دخلتُ صالة الدرس ففوجئت بأن هوسرل يواصل درسه بالطريقة نفسها، بل بنفس الهدوء الفلسفي القاتل، وكأنه كان يُريد أن يُشعر من بقي من طلابه بأنه لا يوجد ما يمكن أن يزعج البحث العلمي حتى ولو كان حربا كونية مهلكة كالحرب العالمية الأولى.
كارل لوفيث في ذكرياته عن أستاذه إدموند هوسرل

في عام 1940، وإبان الحرب العالمية الثانية، أعلنت جامعة هارفارد الأمريكية عن مسابقة لجائزة باسمها تحت عنوان «حياتي في ألمانيا قبل 1933 وبعدها»، فقام الفيلسوف الألماني ذو الأصول اليهودية كارل لوفيث Löwith (1897 – 1973) بالاشتراك في المسابقة من اليابان التي كان يعمل بها منذ عام 1935.

كان لوفيث قد انتقل من ألمانيا النازية إلى إيطاليا عام 1934 بفضل منحة من مؤسسة رُوكفلر، وبعد عام كامل في إيطاليا أصبح من المستحيل عليه كيهودي سابق العودة لألمانيا النازية التي لم تعتد بكل من تحول من اليهود إلى المسيحية مثل لوفيث. وبعد تقارب إيطاليا وألمانيا بدأ طرد اليهود مرة أخرة من إيطاليا، فهاجر الكثير منهم إلى أمريكا وأغنوها ثقافيا، أما كارل لوفيث فذهب إلى اليابان حيث عمل في الجامعة القيصرية في «سنداي» بشمال اليابان. ومن هناك كتب ذكرياته التي نعرض لها هنا «حياتي في ألمانيا قبل 1933 وبعدها».

وفي هذه الذكريات قدّم لنا لوفيث صورة مميزة لأستاذيه إدموند هوسرل Husserl ومارتن هيدجر Heidegger، ولحال الجامعات الألمانية آنذاك. وكان هوسرل منذ أن حل محل ريكارت Rickert في جامعة فرايبورج في عام 1916، أي في ظل جمهورية فايمار، قد أصبح بمثابة النقطة المركزية للفلسفة الألمانية آنذاك.

لذا قدِم كارل لوفيث إلى فرايبورج ليدرس على يد هوسرل، وعنده تعرف على مارتن هيدجر. ثم عاد لوفيث إلى جامعة ميونخ ليحوز درجة الدكتوراه عن نيتشه. ومن ثم انتقل لوفيث إلى جامعة ماربورج Marburg حيث يعمل مارتن هيدجر، للدراسة عنده، وهناك تعرف أيضا على كل من ليو شتراوس وهانس جورج جادامير.

وفي سنة 1928، حاز لوفيث درجة الأستاذية بإشراف مارتن هيدجر. وكان الطالب الوحيد الذي نال الأستاذية على يد هيدجر حينما كان يعمل في ماربورج. وبعد أن حاز الدرجة، بدأ لوفيث العمل في جامعة ماربورج، ثم تحول من اليهودية إلى البروتستانتية وخطب فتاة ألمانية. واستمر في ماربورج رغم أن أستاذه مارتن هيدجر انتقل في العام نفسه إلى جامعة فرايبورج ليحل مكان هوسرل الذي خرج على المعاش سنة 1928.

ومع بداية الحكم النازي الذي بدأ يتخلص من أساتذة الجامعات اليهود، كان على لوفيث – بسبب أصوله اليهودية – أن يترك عمله الجامعي، فذهب بداية إلى إيطاليا بعد أن تنصل منه أستاذه هيدجر الذي أصبح عميدًا لجامعة فرايبورج في أبريل/نيسان 1933 ثم انتمى للحزب النازي في أول مايو/آيار 1933.


هوسرل وأفلاطون الآري!

هوسرل ولا ريب هو المثل الأعلى والأب الروحي لكارل لوفيث، ويكاد يتقاسم المذكرات مع هيدجر والشخصيات الأخرى. ويتذكر لوفيث بداية كيف أن هوسرل كان يرغمهم في التدريبات على تجنب المصطلحات الكبيرة، وأن يختبروا كل مصطلح في ضوء التصور الظاهراتي، وأن يجيبوا على أسئلته بإجابات صحيحة ولكن فكّة[1].

