المقال مسجّل صوتيًا، للاستماع في آخر المقال.

أتحداهم جميعاً.. أن يخطوا لك مكتوب هوىً كمكاتيب غرامي.. أو يجيؤوك –على كثرتهم
بحروفٍ كحروفي، وكلامٍ ككلامي..

لابد للمُحب الصادق أن يمرَ بحديقة «نزار قباني»؛ ليقطف منها وردةً يضعها بين خصلات شعر محبوبتِه، أو يتريّث قليلًا حتى ينسجَ لمحبوبتِه تاجًا من الصفاتِ والمَحاسن التي أوردها نزارُ في شِعره ليُتوج به مُحيّاها، ولكنْ هل تساءلت يومًا كيف نبت كل هذا الورد؟! من الذي تعهد بروايته، وكيف استطاعت تلك الورود الرقيقة أن تشق طريقها عبر «بلادِ القهرِ والكبتِ» حتى وصلت إليك؟! وكما تعلم فإنّ للخلود ثمنا باهظا، فكيف دفع نزار ذلك الثمن؟!. دعنا نجول في حياة نزار بهدوءٍ، ولنترك الاختلافات حول شِعره ودينِه، فلنمضِ سويًا لنتعرف على الرجل، وللتحليل والتفنيد مقاماتٌ أخرى.


«نزار» الذي يُشبهنا

هل أتاكَ خبرُ القائلين بأنّ جميع العظماء كانوا يعرفون أقدارهم منذ صغرهم؛ حتى إنّهم كانوا يُدعَون بألقابهم المُستقبلية. ألم يُصبك ذلك بالإحباط؛ نظرًا لحالة التخبط التى تعيشها أنت وجُل أبناء جيلك، جاوزت العشرين أو قاربت الثلاثين ومازلت لا تعرف ماذا تريد من هذه الحياة، وماذا تريدُ منك الحياة!

لكنّ نزار الآتي إلى الدنيا عبر حيّ «مئذنة الشحم» في مدينة دمشق القديمة في 21 مارس/آذار عام 1923 لم يكن كهؤلاء العظماء الذين تتحدث عنهم تلك الأساطير، فلم يكن الشعر هو هدفُه الأول، ولم يكن يومًا فى حُسبانه أن يُلقب بالشاعر، بل كان مثلنا متخبطًا حول طريقه في الحياة، بدأ نزار حياته مُحبًا لفن الخط، وبدأ في تعلمه، ثم فقد شغفَه به؛ فانتقل إلى الرسم، ثم هجره إلى المُوسيقى، وبدأ في دراستها، ولكنّ لأنّه كان مثلنا، يُعاني مما نعاني منه، فقد كان المُدرس الذي تولى تعليمه هو السبب في تركه الموسيقى، فوفقًا لما قاله نزار: «لقد بدأ المدرس بتعليمي النوتة المُوسيقية، وهي علمٌ يشبه الرياضيات، وأنا أكره الرياضيات».

أمّا «الشاعر» نزار قباني؛ فقد أتى إلى الدنيا في 15 أغسطس 1939، وعمره 16 عامًا، حيث التقى الشعر بنزار خلال رحلته البحرية إلى روما. ولكن ظل الشعر حبيس دفاتر الشاب الخائف من سخرية أصحابه، وتعنيف أهله؛ حتى أطلق نزار القذيفة الأولى في سبتمبر/ أيلول 1944، أثناء دراسته للحقوق في جامعة دمشق، في ديوانه الأول «قالت لي السمراء»، الذي قال فيه:

أحبكِ .. لا أدري حدود محبتي طباعي أعاصيرٌ .. وعاطفتي سيلُ وأعرف أني متعبٌ يا صديقتي وأعرف أني أهوجٌ .. وأنني طفلُ أحبُ بأعصابي، أحب بريشتي أحب بكلي .. لا اعتدالٌ، ولا عقلُ أنا الحبُّ عندي جدةٌ وتطرفٌ وتكسير أبعادٍ .. ونارٌ لها أكلُ.

دقت طبول الحرب

ليس إنصافًا أن نكتفي بتسمية ما تعرضَ له نزار، سواء نتيجةً عن ديوانه الأول، أو عن باقي دواوينه، بل طوال حياته، لا يُمكن أن نُطلق على ذلك «نقدًا»، فالكلمة لا تَفي العُنف والشدة التي قُوبل بها نزار في كل مرة، يُمكن أن نسميها «حربًا»، وكل ديوانٍ هو جولةٌ من جولاتها، ولم تسكن الحرب أبدًا، ولم تنتهِ جولاتها يومًا.

«لقد هاجموني بشراسة وحش مطعون، وكان لحمي يومئذ طريًا»، كان هذا هو ردُ نزار على الانتقادات القاسية التي تعرض لها، بسبب احتواء الديوان على كثير من الكلمات والتشبيهات التي لم يألفوها آنذاك، والتي امتاز بها نزار طوال مسيرته.

