انتهينا في المقال السابق إلى تكون أولى شفرات الحياة وهي الحمض النووي الذي أدى إلى تكون أولى صور الحياة على الأرض وهي البكتيريا التي سكنت المحيطات وقتها، ولكن قبل أن نشرع في أولى خطوات التطور لنبدأ أولاً بالإمساك بأول الخيوط التي لعبت دورًا رئيسيًا في حدوثه.


ما الحمض النووي وكيف يعمل؟

إذا ما كنت من غير المهتمين بعلم الأحياء أو لم تتعمق في علومه، فعادة لا يعترضك ذلك المصطلح إلا في تلك الأحيان القليلة التي قد تشاهد فيها فيلمًا أجنبيًا يناقش واحدة من جوانب الخيال العلمي، أو إذا تابعت مسلسلاً عربيًا يتحدث عن واحدة من قضايا النسب فتسمع عن طلب إجراء تحليل DNA ولكن ما هو ذلك الشيء، إن الحمض النووي أو ما يعرف علميا باسم «الحمض النووي الريبوزي منزوع الأكسجين – Deoxyribonucleic acid» هو المادة الوراثية التي تحمل كل صفاتنا التي تميزنا عن غيرنا وتكون هيئتنا وكل ما في أجسادنا من خلايا وأعضاء وأجهزة.

إن الحمض النووي هو عبارة عن عدد من العناصر الكيميائية وهي الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين والفوسفور، التي ارتبطت ببعضها البعض لتكون جزيئًا واحدًا والذي نعرفه في أبسط صوره حيث يشبه شكل السلم المحمول ولكنه ملفوف بشكل حلزوني حول نفسه، فإذا نظرت له سترى قائمتي السلم وفي المنتصف توجد الدرجات.

وهذه الدرجات فإذا رأيتها ستجد أنها تتكون من أربعة أنواع مختلفة نرمز لها بالحروف A, T, C, G والتي توجد على قائمة من قائمتي السلم لترتبط بالقائمة الأخرى من خلال درجات مثلها حيث يرتبط الرمز A مع الرمز T والرمز C مع الرمز G، وهي التي تؤدي إلى أربعة احتمالات مختلفة من حيث الجهة الواحدة وهي T-A, A-T, C-G, G-C، حيث إن كل تتابع من تلك القواعد على جهة واحدة فقط ولنفترض أنها «TTCCTGAACCCGTTA» هذا هو ما نطلق عليه اسم «الجين – Gene» وهو المسؤول الأول عن إظهار صفاتنا الوراثية المختلفة والتي تميزنا عن غيرنا وتنتقل لنا من الآباء، ولكن كيف ذلك؟

كل جين مسؤول عن إنتاج بروتين معين، حيث تقوم أجزاء معينة بداخل الخلية تسمى «الريبوسوم – Ribosome» بترجمته لتنتج في النهاية شكل بروتين محدد والذي يقوم هو الآخر بوظيفة محددة، لتظهر علينا مثل لون أعين معين، وطول معين، ولون البشرة، ولون الشعر وطوله، كل شيء بداية من خليتنا الصغيرة جدًا مرورًا بأنسجة جسمنا المختلفة وأعضائنا وأجهزتنا المختلفة حتى شكلنا النهائي الذي نظهر عليه، كل ذلك يصنعه الحمض النووي الموجود بداخل نواة خليتنا.


