أسر وقتل الجنود الإسرائيليين كانا ولا يزالان أهم سُبل المقاومة الفلسطينية في إخضاع الاحتلال وإلزامه بتحرير الأسرى الفلسطينيين عبر صفقات تبادل خلدها تاريخ النضال
محمد الشراتحة – مهندس عمليات أسر الجنود

هكذا تحدث مهندس عمليات أسر الجنود «محمد الشراتحة» (60 عامًا) ابن مُخيم جباليا، الأسير الذي تنسم الحرية في 11 أكتوبر/ تشرين أول 2011، في صفقة تبادل سمتها المُقاومة «وفاء الأحرار» بالإضافة إلى (1026) أسيرا آخرين مُقابل إطلاق المقاومة الفلسطينية سراح الجندي جلعاد شاليط الذي تم أسره في 25 يونيو/حزيران 2006.

لقد كان «الشراتحة» أوائل المُبتدعين لوسيلة خطف وأسر الجنود الإسرائيليين برفقة «محمود المبحوح» و«محمد نصّار» و«عبد ربه أبو خوصة»؛ إذ انتظموا تحت لواء الخلية (101) وكان لهم الخطوة الأولى في التخطيط لأبرز عمليتي أسر وقتل لليهوديين «آفي سبورتس» و«سعدون إيلان» في ثمانينيات القرن الماضي.

لقد أكد لنا «الشراتحة» في حوارٍ مُطول أجرته مراسلة «إضاءات»: أن عمليات خطف الإسرائيليين العسكريين استراتيجية ثابتة لدى المُقاومة تُؤتي أُكلها على المستوى السياسي والدولي بشكل يفوق بعض أنواع المقاومة، وبدا فخورًا وهو يتحدث عن عمليتي الخطف والقتل اللتين نفذهما بصحبة رفقاء دربه، شارحًا تفاصيلهما وكأنهما حدثتا بالأمس، يقول:

النتيجة القاسية للعمليتين الوقوع بالأسر والحكم 352 عامًا، لكن النتيجة الإيجابية التحرر بصفقة تبادل كانت بمثابة مُعجزة.

والمُتابع لسجل عمليات الخطف والأسر للجنود الإسرائيليين على يد المقاومة الفلسطينية يجد أن «كتائب الشهيد عز الدين القسّام» الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» قد استأثرت بنصيب الأسد.

بينما نفذت فصائل المقاومة الأخرى وعلى رأسها الجبهة الشعبية وحركة فتح أيضًا عمليات نوعية على مر تاريخ النضال الفلسطيني منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الألفية الثالثة.

«إضاءات» ترصد – عبر حلقتين – أبرز عمليات المقاومة الفلسطينية في خطف وأسر الجنود الإسرائيليين وتبحث في نتائجها وما أحدثته من رعب زلزل الترسانة العسكرية الإسرائيلية:


1. الجبهة الشعبية تختطف طائرة إسرائيلية

في الثالث والعشرين من يوليو/ تموز 1968، نفّذ مقاومون من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أول عملية خطف وأسر لإسرائيليين كانوا على متن طائرة مدنية تابعة لشركة العال للطيران الإسرائيلي.

هذه العملية بنوعية التخطيط والتنفيذ أثقلت كاهل إسرائيل خاصة أنها تحمل أكثر من 100 راكب كانوا عائدين من العاصمة الإيطالية روما إلى تل أبيب، ولكي تتمكن إسرائيل من حماية مواطنيها على متن الطائرة اضطرت للانصياع لأوامر المُقاومين «يوسف الرضيع» و«ليلى خالد» التي عُدت أول امرأة فلسطينية تُنفذ عملية خطف وأسر.

حيث استطاعت ورفيقها احتجاز الرهائن والبدء بالتفاوض مع المحتل الإسرائيلي برعاية اللجنة الدولية للصليب الأحمر على إطلاق سراح الركاب مُقابل الإفراج عن 37 أسيرًا فلسطينيًا بعضهم من ذوي الأحكام العالية وأسرى غُيبوا خلف جدران السجن منذ عام النكسة 1967.

كان صدى العملية كبيرًا في تلك الحقبة الزمنية واستمر حتى يومنا هذا، فلا يُمكن الحديث عن تاريخ عمليات الأسر دون البدء بها، إذ فتحت شهية المقاومة على استثمار قدراتها كافة لتنفيذ عمليات مماثلة من شأنها أن تكون سبيل الخلاص للأسرى من سجون العتمة.

