوريا يتم سحب جوازه فورًا، والتعامل معه بطريقة لا تليق لثنيه عن رغبته»، أما الأهل فإنهم يرفضون رفضًا قاطعًا أو هكذا توقع، لكنه استطرد بأنه «لا استئذان في الجهاد»، مؤكدًا أنه ماضٍ في طريقه ولا يخشى هذه العواقب.

هذه إحدى أجزاء الصورة التي أنتجها مشهد الصراع الحالي، بعض من الشباب عقولهم في سوريا لكن أعينهم على مصر لنقل تجربتهم إليها.

وفي محاولتنا استكمال جزء آخر من الصورة، تحدثنا إلى شاب ثالث من شباب الجماعة المصريين المقيمين في السودان، والذي يبلغ من العمر 18 عامًا، لديه نفس الرغبة في السفر إلى سوريا، وما إن بادرناه بالسؤال حول الأسباب التي تدفعه إلى التفكير في السفر للقتال داخل سوريا، حتى لخص لنا ما قاله الشابان من قبل.

(مع مراعاة أن إجراء المقابلات لم يكن جماعيًا).

حيث أكد أن لديه ثلاثة دوافع كل دافع منهم أهم من الآخر بحسب وصفه، وهم حسب ترتيبه: «الواجب الشرعي»، «اليأس من جماعة الإخوان ومواقفها التي تزداد سوءًا وتخبطًا يومًا بعد يوم»، و«التعاطف مع القضية السورية».

بلغة دينية شرعية، استطرد الشاب خلال المقابلة معنا في الحديث حول مسألة وجوب الجهاد وأنواعه وآراء العلماء بفرضيته على كل مسلم، لتوضيح وجهة نظره الشرعية لنا حول السفر للجهاد التي استخلص منها وجوبه عليه.

وانتقل بعد ذلك للحديث عن قضية تخبط جماعة الإخوان المسلمين في الداخل والخارج، وما أسماه «تنازلها عن (ألف باء) ما تعلمناه في الجماعة أن الجهاد هو السبيل الوحيد والموت في سبيل الله أسمى الأماني».

مضيفًا: «التزام هذه السلمية المريضة هي التي جعلتني وجعلت معظم شباب الجماعة يفقد الثقة في إدارتها للأزمة الداخلية والعالمية والتزام المنهج الصحيح، خاصةً، وأنها حرب على الإسلام (كما تقول القيادات داخل الجماعة وهي الحقيقة)، ولكن واقعهم مع هذه الحرب مختلف تمامًا، فلا منهج الإمام حسن البنا ولا رأي الإمام سيد قطب ولا منهج أعلام الجماعة ولا السابقين الأولين من الرعيل الأول ومن تربى على يدهم» بحسب قوله.

ويحاول التأكيد في حديثه عن كيفية (انحراف) الجماعة عن طريقها من وجهة نظره، بقوله: «إن أكبر دليل على هذا هو سعي القيادات في الخارج لإيقاف العمل النوعي بشتى الطرق، والاتجاه للتصالح مع من سفكوا الدماء وانتهكوا الأعراض والحرمات وأكلوا أموال الناس بالباطل» كما يصف.

«النظام المصري كافر وهذا أمرٌ واضح للأعمى والأصم»، صدمنا الشاب بهذا الحكم، مُعيبًا على الجماعة، في حديثه، أنه لا يزال جزء لا يتجزأ ممن أسماهم (فقهاء الدعوة) لا يكفرون السيسي.

وانتقل حديثه بعد ذلك إلى القضية السورية ومآسيها التي اعتبرها أحد دوافع ما أسماه «ضرورة النفير إلى سوريا» معتبرًا ذلك قضية دينية وإنسانية، بحسب ما قال.

أما في سؤاله عن الفصائل الأقرب له في سوريا فقال: «في أقرب الفصائل للرشد والصواب أرى وبلا شك أنها جبهة فتح الشام، والأسباب في هذا الرأي كثيرة قد يطول الحديث فيها».

