ثمة طريقتان لقراءة تصريحات السياسيين،أولاهما هو التعاطي معها بجدية بالغة، باعتبار كلماتها محسوبة تمامًا،لم تخرج من فم صاحبها إلا بعد تفكير وروِية،أما الطريقة الأخري فهي اعتبارها والعدم سواء،والنظر إليها بوصفها كلمات جوفاء،أُطلقت للاستهلاك الإعلامي – أو الانتخابي – ليس إلا، باعتبار السياسي شخصًا كذوبًا بالفطرة، وبالتالي فليس من الحكمة أخذ كلماته على محمل الجد.

بالنسبة لرئيس مثل «ترامب» تبدو الطريقتان غير كافيتين لتفسير خطابه،أثبت الرجل غير مرة أنه لا يهذي على الإطلاق، وإنه إذا وعد أوفى، أو على الأقل حاول الوفاء،لكنه في الوقت ذاته، وبالنظر إلى الطابع الجنوني لوعوداته وتوعداته، سيصبح الحديث عن تنفيذ دقيق لتلك الوعود إيذانًا بالتفكير في عالم مختلف جذريًا عن عالم اليوم، وهو ما يبدو – رغم كل التشاؤم – أمرًا بعيد المنال، خلال فترة أو فترتين رئاسيتين على الأقل.


صورة عالم جديد ترسِمُه كلمات ترامب

بُعيد انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة، وفي مقابلة مع صحيفتي «تايمز» البريطانية، و«بيلد» الألمانية، أعاد ترامب إطلاق تصريحاته المثيرة للجدل بشأن حلف شمال الأطلسي «الناتو»

الأطلسي لديه مشاكله، هو منظمة عفا عليها الزمن لأنها أنشئت بالدرجة الأولى منذ سنوات، يجب أن نقوم بحماية دول الحلف، لكن بلدانا كثيرة من بينها لا تدفع ما يتوجب عليها وهذا غير عادل بحق الولايات المتحدة إلى حد كبير، مضيفًا أن هناك فقط 5 بلدان تدفع ما يتوجب عليها.

أعادت تلك التصريحات إثارة الفزع لدي القادة الأوروبيين، إذ جددت مخاوفهم من انقلاب الاستراتيجية الأمريكية الراسخة حيال الالتزام بأمن الأوروربيين، وذكرت الأوروبيين بتصريحات «ترامب» إبان حملته الانتخابية، والتي اعتبر فيها الناتو «حلفًا عتيقًا»، يُكلف الأمريكيين الكثير من المال

يجب أن نعيد تعديل حلف الأطلسي… يمكن تقليص عدده ويمكن إعادة تشكيله والاحتفاظ باسمه ولكن يجب أن يتغير.

كوريا الجنوبية هي حليف رئيسي للولايات المتحدة منذ عقود، وهي واسطة عقد في الاستراتيجية الأمريكية للتصدي للنفوذ الصيني في آسيا، وتشكل تحديًا يكبح جماح «الرئيس المجنون» في الجارة الشمالية.

إبّان حملته الانتخابية، لم يدخر ترامب جهدًا في إبداء ازدرائه لهذا التحالف، بالنسبة إليه،لم تكن ثمة حاجة للكثير من المحاضرات حول الاستراتيجيات التي يلزم اتباعها، وأهمية هذا التحالف أو ذاك، بل كانت الأمور أقل تعقيدًا، هذا التحالف يمثل «صفقة» غير رابحة، فهو – ببساطة – لا يدِرّ ما يكفي من المال.

لا نتقاضى شيئًا،نتقاضى الفتات.. سأسعى لأن تدفع كوريا الجنوبية لنا مبلغًا كبيرًا… هي ماكينة مال وتعطينا الفتات … لدي أصدقاء كثيرون من كوريا الجنوبية،لكنها يجب أن تدفع لنا، وتدفع لنا الكثير جدًا مقابل حمايتها.

