يعدّ السؤال عن علاقة مفاهيمنا الكلية/الميتافيزيقية** وخاصة تلك النابعة من الإسلام باللحظة التاريخية التي نعيشها أحد أبرز الأسئلة التي أثارتها ثورات الربيع العربي. وإن لم يكن هذا السؤال جديدًا؛ فهو ما فتئ يُطرح منذ الاصطدام الإمبريالي بالحداثة من آخر القرن الثامن عشر، إلّا أنه يكتسب دلالات مختلفة تمامًا في هذه اللحظة. فشتّان بين طرحه في القرن التاسع عشر – ومشروع الحداثة يؤكد باستعلائه التنويري أنّ الكلي العقلي (سواء العلمي أو الإنساني) سيحلّ محلّ الكلّي المسيحي اللاهوتي أو ما يوازيه بحسب الافتراض التعسفي للحداثة – وطرحه بعد أفول الكليات الحداثية بعد الحرب العالمية الثانية وبزوغ حقبة ما بعد الحداثة ووعدها بفردوس لا متناه من الإبداع بعد إعلان وفاة المعنى الكلّي. شتّان أيضًا بين طرح السؤال ذاته في ذروة خطاب ما بعد الحداثة في الستينيات والثمانينيات من القرن المنصرم وطرحه الآن، ونحن نعيش على مشارف حقبة ما بعد «ما بعد الحداثة» والحديث عن عودة الدين والميتافيزيقا وميلاد الإنسان من جديد في الأنثروبولوجيا والسياسة والفلسفة.

أودّ في هذه المقالة أن أقدّم تحليلًا موجزًا لموقفنا الحالي، والذي أعده شديد الإشكال، من هذا السؤال على خلفية ردّات الفعل التي رصدتها لحادث باريس الدامي. اختياري ربط هذا السؤال المهمّ في واقعنا الثقافي بحوادث باريس ليس عشوائيًا؛ فالمفترض أنّ كليات الإسلام لها علاقة تأويلية صحيحة أو مغلوطة بما حدث. في هذا الإطار، سأستشرف إجابة عن سؤال أثاره الكثير من الناشطين والمثقّفين على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي حول مغزى الحديث عن «إسلام صحيح»، وعبثية الاحتجاج بأنّ فظائع «تنظيم الدولة» ومن قبله «القاعدة» لا تمثّل هذا الجوهر النقي للإسلام.

ينقسم تحليلي إلى قسمين، يقدّم الجزء الأول مقاربة لمفهوم العنف وعلاقة هذا المفهوم الأصيلة على مستوى الفكر والممارسة بتصوّر علاقة الجزئي بالكلّي. ويتناول الجزء الثاني من التحليل مفهوم العنف في سياق تعامل التراث الإسلامي السني بصفة عامة مع سؤال علاقة الجزئي بالكلّي، محاولًا فهم ظاهرة العنف التي تمارسها الأصولية السلفية على هذه الخلفية.


مفهوم العنف وعلاقة الكلي بالجزئي

لنبدأ بعلاقة مفهوم العنف بتصوّر علاقة الكلّي بالجزئي/التاريخي. «العنف» في حد ذاته ظاهرة إنسانية أصيلة؛ الدليل على ذلك أنّ أي مشروع فكري أنتَج بطريقةٍ ما تصوّرًا ما عن العنف بهذا الاعتبار بناء على أسسه المعرفية ومعاييره الأخلاقية. في «الجمهورية»على سبيل المثال يقرّر أفلاطون على لسان سقراط أنّ العنف المسموح به لحراس المدينة الفاضلة في التعامل مع أعداء المدينة يختلف بحسب عرقية الأعداء. إذا لم يكن الأعداء من الإغريق، أي برابرة بتعريفه، فيجوز لحراس المدينة الفاضلة التي تحكمها أرستقراطية معرفية على رأسها ملك فيلسوف أن يمثّلوا بجثث الأعداء. أمّا إذا كان أولئك الأعداء من الإغريق؛ أي من العرق الذي اكتشف أهمية المنطق الجدلي الذى يؤدّي بدوره إلى فهم المُثُل أو الكُلّيات العقلية التي تفسر الاختلافات في عالم المادة، فذلك النوع من العنف لا يمكن قبوله.

في العصر الوسيط يحدّثنا القدّيس توما الأكويني في نهاية تعليقاته على كتاب «السياسة» لأرسطو عن ضرورة أن يحرق الملك، بصفته صاحب القانون الإنساني وراعيه، كل من يخرق هذا القانون أو القانون الإلهي. فكلاهما يكمّل الآخر بوصفهما تجسُّدًا للقانونين الأبدي والطبيعي في الواقع الأرضي.

