بعد تقلب الحال وكثرة التجوال بين «المَحال»، ثم الاستقرار فى غيابة «جوانتانمو»، تسللت إلينا دفقات من «نور» لتضيء هذا العالم المظلم قليلا. فبعد روايتي «محال»، و«جوانتانمو»، جاءت «نور» لتتم ثلاثية «يوسف زيدان» عن الإنسانية بشقيها المتناقضين المتكاملين (الرجل والمرأة)، صاغها بلغة سلسة ناعمة تختلف عن سابقتيها، فلا توجد بها نقلات حادة كما في «محال» التي كثفت الواقع المصري العربي الإجتماعي السياسي، أو إنعطافات كئيبة مثل «جوانتانمو» (الأكثر وطأة على النفس في الثلاثية كلها) والتي كانت عن الرجل، الجانب المفترض أنه الأقوى إنسانياً، ولكنه كان الأكثر انكسارا في الثلاثية، مقدما فيها رؤية واعية عميقة للعبة السياسة العالمية، لتأتي «نور» في انسيابية سردية هادئة تناسب مناقشة فكرة الجانب الأنثوي من الإنسانية.


أول ما ترى من «نور» هو الغلاف

أول ما يخطف عينيك هو غلاف «نور» المضيء، وكأنما أراد المصمم «وليد طاهر» تأكيد ظاهر المعنى وباطنه باختياره اللون الموفق لغلاف الرواية. فرمزية اللون الأخضر تقترن بالمرأة، فالأخضر رمز الخصوبة والنماء، رمز الأرض والمرأة، فضلا عن اختياره درجتين من الأخضر (المضئ، ولون الزرع) والتي يؤكد كلا منهم على معنى محدد، فالأخضر المضيء هو مرادف رمزي بصري لـ«نور» اسم الرواية، والأخضر الزرعي مرادف معنوي للمرأة التي تحتوي بذرة الحياة (الأرض).

ثم تأتي خطوط وليد طاهر الهادئة لتكسر المساحات اللونية الخضراء الطاغية على الغلاف، وتكمل الإطار التشكيلي في بساطة شديدة. فقد استخدم أقل الخطوط الممكنة التي أبرزت جوهر الرواية، فبخطوط خارجية بيضاء مختصرة بسيطة، رسم وجه أنثى يصعب تحديد عمرها، فهى قد تكون «نور» أو أمها، أو أي وجه من أوجه المرأة السبعة كما قال زيدان في نصه، أو كما قال أيضا «جوهر الأنثى واحد والطرق لها بعدد أنفاس البشر»، وهي من أهم عبارات الكتاب الدالة على جوهره، والتي صدر طاهر ترجمة تشكيلية لها على غلافه. ولم ينس وليد طاهر أن يعطينا الأمل في الاستمرارية المرتبطة بالجذور، فجاء رسمه (سلويت أخضر بلون الزرع) يتوسط الغلاف لطفلة تنبثق قدميها من الأرض الملقى عليها ظلها بهدوء، لعلها «نور» الراسخة منذ القدم والمستمرة للأبد.


نساء «زيدان» الحائرات

بكلمات من نص «أبوكريفي» (نص ديني محرم كنسيا) عن الله الذي خلق الكون في سبع، ثم انعزل عن الإنسان ومشكلاته مللا من تخبطه والتباسه، قدم يوسف زيدان لرواية «نور»، ولعل هذه الكلمات الافتتاحية ألقت بظلالها على الرواية وتساؤلات بطلتها «نورا» الفلسفية عن حكمة الله، التي بدأتها في أول الأحداث باليقين من حتمية تواجد الله معها وإلا لما صبرت على الأحداث الجسام التي مرت بها «فصبرت فصار الله معي»، مرورا بحالات الحيرة المريرة «رؤوف، رحيم، ودود! ما معنى هذه الأسماء، آه.. عقلي يكاد كالبركان ينفجر »، انتهاءاً بانفجار بركان المرارة بداخلها «ربنا! قصدك الله؟ ولا الرحمن، ولا القهار، ولا رب الجنود، ولا آمون، ولا يهوه، ولا إلوهيم، ولا إل جواك؟».