على الرغم من أنّه بعد تخرجه في كلية الحقوق عمل دبلوماسيًا في وزارة الخارجية، ثم سفيرًا لسوريا في العديد من الدول، إلا أنّه لم يكن دبلوماسيًا أبدًا في التعامل مع نُقادّه؛ فكان تعليقه الدائم على الانتقادات التي وُجهت له هو تجاهلها، بل التسفيه المُستمر من قيمتها، فلم تكن علاقة نزار بمعظم النقاد علاقةً وديةً، ولم يكن فيها كثير من الاحترام، حيث قال:

أنا أعتقد أن الشعر هو عملية انقلابية يقوم بها ويخطِّط لها وينفِّذها إنسان غاضب.. ولا قيمة لقصيدة في نظري لم تُحدث شرخًا، أو قشعريرةً في جسد الإنسانية وفي جسد العالم، الشعر أربطه أنا شخصيا بالثورة وبالطفولة وبالجنون.. وكل محاولة لتقليم أظافر الشعر وتحضيره وتحويله إلى حيوان أليف محاولةٌ رجعيَّة عقيمة وسخيفة، ونحن في هذه المرحلة المأساوية من حياتنا، يبدو أن الكتابة بالأظافر أصبحَتْ قدرنا الوحيد.

وأدى ذلك النقد إلى زيادة حدته؛ حتى داهم الجمهور بقصيدته «خبزٌ وحشيشٌ وقمر» التي أثارت جدلًا واسعًا، حتى وصل الأمر إلى المُطالبة برأسه: والتي قال فيها:

ما الذي عند السماءْ؟ لكسالى.. ضعفاءْ.. يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمرْ.. ويهزّون قبور الأولياءْ.. علَّها ترزقهم رزّاً.. وأطفالاً.. قبورُ الأولياءْ ويمدّون السجاجيدَ الأنيقات الطُرَرْ.. يتسلون بأفيونٍ نسميه قَدَرْ.. وقضاءْ.. في بلادي.. في بلاد البسطاءْ..

ولكن هناك القليل من النقادِ الذين فازوا باحترام نزار، ومنهم الدكتور «خريستو نجم» صاحب دراسة (النرجسية في أدب نزار قباني)، والتي قام الأستاذ «فريد جحا» بتقديم تحليلٍ لها على صفحات مجلة «الموقف الأدبي» عام 1987، والتي تخلصُ إلى أن المعركة بين نزار والنقاد لم تكن موضوعيةً، فمنهم من بالغ في مدحِه، ومنهم من بالغ في قدحِه، وكان من جُملة ما قيل فيها:

أن نزاراً ليس أشعرَ شعراء العصر الحديث كما يرى ذلك أحد النقاد، وليس الشاعرَ النصفَ المثقف كما يرى ناقدٌ آخر. بل هو واحد من شعرائنا الكبار لا في عصرنا الحديث فحسب بل في تاريخ أدبنا العربي كلِّه. شاعر ينتظر التقويم الجدِّيَّ الموضوعيَّ الذي يضعه في المكان اللائق به دون أن يرفعه إلى السحاب، أو يضع من شأنه فتمسح به وبأدبه التراب.

كيف روى نزار أزهاره بكل هذا الصدق؟!

لعل أهم ما يميز شعر نزار هو الصدق، فلم يتغزل نزار إلا صادقًا في حُبه، ولم يثر على أمةٍ أو امرأةٍ إلا صادقًا في ثورته، ولم يسخر يومًا من الأحداث والمصائب، إلا صادقًا في توجعه من آثارها، وصادقًا أيضًا في سخريته منها، لم ينبثق صدق نزار من العدم، بل نتيجةً لأحداث ومصائبَ عصفت بالرجل. فإذا تتبعنا التسلسل الزمني للأحداث العظام التى مر بها، لوجدنا أنّ القدر تكفّل بأن يظل نزار مشحونًا بعواطف الحب، والغضب، والثورة طوال حياته.

فبدايةً كان انتحارُ شقيقته «وصال» بسبب رفض أهلها تزويجها من تُحب، وإجبارهم إياها على زيجة لم ترغب فيها، ظلت الرواية الشائعة عن «وفاة وصال» أنّها كانت نتيجةً لأزمة قلبية، ولكن الكشف عن الحقيقة جاء من قِبل «كوليت خوري»، الأمر الذي أثبتته بعد ذلك مذكرات نزار حين قال: «صورة أختي وهي تموت من أجل الحُبّ محفورة في لحمي. كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدويّة».

ثم تأتي «كوليت خوري» هي الأخرى لتكون أحد أسباب غضب نزار، فقد جمعت بينهما قصةُ حبٍ طويلة، بعد طلاقه من زوجته الأولى «زهراء أقبيق» المُحافظة الغيورة، التي كانت تُمزق رسائل المُعجبات فور وصولها، لكنّ قصة الحب بين «نزار» و« كوليت» – والتي سجلت كوليت تفاصيلها في روايتها «أيام معه» – انتهت بزواجها من شاب إسباني، ليمتلئ نزار بالغضب مرةً أخرى.