ولكنه عاد ليقول: «كل الفصائل الإسلامية المقاتلة بما فيها الدولة الإسلامية هدفها واحد، ولكن تعددت الطرق والرؤى، فلا أعترض على أي شاب ينضم لأي فصيل يحمل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويعمل بمقتضى هذه الراية وهذا الدين».

أما عن أسباب عدم انضمامه إلى قافلة الإصلاح في داخل جماعة الإخوان المسلمين، فقد وصف عملية الإصلاح داخل جماعة الإخوان بـ «الضرب في الميت»، موضحًا بقوله: «الجمود الفكري قد أصاب أوصال الجماعة وتفشى مثل الوباء، ولكن في النهاية نحسبهم على خير، مؤكدًا أن كل إنسان سيحاسب عن نفسه لا عن الجماعة لذا اختار هو طريقه».

من هذه المشاهد الثلاثة نستطيع أن نستخرج جزءًا من المشهد الدفين داخل جماعة الإخوان المسلمين في الخارج التي تسبب الجمود في حراكها والنزاع بداخلها إلى تسرب نزعة تكفيرية وجهادية إلى داخل صفوفها الأصغر سنًا دون أن يلتفت كثيرون إلى هذه الحالات التي ترى أن الوقت ربما تجاوز مشروع الإخوان إلى مشاريع «جهادية» أكثر حيوية.


من رحم التنظيم

عن قُرب، حاولنا البحث عن نماذج حية أتت من رحم جماعة الإخوان المسلمين، دخلت هذه الحالة التي رصدنا مراحل تطورها سابقًا، فاقتربنا من حالتين لاثنين من أبناء قيادات جماعة الإخوان المسلمين خاضا تجربة القتال في صفوف تنظيم جبهة النصرة التابع لتنظيم القاعدة (سابقًا) بالداخل السوري.

(ب.ت) نجل قيادي وسيط بجماعة الإخوان المسلمين من محافظة الإسكندرية وهو الدكتور (ت.م) الذي يعتبر على خلاف حاد مع إدارة الجماعة حاليًا، سافر إلى دولة السودان عقب أحداث فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة ولحق به ابنه بعد اعتقاله على خلفية تهمة التظاهر بدون ترخيص.

ليقرر الابن العودة لدراسة الثانوية العامة في السودان مستهدفًا دخول كلية من كليات القمة بعد عدم استطاعته ذلك في مصر بسبب ظروف اعتقاله، ومن ثم السفر إلى دولة تركيا لاستكمال دراسته الجامعية.

التقينا بأحد أصدقاء الابن في دولة السودان، وأكد أن تواجده مع والده في ظل اشتداد الخلاف بين الأب وقيادات الجماعة، مثّل عامل ضغط عليه في كثير من الأحيان، حيث رأى تعامل قيادات الجماعة بجفاء مع والده بسبب الخلافات الإدارية والفكرية.

يروي لنا صديقه أنه في ذلك الوقت لم يكن لـ (ب.ت) توجه سياسي بعينه أو انتماء فكري خارج إطار الإخوان، وكان جل ما يشغل وقته هو الدراسة، لكن عقب انتهائها بدأ مع مجموعة تدارُس أسباب سفر بعض الشباب إلى سوريا، ليبدأ الانفتاح على التجربة الجهادية ومقارنة الوضع بمصر، وبدأ في طرح أسئلة من قبيل مصير الوضع المصري واتجاهات الجماعة، والتي لم يكن لها إجابة لدى القيادات في السودان بحسب رواية صديقه.

سافر الشاب إلى تركيا للبحث عن جامعة لاستكمال دراسته، وبدأ بالفعل في التقدم بأوراقه للالتحاق بإحدى الجامعات، ثم اختفى فجأة، وعرف زملاؤه أنه سافر إلى سوريا وانضم إلى جبهة النصرة.