وهذه جزئية مهمة تبين لنا كيف أن هوسرل كان من أكبر المهتمين ببحث تفاصيل الحياة اليومية لدرجة أن هذا كان يشغله عن كل شيء آخر. ويذكر لوفيث أنه وإبان الحرب العالمية الأولى، وحين خشي الجميع من أن تسقط فرايبورج في أيدي الفرنسيين، كان هوسرل مصممًا على مواصلة دروسه بطريقته المعتادة:

دخلتُ صالة الدرس ففوجئت بأن هوسرل يواصل درسه بالطريقة نفسها، بل بنفس الهدوء الفلسفي القاتل، وكأنه كان يُريد أن يُشعر من بقي من طلابه بأنه لا يوجد ما يمكن أن يزعج البحث العلمي حتى ولو كان حربا كونية مهلكة كالحرب العالمية الأولى[2].

يخبرنا لوفيث أيضًا أن هوسرل، هذا الإنسان المتعالي فلسفيًا، لم يشعر بهزيمته إلا بعد الانقلاب الهتلري، حيث رأى أن الوعي الفلسفي الذي ظلَّ يعمل له في فرايبورج قد أصبح فجأة أثرًا بعد عين. ولم يؤثّر فيه أنه أُعطي من قبل النظام النازي إجازة مفتوحة رغم أنه على المعاش بالفعل. لقد كان ما أثّر فيه أنه لم يستطع مواصلة تأثيره في عالم فرايبورج الفلسفي.

لقد جُمعت أعماله من المكتبات ووُصمت بأنها مؤلفات يهودية خطرة على نقاء الفكر الألماني. حتى الجامعة التي تعود شهرتها الفلسفية إليه لم تحرّك ساكنا، بل تجاوبت مع الأمر النازي وكأنه شيء طبيعي. وفيما بعد، في سنة 1937 تحديدًا، كتب الفيلسوف النازي وأستاذ الفلسفة بجامعة ميونخ هانز جرونسكي Grunsky، دراسة بعنوان «اختراق اليهودية للفلسفة»، واتهم فيها هوسرل من بين عديدين بأنهم تلمدوا الفلسفة، وهوّدوا أفكار الفيلسوف الآري أفلاطون!


هيدجر وعُقدة الذنب النازية

يُعتبر ما كتبه لوفيث عن أستاذه مارتن هيدجر وثيقة مهمة وأساسية لدى كل من يصم هيدجر بالنازية (ولو لبعض الوقت). والحقيقة فإن ما كتبَه كارل لوفيث عن أستاذه هيدجر أعمق من مجرد التمهيد أو البرهنة على اتهام هيدجر بالنازية، فكارل لوفيث يحاول هنا أن يصمَ السياق الحياتيَّ والفكري لهيدجر بالتناقض وقلِّة المصداقية الأخلاقية.

وهو يذكر بداية أن مارتن هيدجر، صاحب الجسد الضئيل والقادم من قرية صغيرة تُدعى ميسكيرش في جنوب ألمانيا قرب الحدود السويسرية، قد نشأ في بيئة فقيرة وتعلَّم تحت ظروف قاسية، وأنه كان يذهبُ لمدارس الجزويت في كونستانس ويخدم في دير للجزويت في مدينة فيلدكيرش. ويذكر لوفيث أن مارتن هيدجر كان خير مدافع عن نشأته الفقيرة تلك رغم أنه كان يرفضها! ويرى أن تربيته الجزويتية القاسية هي التي جعلته يتحول فيما بعد إلى المذهب البروتستانتي.

ويواصل لوفيث رصد تناقضات هيدجر، فيقول:

إنه كان يُعظِّم الدوجما بسبب الدراسة، لكنه تحول بسبب التجربة إلى برجماتي، وأنه كان لاهوتيًا بسبب نشأته التقليدية ولكنه تحول إلى رافض للدين بسبب أبحاثه الفلسفية[3].

ورغم ذلك كله فقد تعوّد هيدجر منذ صغره على ارتداء الملابس التقليدية في الجنوب الألماني، وهي ملابس شبه عسكرية يعرفها كل من يزور جنوب ألمانيا في الاحتفالات القومية. ويصفها لوفيث بأنها بمثابة خليط بين ملابس فلّاحي الغابة السوداء والعسكريين الألمان. وكان لون الملابس البني يناسب لون شعره الأسود وبشرته الغامقة قياسًا على بشرة الألمان المعروفة.