في أوج عصر التنوير، عرّف كانط المجتمعات العقلانية بأنها تلك التي يتعامل كل فرد فيها مع الآخر بصفته غاية في حد ذاته وليس وسيلة، ومن ثمّ يحترم جوهره العاقل ومن ثمّ حريته المطلقة بما أنّ العقل الخالص، غير الخاضع في أحكامه الأخلاقية المجرّدة لأي مؤثّر حسي، هو أساس حرية الإنسان. ويري كانط، كما يتنبّأ في مقالته الشهيرة بعنوان «تصوّر عن التاريخ الكوني بغائية كوزموبوليتانية»، أنّ تصارع المجتمعات العنيف في طريقها إلى الاستنارة وتحقيق هذه الحرية العقلانية سيتمخض في النهاية عن هيئة أممية تنظم العلاقات بين هذه المجتمعات الرشيدة. منتقدو كانط، وعلى رأسهم كارل شميت خاصة في كتابه «ناموس الأرض والمثالية السياسية»،أكّدوا استحالة فرضية القائلة إنّ القرار السياسي عقلاني محض، وعلى هذا تهكّموا من فكرة أنّ الأمم المختلفة ستتصارع من أجل تحقيق العقلانية في التاريخ.

على صعيدٍ آخر، أكّد هيجل أنّ التاريخ يتحرّك في إطار عنيف، وأنّ روح العقل حينما تتمثّل في أمّة ما سيتمثّل هذا سياسيًا في عقلانية دولتها. الدولة التي يصل في ثقافتها تجلّي العقل إلى منتهاه تكتسب حقًا جدليًا بأن تحلّ، من ثمّ، محلّ الثقافات التي لا تزال ترزح في ماديتها. لذا قال الكثيرون إنّ فلسفة هيجل تؤسس للنازية. ومع انهيار المشروع الحداثي، أصبحت الأيديولوجيا والمنفعة المادية أساس تبرير العنف. وأدبيات الفلسفة التحليلية والبرجماتية الأميركية تعجّ بنظريات مختلفة لتبرير العنف والحرب على هذا الأساس.

نلاحظ في كل هذه السياقات أنّ الموقف من تبرير العنف يُفهَم معرفيًا وأخلاقيًا من خلال علاقة الكلّي بالجزئي أو التاريخي. لنأخذ من الأمثلة السابقة كانط وهيجل بوصفهما الأكثر قربًا منّا تاريخيًّا. في حالة كانط، على سبيل المثال، الحكم الكلّي المجرد عن أي تأثيرات حسية يمثّل الجوهر العقلي للإنسان. ويمثّل هذا الجوهر العقلي بدوره أصل حرية الإنسان؛ فمن خلاله يؤكّد الإنسان لنفسه أنه ليس فقط جزءًا من الطبيعة وقوانينها بل أيضا إنّه متعالٍ عليها. الصراع من أجل تفعيل هذا الكلّي العقلي هو مسوغ العنف. هيجل أكثر راديكالية. فهو لا يريد أن يفعل الكلي العقلي في التاريخ، ولكنه يرى أنّ التاريخ ذاته تجلٍ للعقل. لذلك يجب أن يقهر الكلّي العقلي كل ما هو جزئي في المادة والطبيعة. يتحقق هذا سياسيًا من خلال جدل عنيف بين الثقافات الأكثر عقلانية وتلك الأكثر مادية، حتى يتغلّب النوع الأول تمامًا على النوع الثاني.

ممّا سبق نستنتج أنّ علاقة الكلّي بالجزئي مرتبطة جوهريًا بمفهوم العنف وتبرير ممارسته.


مفهوم العنف في التراث الإسلامي

أنتقل الآن إلى الجزء الثاني وهو تحليلي العام لمفهوم العنف في التراث الإسلامي. لنتأمّل إحدى أولى آيات تشريع الجهاد في القرآن الكريم: «…وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا…» المتأمل لهذه الآية يجد الآتي: التدافع الكوني أو الجهاد الأصغر، والذي هو ممارسة فعل العنف تجاه الآخر، شُرّع لا لفرض تصوّر الإسلام العقدي الكلّي على الآخرين ولكن لمنع أيّ تصوّر كلّي إسلامي أو غير إسلامي من أن يصادر على أيّ تصوّر آخر حقّه في الوجود. باختصار، دور الجهاد هو تأمين مجتمع يُسمح فيه بتعددية لا سقف لها لتصوّر الكلّي وعلاقته بالجزئي.

تتجلّى هذه العلاقة بجلاء أكثر حينما نتأمّل علاقة الكلّي بالجزئي في بنية العلوم الإسلامية السنّية وصوغها لهذه العلاقة على مستوى الفكر والممارسة. ففي التراث الكلامي الذي يبحث في الكليات، نجد أنّ المدرسة الأشعرية (المدرسة السنّية الأوسع تأثيرًا) رفضت التنزيه المطلق الذي روَّجت له المعتزلة بعقلانيتها المفرطة، كما رفضت التشبيه الذي ينطلق من رؤية جزئية مادية. والسبب أنها رأت في الأول نزعة لفرض تصوّر كلّي بعينه كما هو، بينما رأت في الثاني نزعةً لفرض تصوّر مادي جزئي.