سعيًا منا إلى ملامسة حالة هذا الشاب، عن قرب، جمعتنا جلسة مطولة مع والده، الدكتور (ت.م)، للحديث عن نجله، ومدى ارتباط ما حدث معه بالأحوال الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين التي دفعت الشباب لاتخاذ مثل هذه المسالك، حيث أشار إلى أن سفر ابنه لا ينفك عن الحالة الداخلية للجماعة، وليؤكد لنا ذلك ذكر أن هناك عشرات الشباب خطوا خطوات نجله واستشاروه في نفس الأمر، بعدما يأسوا من طريق الجماعة الذي تسير فيه في هذه اللحظات الحرجة.

«أراد ابني أن يذهب للجهاد، ولم أمنعه، بل أعطيته مالًا كافيًا لرحلته بعدما أوصلته بنفسي إلى طريقه دونما أي ندم»، يروي الأب.

مضيفًا أنه يتواصل معه بشكل دوري للاطمئنان عليه، ناقلًا إشادة ابنه بوضعه متمنيًا، بندم، لو أنه لحق بهذا الركب منذ زمن بعيد، بحسب ما روى لنا والده.

وللحديث عن حالة نجله وأسبابها وتفاصيلها، اتفقنا مع الدكتور (ت.م) أن يكون لنا لقاء آخر، إلا أننا فوجئنا باعتذار عن التصريح لنا تحت ذريعة «الظرف الأمني»، وذلك بعد رفض الابن أن يواصل والده الحديث معنا، بحسب رواية الأب، الذي رحّب بالمشاركة في التحقيق سابقًا.

أقل من عام كان كفيلًا لعودة (ب ت) مرةً أخرى من رحلته الجهادية في الداخل السوري إلى تركيا لمواصلة تعليمه، التقيناه بعد العودة، ليتحفّظ على ذكر أسباب رجوعه، واصفًا إياها بـ «الشخصية»، مُغلقًا صفحات هذه الفترة.

لا يختلف حال الشاب (م.هـ) – وهو نجل أحد الأقرباء من الدرجة الأولى لواحد من قيادات جماعة الإخوان المسلمين – عن حال (ب.ت)، فقصتهما تُعد متطابقة في الكثير من تفاصيلها، حيث بدأ الشابان الرحلة سويًا من السودان إلى تركيا انتهاء بالأراضي السورية، ثم العودة إلى تركيا مرةً أخرى.

إلا أن ردة فعل أهل الشابين كانت مختلفة تمامًا.

حيث ثار الأب بعدما عرف بالتحاق نجله، بجبهة النصرة. مصدر مقرّب أخبرنا بدخوله في حالة نفسية صعبة، ليبدأ رحلة البحث عن ابنه مستعينًا بأجهزة الأمن التركية.

مصدر آخر قريب من هذه الوقائع -رفض الإفصاح عن اسمه- تواصلنا معه، أكد لنا رواية تتحدث عن دفع الأب للشرطة التركية مبلغًا ماليًا للبحث عن نجله وإعادته، إلا أنه استسلم في النهاية للأمر الواقع وهدأت ثورته بعدما تواصل معه نجله من سوريا، بعد انقطاع الفترة الأولية في معسكرات استقبال جبهة النصرة.

حاولنا التواصل مرارًا خلال فترة إعداد التحقيق، مع والد الشاب (م.هـ) لنحصل منه في البداية على موافقة أولية لإجراء المقابلة معنا، لكنه عاد إلى التهرب مرة أخرى من الحديث إلينا، متجاهلًا رسائلنا عبر قنوات الاتصال التي اختارها بنفسه، حتى عودة الابن إلى تركيا.

[*] (بعد نشر التحقيق تواصل معنا والد الشاب (م.هـ) بنفسه فقط لينفي المعلومة التي تتحدث عن دفعه للشرطة التركية مبلغًا ماليًا للبحث عن نجله وإعادته).