مما جعل الفلسطينية المناضلة «ليلى خالد» تستكمل المشوار في خطف الطائرات الإسرائيلية، وأقدمت في العام التالي 1969 على تنفيذ عملية مماثلة إلا أنها وقعت أسيرة في قبضة السلطات البريطانية، بينما استشهد رفيقها وأُعلن فشل العملية آنذاك.

مما دعا رفاقها في الجبهة إلى التفكير مليًا في الثأر لها ولرفيقهم الشهيد، فأتمّوا خطف طائرة بريطانية هذه المرة ليبدأوا في مباحثات التفاوض من أجل إطلاق سراح الفدائية الفلسطينية «خالد» مُقابل تحرير الركاب البريطانيين وإعادة الطائرة إلى أجوائها، وكان لهم ما أرادوا.


2. الفتح وانطلاقة عمليات تبادل الجنود بأسرى فلسطينيين

ولأن حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» أول الرصاص وأول الحجارة؛ أبى ثوارها ألّا يُكتب لهم الغلبة في عمليات أسر الجنود الإسرائيليين ومبادلتهم بأسرى كانوا عنوان الثورةِ والنضال غيبهم الاحتلال خلف العتمة.

فلم ينته العام 1969 حتى أقدمت مجموعة من الحركة على اختطاف الجندي الإسرائيلي «شموئيل فايز» وبدأت بمطالبة الاحتلال الإسرائيلي بمبادلته بالأسير الفلسطيني الثائر «محمود بكر حجازي» الذي اعتقله في الثامن عشر من يناير/ كانون الثاني 1965 وقرر وقتها الحكم عليه بالإعدام.

استمرت المباحثات بين الحركة الثائرة «فتح» والاحتلال الإسرائيلي برعاية اللجنة الدولية للصليب الأحمر أكثر من عام بأشهرٍ معدودة، لم يُفلح فيها الاحتلال أن يسترد جُنديه ولم تتنازل أبدًا حركة «فتح» عن مطلبها بالإفراج عن «محمود بكر حجازي» وفي النهاية خضع الاحتلال في عام 1971 أي بعد عامٍ ونيف واشترط أن يتم إطلاق سراح الجندي «شموئيل فايز» مُقابل الإفراج فقط عن المناضل «حجازي».


3. أبراهام عمرام مُقابل 67 أسيرًا

لم تأولُ الجبهة الشعبية «القيادة العامة» جُهدًا إلا وقد بذلته من أجل استكمال مشوار حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» في أسر الجنود الإسرائيليين ومُحاولة مبادلتهم بأسرى فلسطينيين كانوا عنوان النضال منذ انطلاقة الثورة بعد الهجرة واحتلال الأرض وطرد الشعب.

اختارت يوم الخامس من إبريل/نيسان 1978 بعد قرابة سبع سنوات على إتمام عملية «فتح» وإنجاز صفقتها أسير فلسطيني مُقابل أسير إسرائيلي، اجتازت خلالها مجموعاتها العسكرية العديد من التدريبات على عمليات الأسر والمُباغتة للجنود في موقع المواجهة أو عن بُعد، حتى نجحت في ذلك اليوم بأسر الجندي «أبراهام عمرام».

ومن ثمَّ راحت تُروض سلطات الاحتلال الإسرائيلي لقبول مطالبها بالإفراج عن ثُلة من الثوار الفلسطينيين الذين أحكمت قبضتها عليهم في سجونها.

استمرت عملية التفاوض قرابة العام حتى خنعت إسرائيل في الرابع عشر من مارس/آذار 1979 وأتمت مع الجبهة الشعبية «القيادة العامة» برئاسة منظمة التحرير الفلسطينية ثاني صفقة تبادل عُرفت وقتها باسم «النورس» بمقتضاها تنسّم 67 أسيرًا فلسطينيًا من مختلف الفصائل حريتهم بينهم 12 أسيرة فلسطينية.


4. جنود الناحل مُقابل أسرى فلسطينيين ولبنانيين

النجاح الذى كانت تُقابله عمليات أسر الجنود الإسرائيليين في زمن الثورة وقبل اندلاع الانتفاضة الأولى، حفّز المناضلين والثوار الفلسطينيين على المتابعة في هذا النهج حتى بات استراتيجية عامة وسبيلاً أمثل للإفراج عن الثوار الذين يقعون فريسة اعتقال قوات الاحتلال الإسرائيلي.

ومع بداية الثمانينيات وانتقال حركة فتح وثوارها من الأردن بعد أيلول الأسود إلى لبنان، وجد ثوار الحركة فرصة ذهبية في الرابع من سبتمبر/أيلول 1982 لأسر 6 جنود إسرائيليين من قوات الناحل في منطقة بحمدون في الجنوب اللبناني.