لنأخذ مثالًا للتوضيح. أثبت الأشاعرة الصفات المعنوية (مثل عالم وقادر) ورفضوا نفي صفات المعاني (مثل العلم والقدرة) مثلما فعل المعتزلة. لماذا؟ ليس فقط لأنّ إثبات صفات المعنى يتّفق مع البديهة، ولكن أيضًا لأنّ إثباتها بهذا المعنى المطلق يفتح الباب للتفكير الجدلي في علاقة هذه المطلقات بالعالم. يتناقض هذا الموقف مع موقف المعتزلة الذي يعتمد في الأساس على فرضيات عقلية جامدة يحددون من خلالها حدود التصرف الإلهي في العالم. إلّا أنّ هذه التصوّرات يمكن للتطور المنطقي نفيها حتى على المستوى المجرّد.

من الزاوية المقابلة، انحاز الأشاعرة للمعتزلة في رفضهم لتأكيد أنّ الصفة زائدة على الذات كما هو الحال في أيّ ظاهرة طبيعية، لأنّ هذا التشبيه إمعانٌ في المادية. تتطابق هذه النزعة مع التعددية الفقهية في الإسلام السنّي. فالإمام الجويني، أحد أبرز روّاد المذهب الشافعي، يري في «غياث الأمم في التياث الظلم» أنّ دور الإمام أو الحاكم يكمن في الحفاظ على تعدد المذاهب وعدم الانحياز لأحدها، ولهذا فإنّ إمام الحرمين انتقد الخليفة المأمون لا لكونه أشعريًا والمأمون معتزليًا، بل لأنّ المأمون فرض مذهبًا معيّنًا وبهذا قتل التعدد. فالمذاهب الفقهية، كما نتعلم من ابن خلدون وكما أكّد حديثًا وائل حلّاق، تمثّل مناهج مختلفة لتأويل الأصول الكلّية في الواقع التاريخي، ولهذا فالاجتهاد أصل من أصولها والتجديد روحها.

باختصار، جوهر علاقة الكلّي بالجزئي في الإسلام هو التأويل التعددي المستمر الذي يحافظ على إمكانية الكلّي ولا يفرضه فرضًا على الناس. ولا يعني القبول بالتأويل التعددي قبول أي موقف بصفة جوفاء، ولكن معيار هذا القبول رفض أي موقف تعسّفي، إمّا على مستوى عقلاني مثالي يفرض تصوّرًا معيّنًا للكلي دون غيره، وإمّا على مستوى مادي ينفي الكلّي ليؤسس دوغما من المعاني الجزئية. لهذا تمّ تبرير العنف في الإسلام فقط للدفاع عن الإبقاء على إمكانية الكلّي مُفسحًا كامل الحرية التأويلية في فهم علاقته بالجزئي، ولكنه رفض قطعيًا نفي الجزئي لمصلحة الكلي أو العكس.

الكارثة في السلفية أنها تلغي هذا الأساس المعرفي للتأويل فلا يتبقّى أمامها سوى خيارين: إمّا أن تربط تطبيق ما تؤمن به من أحكام ظاهرية بسلطةٍ تفرضها قهريًا، لأنّ هذه الأحكام تبدو لغير المؤمن بها عبثية لافتقارها لإطار تأويلي يربطها بواقع الإنسان باستثناء الإيمان الكهنوتي بنصّيتها. في هذا الإطار تصبح سلفيةً حداثيةً تحتاج دائمًا لسلطة الدولة، باعتبار أنّ الدولة الحديثة بجذورها الكهنوتية المسيحية، كما أوضح كارل شميت ومن بعده آجامبن، هي المحتكر الوحيد للسلطة، ومن ثمّ، المؤوّل الوحيد للمفاهيم الكلّية (ولنا في سلفيي مصر مثال جليّ). وإمّا أن تتجه هذه السلفية، في حالة ممارسة الجهاد الأصغر، إلى حالة عبثية ما بعد حداثية تفهم الكلّي في إطار السياق المادي التاريخي، فلا يوجد أساس حاكم لتأويل النص ككل كما رأينا، بل يؤوّل النص بحسب الحاجات المادية الآنية.

القضية إذًا، ليست هل الإسلام بريء أم لا؟ وليست هل يعتمد هؤلاء المخبولون في تبرير أفعالهم على آيات من القرآن أو نصوص من الحديث الشريف؟ ولكنّ السؤال الحقيقي ثلاثي الأبعاد: أولًا، ما هو مبرر العنف بصفته ظاهرة إنسانية أصيلة؟ ثانيًا، ما هي علاقة العنف بعلاقة الكلّي بالجزئي أو المعنى الميتافيزيقي بالتاريخي؟ وأخيرًا، ما هي رؤية الإسلام لهذه العلاقة ومساهمته الحقيقية في تصوّرها؟ وهذا ما حاولت تلمّس معناه بإيجاز.


* نُشِرت تلك المقالة لأوّل مرة على موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 28 ديسمبر/كانون الأول 2015.** أقصد بالتصوّرات الكلية/الميتافيزيقية التصوّرات المتجاوزة أو التي يفترض اعتقادها تجاوز جزئيات السياق التاريخي، مثل فكرة الأبدي أو الأزلي، فالواقع التاريخي يتشكّل من مجموع جزئيات السياق الاجتماعي الثقافي والاقتصادي…إلخ.