كيف يرى التنظيم من الداخل هذه الحالة؟

شهاب شاب إخواني انضم إلى جماعة جهادية وقتل في سوريا
شهاب شاب إخواني انضم إلى جماعة جهادية وقتل في سوريا

تنظيميًا، تحدثنا إلى محمد صابر سليمان، القيادي بلجنة الشباب المركزية داخل جماعة الإخوان المسلمين، عن هذه الظاهرة التي انتابت قطاعًا من شباب الجماعة ليؤكد لنا أن هناك عددًا كبيرًا من شباب الجماعة ذهب بالفعل وانضم لتنظيمات جهادية في سوريا، لكن بالنسبة لحجم جماعة الإخوان كتنظيم كبير فالأعداد ستكون ضعيفة.

سليمان وجّه نظرنا إلى مشكلةٍ أخرى داخل الهيكل الإداري للجماعة، حيث لا يوجد حصر دقيق بهذه الأعداد، ويُكتفى دائمًا بالقول بإنه من المعلوم أن هناك مجموعات سافرت إلى سيناء، ومجموعات أخرى توجهت لجبهة النصرة في سوريا، ومجموعات إلى تنظيم الدولة الإسلامية «داعش».

كما استطرد سليمان قائلًا: «إن هناك مجموعات لا تؤمن بتلك التنظيمات المختلفة، وآثرت أن تعمل بشكل فردي، ولكنهم مشتركون في عدم الإيمان بالسلمية أو النضال الدستوري بعد فشل التجربة الديمقراطية في مصر وتجربة الانقلاب العسكري».

تحدثنا مع سليمان كأحد أعضاء اللجنة المركزية لشباب الجماعة عن رأيه في هذه الظاهرة بشكل عام، ورأى أن المسألة تتلخص في أنه بعد ثورات الربيع العربي، وبالتحديد ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر، كانت هناك الرغبة الكبيرة للتغيير، وبدأت حينها فكرة الإيمان بالحلول السلمية التي من خلالها يمكن أن تحصل على الحرية ودولة ديمقراطية حديثة. أما بعد الانقلابات التي حدثت في كافة دول الربيع العربي سواء الانقلاب العسكري في مصر أو الانقلاب الناعم في تونس -بحسب تصريحات سليمان- وباقي الدول العربية أصبح التغيير المنشود لدى قطاع من الشباب عن طرق السلمية مغلقًا.

وبحسب وجهة نظره فالشباب أمامهم عدة خيارات الآن؛ إما أن يكونوا في المعتقلات، وقد يموت بعضهم في هذا المعتقل، أو أن يقتلوا في الشوارع، أو في بيوتهم.

ويرى سليمان أن أعداد هؤلاء الشباب ستكون في ازدياد نظرًا لأن جماعة الإخوان الآن لديها إشكالية كبرى، فليس لدى الجماعة رؤية واضحة للصراع، والرؤية الوحيدة لديها هي الانبطاح حتى تمر الأزمة، والمحافظة على التنظيم، في حين أنه يرى أن ذلك عكس ما تربى عليه هؤلاء الشباب، ومن ضمن ذلك ما شعروا به من حرية بعد الثورة، فأصبح لديهم الرجوع إلى نقطة الاستسلام أو الانبطاح هو «خيانة» في وجهة نظرهم.

آثرنا ألا نكتفي بصوت شبابي من داخل الجماعة فقط في التعليق على التحقيق، بل فضلنا أن نذهب إلى جناح القيادات في الجماعة وبالتحديد ما يُطلق عليهم «القيادة التاريخية» للتعقيب على أحاديث هؤلاء الشباب والحالة العامة التي تلبستهم.

تواصلنا مع أحد المتحدثين الإعلاميين المعيّن من قبل رابطة جماعة الإخوان المسلمين في الخارج المحسوبة على تلك القيادة التاريخية، وهو طلعت فهمي الذي يعرّف نفسه متحدثًا باسم جماعة الإخوان المسلمين، وطرحنا عليه عدة أسئلة دارت محاورها حول ما ورد في التحقيق من آراء وشهادات لبعض شباب الجماعة، مستطلعين رؤيته للحالة الجهادية التي بدأت تسري في شريان الجماعة الشبابي.