كيف تطورت البكتيريا؟

لنعود مرة أخرى إلى البكتيريا التي ظهرت كأول صورة من صور الحياة وننظر إلى تكوينها، هي عبارة عن كائن وحيد الخلية لا تحتوى على نواة بداخلها وهي ما نسميه بلقب «بدائيات النواة – Prokaryotes» أي ما قبل وجود النواة، فنجد الحمض النووي الخاص بها ملفوفًا حول نفسه ويسبح في سائل «السيتوبلازم – Cytoplasm» الموجود من ضمن مكوناتها الذي يساعدها على الحياة وتوجد فيه المكونات المسؤولة عن ترجمة الجينات لتنتج البروتينات، ولكنه عند البحث أكثر منذ عدد من السنوات تم اكتشاف أن البكتيريا التي نعرفها ليست هي الصورة الأولى التي كانت منها الحياة ولكن هناك نوعًا خاصًا منها هي التي كانت الوجه الأول وهي ما تعرف باسم «البكتيريا القديمة أو العتائق – Archaea» هي تشبه في تكوينها نفس البكتيريا الموجودة الآن ولكن الاختلاف كان في حمضها النووي وقدرتها على تحمل الظروف المختلفة، فكما عرفنا في المقال السابق بأن الأرض وقتها كانت ما زالت غير مستقرة كفاية فعلى أول أجدادنا أن يمتلك صفات تحميه وتمكنه من عملية البقاء في تلك الظروف وهو ما استطاعت أن تقوم به البكتيريا القديمة من خلال «جدار خلوي – Cell wall» قوي والقدرة على عدم استخدام الهواء أو استخدام الغازات المحيطة أيًا كان نوعها.

ولكن بدأت بعدها تلك البكتيريا في عمليات التكاثر والانتشار وكونها كائن وحيد الخلية فبدأت بالتكاثر من خلال ما يعرف بعملية «الانقسام الثنائي – Binary fission» وهي من خلال مضاعفتها لحمضها النووي لتنتج نسخة مطابقة منها ثم تبدأ بتكوين جدار فاصل بين النسختين وتأخذ على كل جانب من الجدار بعض من مكوناتها معها، واستمرت هكذا في عمليات متتابعة من الانقسام والتكاثر مكونة كميات كبيرة منها ولكن ماذا حدث حينها؟

في واحدة من أهم الصور التي نعرفها الآن والقادرة على أن تغير من تكويننا وهي «الطفرات – Mutations» والتي هناك الكثير منها مثل تغير ترتيب أحرف درجات الحمض النووي والتي بدورها ستغير من الجين وستغير في البروتين الناتج عنه، أو اختفاء حرف واحد أو عدة أحرف من مكانها ذلك الذي سيؤدي إلى نفس التغير، تلك الطفرات قد نتعرض لها ولأسباب عدة قد تحدث، لننظر إلى أول أسلافنا في أثناء مراحل تكاثرهم لينتجوا أجيالاً أكثر وأثناء مرات تضاعف الحمض النووي فقد تحدث هنا بعض الأخطاء الطفيفة، ولكن في تلك الصورة البسيطة منه فأي خطأ لن يكون طفيفًا فسيسبب تغيرات كبيرة في هيئتها، ولنفترض أن تتابع الجينات حدث تغير فيه وكما قلنا في الأعلى أن ترتيب تلك الأحرف هو المسؤول عن إنتاج بروتين معين لإظهار صفة معينة، كذلك إن قمنا بتغيير ذلك الترتيب سينتج بروتين آخر ينتج صفات جديدة مختلفة، هذا نفسه ما حدث فبدأت وقتها تظهر التغيرات في الشكل والتكوين وذلك نتيجة تلك الأخطاء البسيطة التي حدثت أثناء مرحلة التكاثر فنتجت أنواع جديدة تبحث عن الغازات، ولكن كما نعرف فالغازات الموجودة في أعماق المحيطات غير كافية فكان الحل الأمثل لها أن تصعد إلى السطح حتى تجد مبتغاها.