لكن المثير أنه لم تكد تمضِي أيام قليلة على استلام ترامب مهام رئاسته، حتي سارع إلى ابتلاع تصريحاته السابقة، إذ أكد في مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء الكوري الجنوبي أن «بلاده ستكون بجانب كوريا الجنوبية بنسبة 100%، وأن العلاقات الكورية والأمريكية ستكون أفضل مما كانت عليه فى الماضي»، وأنه «يتطلع إلى التشاور الوثيق حول تعزيز القدرات الدفاعية المشتركة بين الدولتين الحليفتين وسبل تعزيز التعاون لمواجهة الأسلحة النووية الكورية الشمالية».


حالة شبيهة تلك التي جمعت ترامب بالمملكة العربية السعودية، فالرجل الذي حفلت حملته الانتخابية بالكثير من الجمل المتهكمة علي الرياض وحكامها، مهددًا بأن المملكة «لن تصمد طويلاً» بدون الأمريكيين، ومتوعدًا بالتوقف عن قبول واردات النفط من الخليج ما لم يرسلوا قواتهم لمحاربة داعش، أو على الأقل يدفع وا للأمريكيين «أتعابا» لقاء ذلك، ذلك الرجل كان مبادرًا للاتصال بالملك السعودي في مقدمة من هاتفهم، للتأكيد التقليدي على متانة العلاقات بين البلدين، وبلا تكرار لكل تلك الإهانات التي ما فتئ يذكُرها خلال شهور حملته.


لدي ترامب كذلك آراؤه الخاصة بشأن القضية الأكثر خطورة في تاريخ الوجود البشري على الإطلاق: «الأسلحة النووية»
يجب أن تقوي الولايات المتحدة وتوسّع من قدراتها النووية، حتي يأتي اليوم الذي تستعيد فيه البشرية رشدها بخصوص ذلك السلاح
فليكن سباقًا للتسلّح إذًا، سنسبقهم جميعًا، وسنثبت أننا نحن الأكثر قدرة على الصمود

ولا يقتصر الأمر على أسلحة بلاده، بل إنه قد ذهب إلى مطالبة حلفاء بلاده كـ«اليابان و السعودية وكوريا الجنوبية» بصناعة الأسلحة النووية الخاصة بها، لتبقي تلك البلدان قادرة على الدفاع عن أنفسها، مخففة العبء عن جيش بلاده.


«خذوه جديًا .. لكن لا تأخذوه حرفيًا»

كما ذكرنا، فإن محاولة قراءة تصريحات ترامب بوصفها تهديدات حقيقية تمامًا، أو هزلية تمامًا، محاولة قاصرة لا تحيط بالحقيقة كاملة، وهو الأمر الذي تفطن إليه محللون وصحفيون أمريكيون، بل واعترف به مدير حملة ترامب السابق نفسه حين قال:

هذه هي المشكلة، أنتم تأخذون ما يقوله ترامب بشكل حرفي أكثر من اللازم

بل إن بعض مستشاري ترامب قد نصحوا مرافقي رئيس الوزراء الياباني ألا يأخذوا كل الكلام الذي يتلفظ به ترامب «بشكل حرفي تمامًا»،وكما عبر أحد الصحفيين بـ«أتلانتيك» في ملاحظة ذكية لخصت الحال بشكل كبير:


أي تأثيرات قَد يُحدثها خطاب «حافة الهاوية» الذي تبناه ترامب؟

الصحافة تأخذ تصريحاته بشكل حرفي، لكن ليس بجدية.. أما مؤيدوه فيأخذونها بجدية تمامًا، لكن ليس بشكل حرفي

يبقي أن نحلل طبيعة خطاب ترامب من حيث فوائده وخطورته، ذلك الخطاب الذي يمكن وصفه بخطاب «حافة الهاوية»، الملئ بالتهديدات الخطِرة، والحافل بالوعود الجذرية، والمدعم بعبارات قاسية لا تُبقي مجالاً للشك في إمكانية تحولها – حال تنفيذها – إلى قنابل موقوتة تغير وجه العالم وتبدل التحالفات فتجعل الصديق عدوًا بين ليلة وضحاها.