أجابنا فهمي بأن: «جماعة الإخوان المسلمين جماعة كبيرة تحمل أفكارها قطاعات عديدة من الشباب والشيوخ والرجال والنساء في العالم كله شرقه وغربه، يتأثرون بما حولهم من أحداث في مجتمعاتهم ، ولكن الإخوان يلتزمون بقرارات الجماعة في التعامل مع الأحداث المختلفة في ضوء اختيارات فقهية واقعية ومحددة لا لبس فيها ولا غموض».

مضيفًا: «قد يتخذ بعض الأفراد قرارات فردية لظروف خاصة يقدرونها وغالبًا ما يكون هؤلاء الأفراد ممن لم يندرجوا بعد في صفوف العضوية العاملة بجماعة الإخوان».

ويقول فهمي إنه «كلما زادت الممارسات القمعية من السلطات في مصر والحيلولة بين قيادات الجماعة وعموم الشباب، وكلما زادت حدة القتل والظلم وانتهاك الأعراض والاستيلاء على الممتلكات وهدم البيوت وتعذيب المعتقلين، كلما ازداد الضغط على الشباب، وما يحدث في سيناء ليس ببعيد».

حدثنا طلعت فهمي بعد ذلك عن نظرية الإخوان في التغيير التي تبدأ من الفرد نهاية بالحكومة كما تُشير الأدبيات التاريخية للجماعة.

مؤكدًا في حديثه إلينا أن الجماعة مرت بمحطات كثيرة لم تتغير فيها أفكارها ومبادئها، وغادرها من خالفها وسلك سبيله الذي اختار، ثم تحدث فهمي عن منهج الجماعة الذين يتخذونه كإستراتيجية قائلاً: «الإخوان لهم إستراتيجية مركبة في مواجهة الانقلاب تتمثل في الثبات والتحسين والتطوير التدريجي للعمل الثوري السلمي المناهض للانقلاب»، مؤكدًا أن هذه الإستراتيجية أظهرت الانقلاب متخبطًا من وجهة نظره.

رد فهمي على اتهامات بعض الشباب لقيادات الإخوان في الخارج بإهمالهم، بأن الجماعة تبذل ما في وسعها لرعاية آلاف من أسر الشهداء والمعتقلين والمطاردين في الداخل والخارج في حدود القدرة والإمكانات.

وعلى الجانب السياسي أكد أن الجماعة متواصلة مع أفرادها بكل السبل المتاحة لإحاطتهم بكل جديد، «ولا تلمس منهم إلا حسن الاستجابة»، مشيرًا إلى أن الجماعة لن تتخلى عن شبابها أبدًا.

اختتم طلعت فهمي حديثه إلينا بالتأكيد على مسار الجماعة الذي حدده مرشدها العام قبل اعتقاله في قوله «سلميتنا أقوى من الرصاص»، قائلًا أن الأيام كفيلة أن ترى الناس قيمة هذا المسار الذي لا يعني للجماعة الانبطاح أو الاستسلام أو التنازل عن حقوق الشهداء والمصابين والمعتقلين فضلا عن التمسك بالشرعية.

هذه هي الإجابات شديدة الدبلوماسية التي وصلتنا من المتحدث الإعلامي المعين من قبل جبهة القيادات التاريخية في الجماعة، والتي ربما يختلف معها غالبية الشباب الذين تقابلنا معهم كعينة في هذا التحقيق، وقد ظهر تحميله للنظام مسؤولية توجه بعض الشباب إلى العنف، نافيًا أي مسؤولية للقيادات مؤكدًا على حسن استجابة الصف الإخواني لتوجهات القيادة، ناقلًا إلينا وجهة نظر الجبهة التي يمثلها في الصراع مع النظام وهي محل خلاف مع جبهة أخرى، وقد فضلنا ألا نتعمق في تطورات هذا الخلاف سريع التطور بين قيادات الجماعة مؤخرًا.