ثم كانت الصدمة الكُبرى، التي خلقت من نزار شاعرًا وطنيًا، يثور لأجل الأمة، يغصب لضعفها، ويناقش مصائبها، يستنهضها حينًا، ويرثيها أحيانًا، كانت نكسة عام 1967 محطةً فاصلةً في حياته إذ كتب بعدها: «هوامش على دفاتر النكسة»، و«عنترة» و«يوميات سياف عربي»، ولم يتوانَ بعدها عن نقد الحكومات العربية بأي صورةٍ مُمكنة.

إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ لأننا ندخُلها.. بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ لأننا ندخلها.. بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ.

أدت تلك القصيدة إلى مطالبة «صالح جودت» بوقف بث جميع أعمال نزار في الإذاعة المصرية، وإيقاف جميع أغانيه، واستجابت السلطة له بالفعل، لكنّ «نزار» أرسل رسالةً حملها الكاتب «أحمد بهاء الدين» إلى الرئيس «جمال عبدالناصر» كان من جملة ما جاء فيها:

فرُفع الحظر عنه، ولكن حتى لو لم يُرفع، لم تعترف كلمات نزار بالحدود يومًا، ولا بقرارات منع السفر وحظر النشر، دائمًا ما يجد «نزار» حواريّين يُؤمنون به، يوصلون كلماتِه إلى الشعوب، ويحملون رسالته بين الناس.

بعد ذلك جاء انتصار 1973، فهل عالج جرح نزار من النكسة؟! ربما، لكن كان لنزار في نفس العام موعدٌ من شحنةٍ جديدةٍ من الوجع بوفاة «الأمير الخُرافي»، ابنه «توفيق» طالب الفرقة الخامسة بكلية الطب جامعة القاهرة، بأزمةٍ قلبية بعد أن جاب به أكبر مستشفيات لندن بحثًا عن الدواء، ولكن كان الأجلُ أسرع من الدواء.


«بلقيس»: نكسة نزار الخاصة

لم يكن بإمكاني وبلادي تحترق الوقوف على الحياد، فحياد الأدب موت له. لم يكن بوسعي أن أقف أمام جسد أمتي المريض، أعالجه بالأدعية والحجابات والصراعات. فالذي يحب أمته، يا سيادة الرئيس، يطهر جراحها بالكحول، ويكوي إذا لزم الأمر
المناطق المصابة بالنار.
ندخُلُ مرةً أُخرى لعصرِ الجاهليَّةْ .. ها نحنُ ندخُلُ في التَوَحُّشِ .. والتخلّفِ .. والبشاعةِ .. والوَضَاعةِ .. ندخُلُ مرةً أُخرى .. عُصُورَ البربريَّةْ .. حيثُ الكتابةُ رِحْلَةٌ بينِ الشَّظيّةِ .. والشَّظيَّةْ حيثُ اغتيالُ فراشةٍ في حقلِهَا .. صارَ القضيَّةْ ..

الشحنة العظمي، ودرة تاج نزار، المرأةُ التي أعادته إلى تهورِ الشباب، وصبابة الاشتياق، «قبيلة النساء» التي أعادته إلى الشعر بعد توقف دام لثلاث سنوات، تقدّم لخطبتها كثيرًا، ورُفض كثيرًا، ولكنّ الأهل وافقوا في نهاية المطاف، ثم بعد سنواتٍ من الهدوء والحُب، جاء أوان «الغضب»، حيث قُتلت بلقيس عام 1981 في حادث انتحاري استهدف السفارة العراقيّة في بيروت. ليُعلن نزار انتفاضته الخاصة على الجميع، فالكل مُشاركون في قتل بلقيس.

يُمكننا أن نؤرخ لحياة نزار ما قبل بلقيس وما بعد بلقيس، ولقد قضى بعدها خمسة عشرة عامًا في لندن، لم يسكن يومًا عن الثورة على «العرب» الذين قتلوها، فكتب «متى يعلنون وفاة العرب؟» و «المهرولون»، وغيرهما.

لقد كانت حياة نزار، وموته تمامًا كموت «المسيح» في الروايات المسيحية، رجلٌ على الصليب، يحتمل اختراق المسامير لعظامه، أشعة الشمس التي تحرقه، والجوع الذي يفتك به، ليُخلص البشرَ من آثامهم، وليدفع وحدَه ثمن خطاياهم، وليُدّعم بدمائه أركان إيمانهم، ويروي بعرقِه الممزوجِ بدمه الكلماتِ؛ كي تقوى على الصمود في رياح الزمان والحكومات. لكن لم يُصلب نزار هباءً، فما من عاشقٍ إلا ومر ببستانه، وما مرَ عامٌ إلا واحتل نزار وأشعاره محركات البحث، آخرها العام الفائت؛ حيث كان «نزار قباني» الشخصية الأكثر بحثًا عنّها، ولا تخلو حديقة نزار من الزائرين، مادام بين الناس عاشقون.

لم يبق عندي ما أقول. لم يبق في الميدان فرسان.. ولا بقيت خيول … والموج يرفعني .. ويرميني .. كثور هائج..فلأي ناحية أميل ؟؟ ماذا سيبقى من حصان الحب. .لو مات الصهيل .؟؟