لا أريد من هذا التحليل البكاءَ على الأطلال، وذرف الدموع الخجلى على ضحايا المذبحة السورية المفتوحة. لكن الهدف هو الاعتبار من دروس الثورة المغدورة التي دُفع – ولا يزال – ثمنها الباهظ من الدماء والأعمار والأعصاب والتاريخ والجغرافيا. ولعل يكون هناك فرصة – وإن ضعُفَت للغاية – للاستدراك، وتغيير المسار، أو على الأقل تثبيت منحنى الانهيار، والخروج بأقل الخسائر.


هل اقترب مشهد النهاية؟

لا نملك رفاهية استهلاك الشعارات، ودغدغة العواطف بكلاشيهات ابتذلها الواقع والتاريخ مثل «الخير سينتصر في النهاية»، «نظام الأسد يترنح»، «لن يسمح المجتمع الدولي باستمرار حاكم يقتل شعبه ليل نهار»… الخ. إنما الواجب الأول أن نقيّم المشهد واقعياً، لنعرف أين موضع أقدامنا.

الثورة السورية الآن في أشد فصولها مأساوية والذي بدأ منذ التدخل الروسي المباشر في أواخر 2015 الذي كسر حالة التعادل السائدة، فوضع مناطق الثوار جميعها تحت النار، وجاءت أبرز تجلياته كما شهدنا في أواخر 2016 بسحق حلب الشرقية أكبر معاقل الثورة.

وهكذا تآكلت أعلام الثورة السورية من الخارطة، وأزيحَت بسياسة الأرض المحروقة من كل المدن الكبيرة تقريباً، وحُصِرَت – بين مطرقة القصف الوحشي اليومي من النظام وحلفائه، وسندان الدواعش الذين إذا أطلقوا على النظام سهمًا، فإنهم يطلقون على الثورة عشرة أسهم – في كانتونات مأزومة.. جيب درع الفرات في الشمال من جرابلس إلى الباب، والذي ييدو أن فيتو أمريكي – روسي قد أوقف نموه. وجيوب في الجنوب حول درعا وفي ريف القنيطرة، وجيب في الوسط في ريف حماه، وجيوب محاصرة في ريف دمشق. أما أكبرها فمحافظة إدلب في الشمال الغربي، والتي أصبحت منفى مُهجّري الثورة، تمهيداً لتجميع كل ما تبقى من الثورة فيها ليأكل بعضها ما تبقى من بعض، أو ليُسحَق الجميع بالضربة القاضية.. أيهما أسبق.

وفي الخارج، ملايين اللاجئين السوريين يتفنن العالم في التضييق عليهم هنا وهناك على مدار الساعة، وتفصّل القوانين والقرارات من أجل ذلك.


كيف طعنت الثورة نفسها في المقاتِل؟

طوال ست سنوات من عمر هذه الثورة الملحمية، لم تتوقف آلة القتل الأسدية عن القتل والاعتقال والتدمير بشكل فاق فيه الابن وحشية الأب، وتكالبت عليها المؤامرات، إما لسحقها (كحلفاء بشار خاصة الإيرانيين) أو لتحويلها إلى محرقة غير محسومة لاستنزاف جميع الأطراف، والتمهيد لخارطة جديدة للشرق الأوسط (أمريكا وإسرائيل). ولكن كان يمكن للثورة أن تتغلب على كل هذا أو بعضه، لو لم تكن الجبهة الثورية الداخلية قد ابتليت بالكوارث الأربع التي سنذكرها، والتي ضربتها في الصميم، وقدمت خدمات استثنائية لخصومها.

1. التشرذم والاختلاف غير السوي، في مقابل توحد الحلف الإجرامي حول هدفه الأكبر

من الطبيعي أن تضم الثورة أطيافاً فكرية وأيديولوجية عديدة من مكونات الشعب السوري، من السلفيين الجهاديين إلى الشيوعيين. ومن الطبيعي ألا تكون المصالح الجزئية واحدة خاصة مع اختلاف داعمي الثورة فكراً وأهدافاً. لكن الجنون بعينه أن يقتل قوى الثورة بعضها بعضاً، ويخون بعضها بعضاً، بينما العدو المشترك يدك المدن الثائرة على رؤوس الناس، ويهجّر من يتبقى منهم في مشاهد تذكر بنكبة فلسطين.

