المشهد الأول

في منطقة الألعاب، وبينما كنت أحاول أن التقط صورة للذكرى لطفلي مع طفلة صديقتي، كان ذلك الفتى مصرًا أن يقف بينهما ليظهر في الصورة موجهًا بصره للكاميرا ومنتظرًا التقاط صورته، لم يكن حتى مبتسمًا ولم يبدُ سعيدًا!.

لم أرد أن أضايقه أو أحرجه وقمت بالتقاط الصورة مع تعجبي لإصراره أن يتم التقاط صورته مع أشخاص لا يعرفهم ولا يمثلون له قيمة كبيرة في حياته.

بعد قليل من الوقت والملاحظة فهمت السبب، وقد آلمني كثيرًا، لقد حضر هذا الطفل إلى منطقة الألعاب بصحبة الخادمة الشرق آسيوية التي كانت تنتظره منشغلة بهاتفها المحمول، ولم يكن أحد من أبويه موجودًا لمشاركته تفاصيل يومه، لذلك وعند حضور ذاك الشخص مرتديًا ملابس تنكرية وقد فرح الأطفال بذلك وتوجهوا إليه مع أمهاتهم لالتقاط صورة معه، لم يجد هذا الفتى حلًا إلا أن يزج بنفسه في إحدى تلك الصور التي لن يعرف أبدًا كيفية الوصول إليها لاحقًا، وإنما يكفيه أنه أثبت وجوده في تلك اللحظة، ربما يلاحظه أحد!.


المشهد الثاني

ذلك الفتى الصغير الذي رفض الانخراط مع موجّه الأنشطة والانصياع لتعليماته وآثر على ذلك أن يذهب إلى والده في الجهة المقابلة من المكان ليجلس معه، فما كان من الأب إلا أن أخبره أنه مستاء منه، حيث إنه قد دفع مبلغًا محترمًا في هذا المكان لكي “يلعب وينبسط”، ولكنه لا يريد اللعب والانبساط!.

لم أستطع أن أخبر ذلك الأب حينها أن طفله يجد سعادته بصحبته أكثر من هذه الأنشطة، وقد اختار أن يمضي الوقت معه على أن يمضيه بين الأطفال الآخرين، وأنه يرغب بمشاركته تفاصيل يومه لأنه يمثل لديه القيمة الأكبر.


استقالة الوالدين

الطمأنينة حاجة نفسية إنسانية لا تستقيم حياة وشخصية الإنسان دونها، وهي حاجة ماسة كلما افتقدها الإنسان ظهرت عليه علامات سلبية كالسرقة والمخاوف والالتصاق بأحد الوالدين أو بدمية مثلًا، وأحد أعداء الطمأنينة في حياة الطفل هو غياب واستقالة الوالدين أو أحدهما من دورهما التربوي وانشغالهما عن أبنائهما بظروف الحياة، فيدخل الأبناء في دوامة الشعور بقلة الأمن والطمأنينة.

و تتم الاستقالة في حياة الأسرة من خلال سياسات التفويض المتبعة في مجال رعاية الأبناء، فالخادمة تفوض بالاهتمام برعاية الأبناء، والتلفاز يفوض ليعلم الأطفال، والألعاب الإلكترونية تفوض للترفيه عن الأبناء، والوجبات السريعة الجاهزة تؤدي دورها فلا تجتمع الأسرة حول مائدة واحدة، وهكذا حتى انحصر دور الآباء والأمهات في دفع مصاريف كل تلك التفويضات، ومع غياب العديد من المشاعر الإنسانية تكون النتيجة ضياع نفسية الطفل في عالم لا يعرف الطمأنينة والأمن، فالطفل يحتاج للشعور بالدفء الأسري، ويحتاج لشحنات عاطفية من الأب والأم، فالحب والعطف والاهتمام وتبادل المشاعر والمشاركة الحسية – كأن تفرح لفرحه وتأسف لحزنه – أكثر من حاجته لكل تلك الماديات آنفة الذكر.

و المحبة التي تعوض الهدايا والماديات، والتي يحتاجها الطفل، هي تخصيص أوقات له، والتحدث معه، ومرافقته خارج البيت، ومشاركته اللعب أحيانًا، واستشارته في بعض قضايا الأسرة، فهذه الوسائل توطد العلاقات الأسرية وتشعره بالمحبة والانتماء.