وقد ظلّ هيدجر على وضعه هذا حتى أصبح عميدًا لجامعة فرايبورج سنة 1933. وكان طلابه المبهورون به يعجبون من إصرار هذا الرجل ضئيل الجسم على مثل هذه الملابس التي تثير السخرية أحيانًا. ويعجب لوفيث كيف أنه رافض للتقاليد، رغم ذلك حريص على ارتداء هذه الثياب التقليدية.

أما على المستوى الفكري فلا ينكر كارل لوفيث أن مارتن هيدجر كان ينطلق من إيمان لا يتزعزع بأنه مسئول أو مكلّف بأمر إنقاذ الثقافة الألمانية، وأن الحلّ الأسمى بالنسبة له هو الإصلاح الراديكالي بإعادة البناء بعد التفكيك. والحقيقة فإن هيدجر هو أول من استخدم مصطلح التفكيك Destruktion الذي اشتُهر به فيما بعد لدى جاك دريدا والمتأثرين بفلسفته.

وكان هيدجر تبعًا لكارل لوفيث لا يرى لنفسه عملا غير التفكيك النقدي المفهومي للرواية الفلسفية والثيولوجية. وكان يرى أن أهم ميزة للفيلسوف أن يكون شجاعًا لا يخشى الارتطام بالحقيقة حتى لو تحطم على جدارها، وأن عليه أن يقوم بعمله الاقتحامي غير ملتفت إلى عواقب المجازفة، ولا يهمه بعد ذلك أن يؤدي ما قام به إلى ثقافة حقيقة، أو إلى التعجيل باندحار الثقافة القائمة.

وهنا يضعنا لوفيث مباشرة أمام أكبر تناقضات هيدجر من وجهة نظره. والحقيقة فإن لوفيث بسبب إيمانه بتناقضات هيدجر، فإنه يرى أنه لم يكن عجيبًا أن هيدجر الذي أهدى كتابه العلامة «الكينونة والزمان» (1927) إلى هوسرل، وكان يدرّس كلا من زيمل وبرجسون، وكلهم من اليهود، يقدّم تأييده غير المشروط لهتلر والنازية كما جاء في مقاله في جريدة طلاب فرايبورج في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 1933، حيث رأى أن هتلر هو حاضر وأمل الألمان المستقبلي.

ولكن لوفيث يتعجب من أن هوسرل قرّب إليه هيدجر رغم أنه كان يمثل نقيضه الجلي والواضح. ويذكر لوفيث أنه عندما كان في فرايبورج في نهاية عام 1933، زار محاضرة لهيدجر كانت عن تحليل لطرق الصمت المختلفة. وأثناء المحاضرة شعر لوفيث أن المحاضرة تنطبق تمامًا على موقف هيدجر الذي دعاه إلى العشاء في منزله.

وخلال اللقاء تجنب كل منهما الموضوعات الحساسة، ودار الحوار عن مستقبل لوفيث وإن كان سيترك ماريبورج ويذهب إلى إسطنبول، وكانت محطة مهمة للأكاديميين اليهود الهاربين من ألمانيا النازية. ويذكر لوفيث أن هيدجر دعاه للمبيت عنده ولكنه اعتذر عن ذلك. وفي اليوم التالي، زار لوفيث هوسرل فاكتشف أن هيدجر كان قد قطع العلاقة تمامًا مع أستاذه هوسرل.

ويذكر لوفيث أن هوسرل الذي كان يُظهر أنه غارق في عمله الفلسفي قد أصيب في الصميم بسبب العلاقة مع تلميذه هيدجر الذي اختاره ليكون خليفته على كرسي الأستاذية في فرايبورج. وهذا هو المقصود بقلة المصداقية الأخلاقية التي يصم بها لوفيث أستاذه السابق مارتن هيدجر.