وفي كل كانتون ثوري، تجد عشرات الفصائل والأعلام والرايات. ورغم أن الكثير منها يحمل نفس الأيديولوجيا الإسلامية، فإنهم لا يتحملون الاختلافات الفرعية جدًا فيما بينهم. والنتيجة أن تلاعب بها النظام ومخابراته، وزرع الكثير من عملائه، ولعب جيداً على وتر التنازعات فزادها ضِرامًا.

وتجلَّت كارثية التشرذم أثناء محرقة حلب ٢٠١٦ وما تلاها، فبعض الجبهات «الثورية» الأخرى ظلت ساكنة كأنها تمالئ النظام على الاستفراد بحلب. حتى خرجت مظاهراتٍ عديدة من أهالي بعض مناطق غوطة دمشق، ودرعا… تتضامن مع حلب وتطالب بفتح الجبهات.

وبعد سقوط حلب، لم تكن كل هذه المآسي بكافية ليفيق مسلحو المعارضة السورية من غيّ التشرذم وعار الاقتتال، رغم ما ظهر جليًا من عجز الحلفاء، وتكاتف الأعداء لسحق الثورة بكل أطيافها. فإذ بإدلب تتحول إلى ساحة حرب ونزاع على النفوذ بين أكبر فصائل المعارضة، خاصة أحرار الشام، وجبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً ) والتي ابتلعت فصائل كثيرة رهباً ورغباً وتوسعت لتسمي نفسها (هيئة تحرير الشام).

أما على الجانب الآخر، وعلى الرغم من اختلافات ليست بالهيّنة في المصالح والتوجهات، فإنه يستميت لدعم نظام الأسد والقتال معه من أجل الإبقاء عليه، دولة عالمية كبرى عنيدة تشتهر بسياسة الأرض المحروقة، وطرف إقليمي قوي يمتلك تخمة من البراجماتية والطائفية، وفصيلٌ أيدولوجيٌّ متمرس في القتال، بجانب آلاف المتطوعين المتعصبين الذي يتعبدون بسحق هذه الثورة وكل من ينتسب إليها.

2. الارتكان إلى حلفاء لا يعتمد عليهم

ما كان أسرع ما تحولت الثورة إلى حرب إقليمية – يل ودولية – مباشرة وبالوكالة. وفي مقابل الحلف المتماسك الملتف حول النظام الإجرامي، خاصة إيران – حزب الله – الميليشيات الشيعية، فإن حلفاء الثورة الذين ارتكنت معظم قوى الثورة إليهم، وارتهنت قرارها بأيديهم، إما لم يكونوا على مستوى الحدث الاستثنائي الخطير، أو لهم اعتبارات داخلية ومصالحية تحول دون تقديم الدعم اللائق.

  • تركيا: رغم أنها أقوى الحلفاء، ورغم الموقف الإنساني المتميز باستضافة أكثر من مليوني لاجيء سوري. فإن دورها لم يحدث فارقاً دراماتيكياً، نظراً لحساباتها الداخلية المعقدة، والتي تجلت أخطر لحظاتها في انقلاب يوليو ٢٠١٦ والذي كاد يطيح بتركيا خارج كل المعادلات، مما فرض عليها الحذر الشديد لدرجة الوسوسة في كل تحركاتها، فظلت سنواتٍ لا تستطيع تخطي السقف الأمريكي في تسليح الثورة نوعياً بمضادات الطائرات مثلاً، أو التدخل السافر على الأرض السورية. وأيضاً أسبقية تقديم المصالح التركية الخاصة على دعم الثورة. كل هذا جعلها لا تتحرك بشكل مباشر إلا في الوقت الضائع، عندما تفاقم النفوذ الكردي في شمال سوريا استقواءً بالرهان الأمريكي على أكراد سوريا. فبدأت عملية درع الفرات في أواخر ٢٠١٦ استثماراً للتقارب مع روسيا. فأضافت لأراضي المعارضة جيب جرابلس – الباب على حساب داعش وكسراً للطوق الكردي.
  • قطر: لا يسمح حجمها وقدراتها، بأكثر من الدعم الإعلامي، والمادي، وبعض التسليح الذي بالطبع لم يتخطَ السقف الأمريكي.
  • السعودية: كان ولا يزال هدفها الرئيسي هو استنزاف إيران والأسد، وليس دعم الثورة. وموقفها من ثورات الربيع العربي عموماً معروف. كما أن شغلها الشاغل الآن هو المستنقع اليمني. وهي أيضاً لا تملك الخروج على التوازنات الكبري الروسية الأمريكية في سوريا.