أي فائدة قد يجنيها ترامب من وراء ذلك الخطاب؟ وأي مخاطر قد تهدد الولايات المتحدة من جرائه؟

يُمكن اعتبار ذلك الخطاب وسيلة جيدة للابتزاز، فالحلفاء ذوو المصلحة في الحفاظ على التحالفات القائمة منذ عقود سينتابهم الذعر بالتأكيد كلما سمعوا تصريحًا هنا أو تهديدًا هناك، وسيصبحون مستعدين للدفع، أو للدفع أكثر كثيرًا لقاء الحفاظ – مجرد الحفاظ على اللحظة الراهنة – وهو كما نرى صفقة رابحة تمامًا تبدو خالية من أي جهد أو احتمال للخسارة.

أضف إلى ذلك أن عدم التزام ترامب المسبق بأي وعود تجاه تحالفات بلاده القائمة، سيعفيه من أي حرج إذا ما تقرر مستقبلاً تغير البوصلة عن هذا التحالف أو ذاك، وهو الحرج الذي يقع فيه الكثير من السياسيين إذ يكلفون أنفسهم عبء الالتزام بوعود أطلقوها سابقًا، وكبلت أيديهم عن الكثير من المواقف لاحقًا.

أما الوجه الآخر من العملة، فهو حقيقة أنه حتى الكلام الذي يبدو «رخيصًا» قد يكون له كُلفة باهظة، وإذا كان الأمريكيون في الداخل أقل اكتراثًا بتصريحات ترامب التي تفسد «الترتيبات الدفاعية» التاريخية لبلاده تجاه الحلفاء، فالأكيد أن هؤلاء الحلفاء أنفسهم يكترثون بشدة، فما الذي يعنيه ذلك؟

ببساطة، إن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، قد تأسس علي قاعدة أن ثمة «كبيرًا» لهذا العالم، وقد تعزز هذا الاتجاه مع نهاية الحرب الباردة، إذ إن الولايات المتحدة هي مركز العالم، وهي التي تضمن استقرار البلاد والحكومات، ولم يكن ثمة شك لدى حلفائها في أن «شرطي الكون» سيهرع لنجدتهم إذا تعرضوا للخطر،كل هذا الاستقرار الشكلي والقبول الجمعي بقواعد النظام العالمي ومؤسساته الأممية يستند في جوهر وجوده على هذا المبدأ، هذا المبدأ الذي لا تتورع كلمات ترامب أن تضربه في مقتله، وبلا هوادة.

تنتقل التهديدات من الأفواه فتتلقفها آذان الحُلفاء المخاطبين بالتهديد، وفي كل الأحوال ستهتز ثقتهم بالصديق الأمريكي الذي إن اكتفى اليوم بالقول فسيأتي من ينتقل إلى الفعل غدًا، ستختلج الصدور بالمخاوف، وسيحدث الحلفاء أنفسهم أن عليهم أن يبدلوا تحالفاتهم، فيصادقوا من هو جدير بالثقة حقًا، من لا يتبدل عليهم بين لحظة ولحظة، وعلى الجانب الآخر ثمة تنين صيني صاعد، يقدم القروض بشروط ميسرة، ويعد أصدقاءه باستثمارات وعطايا أكثر بكثير مما يعد الصديق الأمريكي، ودب روسي يطرح نفسه شرطيًا لمن لا يمتلك الشرطي، وفي كل الأحوال، فإن الصداقة التي صُورت دومًا على أنها خالدة، ستبدو في الأذهان أنها لم تعد بذلك الرسوخ.

باختصار، فإنه حتى لو كانت كلمات ترامب وتهديداته ليست في طريقها للتحقق، فإن آثارها البعيدة على الولايات المتحدة ومدى ثقة حلفائها بها، تلك الآثار لن تكون بالأمر الذي يسرّ الأمريكيين على الإطلاق.