لا نستطيع أن نستخلص حالة ونعممها على جسد كبير كشباب جماعة الإخوان المسلمين في داخل مصر وخارجها، لكن بكل بساطة يمكن أن نستخلص اتجاهات للرأي العام داخل شباب الجماعة في هذه الفترة.

والشاهد من هذه الوقائع والأحداث أن انقسام قيادات الجماعة ورؤيتهم للوضع الحالي انعكس على الحالة الشبابية داخل الجماعة وانتقل إليهم، فمن بين شريحة صغيرة ممن تواصلنا معهم داخل مصر هناك من يرون أن الأوضاع الآن ليست في صالح أي تصعيد عنيف تجاه النظام وأن المواجهة بشكلها الحالي لا تعني سوى مزيد من الدماء والاعتقالات، منتظرين أن تحدث خلخلة في المشهد تخرج الشباب من السجون، ومن ثم إعادة ترتيب الصفوف للمستقبل، وهو ما يعني القبول بالأمر الواقع بشكل أو بآخر، وهي رؤية لدى قطاع من القيادات التاريخية للجماعة.

اتجاه آخر لدى شباب الجماعة، وهو القطاع الذي عنينا به في تحقيقنا، يرون أن مسار المواجهة العنيفة مع النظام كان الحل الأمثل لكن الجماعة أضاعته بتململها في انتهاجه، وهؤلاء من تواصلنا مع شريحة منهم أقدم بعضهم بالفعل على اتخاذ خطوات بعيدة عن الجماعة في مسار المواجهة العنيفة مع النظام سواء بالسفر إلى الخارج، أو بالعمل ضمن لجان العمليات النوعية بالداخل التي استقلت عن تنظيم الجماعة بشكل كبير بعد انقسام القيادات على هذا المسار، ومجموعة أخرى مؤيدة لهذا الاتجاه لم تقدم على الفعل وانزوت بعيدًا عن الأحداث بعد مشاهد الانقسام القيادية مكتفية بمشاعر السخط على القيادات الحالية من الجانبين.

إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن ثمة شريحة ثالثة انسحبت من المجال العام للجماعة في وسط هذا التخبط، مكتفية بالمشاغل الحياتية أو الأعباء التي ورثتها نتيجة انضمامهم وتصنيفهم كمؤيدين للجماعة.

وما زلنا نطرح التساؤل: هل ينجح قطاع الجماعة الذي جنح إلى التصعيد أمام النظام في أن يغير من البنية الفكرية والإرث التاريخي للجماعة التي ابتعدت فيه عن الصدام المباشر مكتفية بإستراتيجية الثبات والحفاظ على التنظيم وقت المحن؟.

وجاءت إلينا إجابة الدكتور خليل العناني أستاذ العلوم السياسية الذي رأى أن الأقرب لوصف حالة شباب الإخوان الآن هو الغضب السياسي الذي يدفع للانتقام من السلطة. وليس بالضرورة عنف أيديولوجي أو ديني بهدف إقامة نظام حكم إسلامي أو ما شابه. حتى أولئك الشباب الذين قد يسافرون للجهاد في سوريا، فالدكتور خليل العناني اعتقد أن هذه حالات فردية أكثر منها توجه مخطط نحو الجهاد أو العنف.

ويرى أيضًا أن مشكلة هؤلاء الشباب مزدوجة، فهم من جهة غير راضين عن أداء وطريقة تفكير قياداتهم التي فقدت الشرعية بعد الانقلاب؛ إما نتيجة للفشل أو الهروب خارج البلاد. ومن جهة أخرى، يواجهون حالة استئصال كاملة من نظام السيسي، وهنا يصبح الهرب للجهاد أو استخدام العنف أمرًا طبيعيًا كوسيلة للخلاص من فشل وعجز الجماعة، ومن طغيان النظام، بحسب وصف العناني.