وفي كل الأحوال، لن يضحي حليف بالكثير لدعم طرف غير موثوق، ومتشرذم، وضعيف.

3. الثقة بالعم سام

راهن الكثير من قوى الثورة وداعميها على الطرف الأمريكي في الحسم ضد بشار. لكن انتهى رهانهم إلى اللاشيء بل إلى النقيض:

  • منع الأمريكان حلفاء الثورة من تقديم دعمٍ جوهري قد يسرع الحسم، كـ مضادات الطائرات.
  • يكفى لتحقيق مصالح أمريكا وإسرائيل، تقليم أظافر النظام السوري، بنزع سلاحه الكيماوي، واستمرار استنزاف قواته، وقوة الحليف الإيراني، وهو ما تحقق ويتحقق. وبقاء بشار في السلطة بلا أنياب خير لهذه المصالح من بدائل ثورية راديكالية خاصة الإسلامية والجهادية.
  • الرهان الأمريكي الآن في القضاء على داعش مُركّز على أكراد سوريا، وهؤلاء موقفهم ملتبس من الثورة، بل لهم علاقات لا تخفى مع النظام. ولا يهمهم إلا مصالحهم السياسية والعرقية.
  • لن يواجه الأمريكان الروس من أجل ثورة سوريا. بل يكفيهم أن يحقق الروس تحجيم النفوذ الإيراني، وضمان أمن إسرائيل، وليفعلوا ما شاءوا بعدها.

4. طغيان الجهاديين على المشهد

ليست هذه المرة الأولى التي يفسد فيها تعصب الجهاديين، وضيق أفقهم السياسي والفكري، حرب تحرير باسلة، ويلقي بتضحياتها إلى الجحيم. فما حرب أفغانستان منا ببعيد، عندما اقتتل المجاهدون لسنوات بعد سقوط كابول وخروج السوفييت.

وكان أخبث ما قام به نظام الأسد أن أخرج الكثير من قيادات الجهاديبن من سجونه في بداية تسلح الثورة، وذلك لكي يفرضوا طابعهم عليها، فانحسر جانب كبير من الالتفاف الشعبي، الذي لم يعد يرى فارقاً كبيراً بين البديل والنظام يستحق التضحية. وكثيراً ما استبدوا بحرية الناس وأرواحهم في مناطق نفوذهم، ومنعوا المظاهرات، و منع بعضهم رفع علم الثورة. ثم تاجر النظام بحساسية المجتمع الدولي من الجهاديين، وبدأ يكتسب شرعية «الحرب على الإرهاب» التي يقدسها العالم المنافق أكثر من أرواح أبرياء سوريا وحريتهم وكرامتهم.


هل ما يزال للثورة السورية فرصة أخيرة؟

باستمرار المعطيات الحالية، واستمرار هيمنة العوامل السابقة. فإن مشهد النهاية المأساوية أقرب من حبل الوريد. ولا فرصة أخيرة إلا بتغيير جذري في المشهد الداخلي أقل ما فيه تجمع كل الفصائل المعارضة المسلحة في كيان واحد، يفرز واجهة سياسية واحدة ومعبرة. يتوافق فيه الجميع على المطالب الكبرى كرحيل الأسد، وتصور منطقي لما بعد بشار يُحتكم فيه إلى الانتخابات النزيهة مساراً وحيداً، وتقام حياة مدنية ديموقراطية.

متغير داخلي كهذا قد يعيد قوى الثورة إلى الواجهة من جديد، ويعيد الثقة الضائعة لدى غالبية الشعب السوري، وقد يغير الموقف الخارجي، ويعيد التوازن إلى معادلات الصراع.