ومما يذكر هنا أن كارل لوفيث نشر في كتابه «هيدجر، مفكر في عصر انحطاط» (1952) أحد خطابات هوسرل إليه من عام 1937، أي حين كان لوفيث يعمل في اليابان. وفي هذا الخطاب، صرّح هوسرل بإحدى ملاحظاته النادرة حيث قال للوفيث:

أما آخر ضربة يوجهها لوفيث لأستاذه هيدجر، فهي أنه التقاه في روما في سنة 1936، فواصلا علاقتهما الودية، بل خرجا في صحبة عائلة هيدجر للنزهة، ولكن مما أدهش لوفيث آنذاك أن هيدجر كان يعلق على ملابسه طوال الوقت دبوس أو علامة الانتماء للحزب النازي. وعندما سأله لوفيث عن هذا الأمر، لم يترك هيدجر مجالا للشك في إيمانه بهتلر وبأن نظام الرايخ الثالث هو النظام المناسب لألمانيا.

والسؤال الآن، هل كان هيدجر نازيا بالفعل أم مجرد إنسان لا سياسي أخطأ خطئًا كبيرًا، أي على مقاسه، وعاقب نفسه بالعزلة والابتعاد ما بقي من حياته؟ هذا ما يحتاج لمقالة خاصة!


خاتمة

ربما تفهمون أن شيلر وهيدجر وكذلك كل تلاميذي الأوائل لم يفهموا الجوهر الحقيقي والعميق للفينومينولوجيا المتعالية كاحتمال وحيد، ولا مدى الاعتماد على هذا الجوهر. إنه مدخل صعب بالفعل ولكن الجهد والكد مفيدان. ربما يمكنك أن تفهم الآن لماذا أمشي وحيدًا في طريقي طوال هذه السنوات، طريقي الذي يعلي أبعادًا جديدة من التساؤلات والقرارات[4].

ومن الجدير بالذكر أن كارل لوفيث لم يفز بالجائزة؛ ربما لأنه قدم دراسة فلسفية معمقة وليس تقريرًا مخابراتيًا. ولكن هذا النص جعله معروفا لدى الأكاديميين الألمان الذين استقروا في أمريكا، ويبدو أن هذه المعرفة هي التي حددت اتجاه لوفيث التالي، حيث تمكن في منتصف عام 1941، أي قبل ستة أشهر من الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر الأمريكي، من الانتقال إلى أمريكا. وبناء على تزكية من باول تيلش وريموند نيبور، تم تعيينه في معهد الدراسات اللاهوتية في هارتفورد. وفي عام 1949 انتقل للعمل في New School for Social Research في نيويورك.

وفي فترة المنفى الذي استمر حتى عام 1952، واصلَ كارل لوفيث عمله الفلسفي وأصدر أعماله التي ركّز فيها على موضوعه الأثير أو قضيته الفلسفية الأساسية، وهو ما يمكن تسميته بمحاولة «علمنة الفلسفة الغربية»، وهو ما يمكن أن نخصّص له مقالا مستقلا فيما بعد.

المهم أن لوفيث ظل حتى النهاية يتتبع بالنقد والتمحيص الأثر اللاهوتي المسيحي على فروع الفلسفة المختلفة؛ لذا سنجد هذه القضية تتكرر بصور مختلفة في مؤلفاته التالية. وفي كل مرة، كان يحاول تبيين أن هذا الفرع الفلسفي أو ذاك ما زال يتمركز حول التصورات اللاهوتية المسيحية التي تحدد سلفًا التطور المستقبلي للروح وللتاريخ بأشكاله المختلفة.

وعندما عاد إلى ألمانيا سنة 1952، شغلَ أخيرًا منصب أستاذ للفلسفة في جامعة هايدلبرج، وواصل أعماله الفلسفية. ورغم إصداراته الفكرية العديدة، ظلّ هذا العمل السّيريّ أشهر أعماله؛ ربما لأن هذا الكتاب مثّل شهادة منقطعة النظير على فشل العقل الألماني وتقاعسه أمام المد الفاشي للنظام النازي!

المراجع
  1. Karl Löwith: Mein Leben in Deutschland vor und nach 1933. Ein Bericht. Stuttgart 1986. P 26
  2. المرجع السابق، ص 27.
  3. المرجع السابق، ص 44/45.
  4. Karl Löwith: Sämtliche Schriften, Band 8: Heidegger – Denker in dürftiger Zeit, zur Stellung der Philosophie im 20. Jahrhundert. Metzler, Stuttgert 1984, P. 236 ff