في سياق تحقيقنا أيضًا، تحدثنا إلى الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، في محاولة لفهم عن قرب، بعض الأسباب التي قد تُلجئ قطاعًا من الشباب داخل الجماعة إلى الاتجاه لهذا المنحى المغاير بشكل كبير لما تربوا عليه.

يقول الدكتور سعيد صادق إن بعض هؤلاء الشباب يبحثون عن دور، أي دور، يقومون به؛ من أجل الإحساس بأنهم يقومون بإسداء معروفٍ عظيم «لأمتهم ودينهم».

وبحسب صادق، فإن القمع أيضًا له عاملٌ قوي في هذا الأمر، فكثيرون ممن تبنوا العنف في مصر، كما يرى صادق، كان لهم أقارب قضوا في مجزرة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، وهذا كان دافعًا قويًا لانتهاجهم العنف وسيلةً للانتقام.

وعما يمكن وصفه بوقوع بعض هؤلاء الشباب أسرى للبروباجندا الجهادية، يؤكد صادق أن أهم قسم في أي تنظيم مسلح هو الإعلام، وأهم مكونات هذه التنظيمات هي الرسائل الإعلامية التي يبثونها، كما أن العمليات المسلحة هي إعلام قوي بحد ذاته، ويعتبر الإعلام واستخدامه بشكل مبهر هو أحد عوامل جذب الشباب، مضيفًا أن تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» وغيرها متفوقون للغاية في هذا الجانب.

لكننا وجدنا أنفسنا أمام تخيلات أخرى يفرضها الواقع كإجابات محتملة على مستقبل شباب الجماعة، بعضها يرى أن اتجاه قطاع من شباب الجماعة إلى العنف سيكون بشكل تقليدي وحالات فردية كما تحدث الدكتور خليل العناني، وسيبقى جسد التنظيم الأكبر يلفظ هذه الفكرة من جذورها، وهو سيناريو له دعائم تاريخية في أحداث الصدام مع السلطة العسكرية في مصر 1954، وكذلك في حالة صدام تنظيم 1965، والذي خرجت منه حالات كشكري مصطفى مؤسس جماعة التكفير والهجرة الذي أعدمه النظام فيما بعد في عهد السادات.

وثمة وجهة نظر أخرى ترى أن الواقع الجديد غير واقع التاريخ والتجربة الحالية سوف تفرض تغييرات مفصلية في توجهات الجماعة وطريقة تعاطيها مع النظام، في ظل اتساع هذا التيار وعدم تقديم بديل له يحتوي قطاع الشباب داخل الجماعة؛ لتبقى الجماعة تائهة بلا رؤية بين جدلية السلمية والعنف. فلا القيادات التاريخية التي ساهمت في الحشد ضد النظام بلا رؤية قادرة على التراجع عن ذلك رغم إيمانها بضرورة العودة خطوات إلى الخلف، ولا التيار الشبابي الذي يتبنى التصعيد مدعومًا من جانب قيادي في الجماعة قادر على اتخاذ موقف حاسم يحصد به أغلبية الشباب إلى جانبه، ويبقى شباب الجماعة في وسط هذه الحالة فريسة سهلة وغنيمة مبتغاة لدى التيارات السلفية الجهادية.

جدير بالذكر أنه أثناء إعداد هذا التحقيق، نجحنا من خلال أحد مصادرنا القريبة من تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في الوصول إلى بعض ممن يعنيهم هذا التحقيق ويمس ظروفهم التي عايشوها وتحدثنا عنها. تواصلنا مع أربعة مقاتلين في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، تتقارب ظروفهم التي مرّوا بها مع ما حكته لنا مصادرنا، لكن رفض ثلاثة منهم التصريح إلينا بأي حديث. أما الرابع، بعد موافقته المبدئية، وتحديد موعد للقاء إلكتروني بطريقة وصفها بالآمنة، فاجأنا المصدر الوسيط بأن الشاب قد لقي حتفه في معركة على إحدى جبهات التنظيم.


* تم تغيير غالبية أسماء وأعمار المصادر في التحقيق طبقًا لطلبهم بغرض الحماية.