وفي خلال تغلبها على مراحل صعودها بدأت تطور من نفسها مرات عدة فأصبحت قادرة على الحركة بعدما كانت ساكنة وهو تكيفا مع البيئة التي حولها، وكونت بعدها لنفسها أهدابًا لتساعدها على الحركة والتي استطال البعض منها ليشبه الذيل وهو «السوط – Flagellum» ذلك الذي ساعدها على السباحة والحركة أسرع حتى تمكنت من الوصول للسطح، ولكن كانت الأرض حينها غير مكتملة فلم يكن هناك أي وجود للغلاف الجوي حتى يحمي الأرض من الأشعة الضارة أو الكثير من الأشياء التي قد يجذبها مجال جاذبية الأرض، وبتعرض تلك الكائنات الدقيقة إلى تلك الأشعة التي أثرت هي الأخرى على حمضها النووي نتجت عنها طفرات أخرى، فعلى سبيل المثال بعدما كانت مستخدمة من الدرجة الأولى للهواء أصبحت قادرة على تصنيعه فبدأت بإنتاج أهم عنصر لوجود الحياة على سطح الأرض وهو الأكسجين، ولكن مع حجمها الضئيل وإمكانيتها على إنتاج الأكسجين البسيطة كانت جزيئات الحديد التي تملأ مياه البحار تستحوذ على كل الأكسجين المنتج، ومع كل اندماج بين الأكسجين والحديد فيصدأ الحديد ويترسب ويتراكم وهو الذي ساعد بتراكم هذه الترسبات على تكوين الكثير من الأسطح الأرضية التي أصبحت اليوم مصدرًا مهما لاستخراج الحديد والصلب وأصبحت أراضي نسير عليها، وبعد أن صدأت كافة جزيئات الحديد في كل الأنحاء ولم يبق أي شيء آخر ليستحوذ على الأكسجين بدأت كميته تزداد في المياه ويرتفع لأعلى خارجًا من الماء متراكمًا بكميته الكبيرة في الغلاف الجوي ليستعد سطح الأرض لاستقبال الحياة بعدها، وأيضاً أعطى للسماء لونها الأزرق وبالتالي لون المياه التي تعكسها.

ومع زيادة الأكسجين في الماء على حساب أنواع الغازات الأخرى التي كانت مصدرًا مهمًا لحياة الكثير من البكتيريا كان الحل أمام العديد من الأنواع أن تتكيف معه وتتعلم كيف أن تتعايش عليه وتكون أول صور الحياة التي تبدأ في التنفس بالأكسجين، فمع وجود ذلك العنصر وبدء استخدامه كانت واحدة من أهم الطفرات التي ساعدت في تطور الحياة فبكمية الطاقة التي كانت تستقبلها تلك البكتيريا كانت تحتاج إلى نظام أكثر تعقيدًا لتتعامل معه، نظام يستغل تلك الطاقة في إنتاج غذاء لنفسها بداخلها ويمكنها من التعايش بشكل أفضل، وهو ما قامت به عندما بدأت بحفظ حمضها النووي بداخل غلاف يحميه ويفصله عن مكوناتها الأخرى لتتيح مساحة أكبر لتقوم بوظائف جديدة، وهنا ظهرت أول الخلايا التي تمتلك النواة والتي نعرفها باسم «حقيقيات النواة – Eukaryotes» كان ذلك بعد مرور ما يقرب من 3 بلايين سنة منذ نشأة كوكب الأرض أي قبل يومنا الآن بحوالي 500 مليون سنة، ومع ذلك التطور ووجود النواة بدأت أشكال الحياة الأخرى بالظهور كأنواع مختلفة من الكائنات الدقيقة وظهور «الطلائعيات – Protista» والتي تطورت بعدها لتنتج «الفطريات – Fungi» و«النباتات – Plants» و«الحيوانات – Animals»، ولكن كيف حدث ذلك وبدأ ظهور ذلك الفرع الذي سننسل منه وما هو «الانفجار الكامبري – Cambrian explosion»؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. DNA
  2. Protein synthesis
  3. Archaea morphology
  4. The Domain Archaea
  5. Origin of Eukaryotes nucleus
  6. Relationship between Eukaryotes and Archaea
  7. The evolution of eukaryotes