و كلما شعر الطفل بمحبة والديه كلما زاد اطمئنانه، فليس المهم أن تحب طفلك، ولكن أن تعبر له عن محبتك وأن تشعره بها عمليًا بالتعبير اللفظي ” أحبك ابني “، أو من خلال التعبير غير المباشر من خلال المعانقة والمداعبة وإمساك اليد وتربيت الكتف واللمسة الحنونة والابتسامة الهادئة والنظر المباشر، ومهم جدًا أن تصل محبة الوالد لابنه من خلال القناتين اللفظية والحركية، ولذلك حرص الإسلام في توطيد العلاقات بين الناس أن يخبر الأخ أخاه أنه يحبه في الله، ذلك أنه من لا يعبّر عن المحبة لا يحب.

و من أهم وسائل التعبير عن المحبة للطفل أيضًا أن تبدي اهتمامك به وبكلامه ورغباته، فتعطيه فرصًا للكلام وتحسن الإصغاء له، فإن فن الاستماع للطفل هو أهم قناة تنقل أواصر المحبة بين الوالد وابنه، وتعبر للطفل عن الاهتمام والانتباه له، وهذا ينطبق على الكبير والصغير على حد سواء.

أحد أهم وسائل بناء الطمأنينة لدى الأبناء أيضًا هو تنمية الانتماء، فمشاعر الانتماء لدى الإنسان تتولد مع لحظة ميلاده، وتنمو وتتعزز وتتسع بنمو مداركه، والحاجة الى الانتماء تعد نتاجًا طبيعيًا لإشباع يتلقاه الطفل من الوالدين، فيتسع هذا الانتماء ليشمل الأصدقاء والأندية، ويتوسع أكثر فيشمل المجتمع والإنسانية، حيث يبدأ الطفل بالإحساس بضرورة التعاطف والتعاون مع الآخرين.

و الأطفال الذين لا يتلقون الرعاية العائلية الكافية والإحساس بالانتماء تتزعزع علاقاتهم الاجتماعية، والعلاقات التي تنشأ بينهم وبين غيرهم مستقبلا ستكون مغلفة بالشك وعدم الثقة والحذر الزائد. وإشباع هذه الحاجة من شأنه أن يجذر علاقات الطفل الاجتماعية مستقبلاً.

لذلك فإن دور الأسرة لا يقتصر على توفير المأوى والاعتناء بنظافة الطفل واحتياجاته المادية، ولكن تنشئة الأبناء تحتاج قبل كل شيء إلى الحب والانتماء، وليس مجرد ظروف جيدة مناسبة للمعيشة.


الله يرحمه كان بابا نويل

لا أنسى أبدًا كلمة هذا الشاب بعد وفاة والده “الله يرحمه كان بابا نويل”، قصد بذلك أنه كان يظهر في الأسرة مرة كل عام –إن ظهر– محملًا بالهدايا المادية للأسرة والعائلة، حيث كان يعمل بالخارج بعيدًا عن أسرته، فلم يكن هناك متسع من الوقت المخصص لأطفاله لا كمًّا ولا كيفًا، وبرغم أنه أفنى حياته لتوفير سبل السعادة لهم، إلا أنهم أبدًا لم يحسوا بمحبته ولا انتمائهم له، ولم يظهر الحزن عليهم بعد وفاته، فقد كتب بنفسه شهادة وفاته للأسف يوم أن حصر دوره في حياتهم على الإنفاق عليهم من جيبه، وليس الإنفاق من مشاعره وقلبه ووقته، فلم يكن له مكان في ذكريات طفولتهم وشبابهم.

و قد كتبت هذا المقال ليكون ناقوسًا وتذكرة لكل أب، حتى لا يكون “بابا نويل” في حياة أطفاله، دقق النظر في ترتيب أولوياتك، فهي حياة واحدة لا تعوض إن فاتت، ومشاعر المحبة والانتماء يصعب إحياؤها إن ماتت، فاغتنم مع أطفالك لحظات يعيشون على ذكراها من بعدك، فالطفل قد لا يتذكر ماركة ملابسه وألعابه، لكنه بالتأكيد سيتذكر المشاعر واللحظات السعيدة التي قضاها معك.

المراجع
  1. كتاب "التربية الايجابية من خلال إشباع الحاجات النفسية للطفل" د.مصطفى أبو سعد