وعلى مدار قرابة عام وثلاثة أشهر دخلت إسرائيل في محاولات لإطلاق سراح جنودها دون دفع ثمن لكنها ما استطاعت أبدًا، وكان الثمن الذي دفعته باهظًا جدًا عليها.

غير أنها على ما يبدو كانت مُضطرة، فعدد جنودها الأسرى كبير نوعًا ما مُقارنة بالسابقين، إذ شَكَّل ذلك عاملًا ضاغطًا على إسرائيل للاستجابة لمطالب الثوار حتى إنه لم يمضِّ يوم 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1983 إلا وقد رضخت للمطالب القاضية بتحرير (4700) أسير فلسطيني ولبناني كانوا مُحتجزين في زنازين «معتقل أنصار» في الجنوب اللبناني، ناهيك عن تحرير 65 أسيرًا فلسطينيًا من السجون الإسرائيلية.


5. حماس تُكمل مشوار الأسر وتُبدع في قلب مُعادلة النصر

على خُطى الجبهة الشعبية «القيادة العامة» و«فتح» سارت حركة المقاومة الإسلامية «حماس» في أسر الجنود الإسرائيليين والإصرار على تنفيذ صفقات تبادل من شأنها أن ترفع هامة الفلسطيني عاليًا وتنتصر للأسرى الذين ضحوا بحريتهم من أجل حرية الوطن.

كانت البداية في 17 فبراير/شباط 1988 والحديث يعود إلى الأسير المُحرر «محمد الشراتحة» مُهندس عمليات الأسر ومؤسس الوحدة الخاصة «101» المُختصة بأسر وقتل الجنود الإسرائيليين.

أشار في مذكراته التي ضُمنت كتاب «القادم إلى خطفك» أن الضحية الأولى للاحتلال على يد حركة المقاومة الإسلامية «حماس» كان الجندي آفي سبورتس الذي اكُتشف بعد اردائه قتيلًا أنه جندي في الوحدة الخاصة لوزارة الدفاع الإسرائيلية المعروفة آنذاك بـ«سيرت متكال»، يقول كان «صيدا ثمينا» وبمزيد من التفصيل يُحدثنا عن العملية التي خطط لها وكانت الحركة تخشى تنفيذها كونها ما زالت تشق طريقها إلى النور.

وَدَّ «الشراتحة» أن يستطيع ترهيب الجندي الذي خطط لعملية أسره إلى مصر مع تأمين عملية الوصول، ومن ثمَّ تبدأ الحركة مسلسل التفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي لكن طلبه وقتها قوبل بالرفض والسبب لا يعدو أن الحركة ما زالت تنظيمًا جديدًا ولا تملك قاعدة لها في مصر.

فخشيت أن تُدثر قبل أن تخرج للنور، يقول «الشراتحة» عرضت عليهم فكرة أسر الجندي وقتله لكن تم الرفض لذات السبب، ولكن لم أتمكن من إبلاغ الخلية التي ذهبت للتنفيذ وهما المُجاهدان «محمود المبحوح» و«محمد نصّار» فكانت يد نصار على الزناد أسبق من جواب الحركة التي ما لبثت أن باركت العملية ووصفتها بالعمل البطولي وبعثت برسالة تشجيع على السير قُدمًا لتنفيذ المزيد من العمليات المماثلة.

يقول الشراتحة:

أصبح أسر الجنود الإسرائيليين إحدى استراتيجيات الحركة التي يمدها بالثقة والمصداقية أمام جماهيرها.

يؤكد «الشراتحة» أن أحد عوامل نجاح العملية إلى منتهاها التزامه مبدأ السرية التامة فلم يشأ أن يُعلن عن تنفيذ عملية أسر وقتل الجندي، وبالفعل كان جهل الاحتلال لجهة تنفيذ العملية سببًا في استمرار الوحدة «101» في التخطيط لعمليات جديدة أوجعت المحتل أيما وجع.

المراجع
  1. رائد العامودي، "القادم إلى خطفك: مذكرات الأسير محمد الشراتحة المخطط لأكثر عمليات الخطف إثارة"، صفحة 57 – 67، الطبعة الأولى، 2011.
  2. عبد الله كرسوع، "15 محاولة أسر للمقاومة منذ بداية صراعها مع المحتل"، موقع وكالة الرأي الحكومية، 15 مارس 2014.
  3. عدنان أبو عامر، "صفقات التبادل قراءة في السياقات والنتائج"، المدونة الشخصية للكاتب والباحث في الشئون الإسرائيلية، 13 أبريل 2014.