إن «نورا» بطلة الرواية، وراوي الأحداث، والشق الآخر في معادلة الإنسانية عند زيدان، تختلف عن «نورا» التي رأيناها في «محال»، فالأمومة ترسم شخصيتها من جديد، و الأحداث الجسام تصقل جوهرها فتحرك الأحداث وتتفرع منها ثم تعود كل الخيوط لها مرة أخرى، ومن خلال كل ما تمر به يصف زيدان مشاعر الأنثى في كل مراحلها، فنشعر بها وهى تلمس وليدتها أول لمسة، ونعيش أوجاعها الجسدية الشهرية، ونتساءل مثلها أسئلتها الوجودية حول طهر الرجل ونجاسة المرأة، نشمئز معها من الانتهاك الذي تعرضت له وننعم معها بحلاوة النجاح وطعم الاستقلال والاكتفاء.

كما قدم لنا زيدان «نورا» كنموذج دال على تحولات مصر، فنورا تربت في حي شعبي صار عشوائى، بين جيران طيبين، خضعت لسطوة الإسلامين المتنامي فتحجبت اتقاءاً لسطوتهم، ثم خرجت من شرنقة العشوائية لرحابة النجاح والتحقق فخلعت حجاب الفكر والجسد وأنطلقت نحو مستقبلها ركضا. إن نورا واقعه دوما بين أصحاب اللحى الذي يمثلهم مجتمعها الذي خرجت منه وحبيبها السابق العائد بثوب إسلامي أمريكي الصنع، وبين أصحاب النياشين ومنهم الضابط «ولاء» الذي كان يريد أن يشتري مستقبلها بعقد زوجية مكبل.

قدم زيدان نموذج نسائي آخر يتقاطع مع حياة «نورا»، وهى صديقة طفولتها «أمل» ضحية بشاعة النفس البشرية، والتي أصابتها «اللامعيارية» كما اسمتها نورا، ولعل تصوير زيدان لمشهد اغتصاب أمل هو المشهد الوحيد الذي جرح انسيابية الرواية. أما «توحة» و«عزة» فهما نموذجان عكس بعضهما، فأحداهما أم لإبنة لامعيارية لديها فائض مشاعر وإنسانية تسكبها على «نورا» وطفلتها، والأخرى خائنة ميكافيلية تنكرت للجميع إلا مصلحتها الشخصية.

ولم ينس زيدان أن يطلعنا على عالم الثراء الفاحش فاتحا نافذة ضيقة على عالم مقزز رغم بريقه لا يتورع أصحابه عن فعل أى شئ، منتهكين كل القيم والمعايير الإنسانية، وذلك من خلال «ياسمينة» الرقيقة التي تهرب من هذا العالم البغيض وتهاجر لعالم آخر باحثة عن إنسانيتها التى أهدرها هذا العالم.

لكن في الخلفية تطل مرارة المجتمع من خلال شخصية المعماري «أشرف» الذي مرر لنا زيدان على لسانه رأيه في ثورة 1952م، فكما أسمى القائمون بها فى روايته «محال» (الضباط الأحرار جدا)، سخر من «جمال عبد الناصر» في رواية «نور»، فلم يذكر اسمه ولكن أشار له بخالد الذكر مستنكرا ما كان من تأميم لممتلكات المواطنين، كما قدم من خلاله مرادفاً لتخاذل الرجل حين أختار الهروب لإيطاليا تاركا المركب لتغرق إن جاز التعبير.

إن الرجال في عالم «نور» دائما إما أوغاد أو جبناء أو مهزومين، ولم يوجد منهم نموذج إيجابى غير شخصية «د.أبو اليزيد» أستاذ نورا، ولعل هذه الشخصية لها مرجعية حقيقة فمعلوماتها كما ذكرها يوسف زيدان في الرواية تتماس مع ما عرف عن «د.أحمد أبو زيد» أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة الإسكندرية من تلقيه العلم بإنجلترا ولعلها أيضا لفتة تكريم من يوسف زيدان لذكرى هذا العالم الراحل.

إناإحتفاء زيدان في رواية «نور» بنسائه الحائرات حيناً، القادرات أحياناً أخرى، عكس نظرته الرفيعة للمرأة، والتي قدمها فيما سبق في روايته الأولى «ظل الأفعى» حتى لتظن أن «نور» مرتبطة برابط ما مع «ظل الأفعى». ويمكننا القول أن يوسف زيدان استطاع أن يقدم في «نور» معادلا موضوعيا في معادلة الإنسانية، يتفوق إنسانيا على الطرف الآخر في المعادلة «الرجل».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.