دانيل إنجبير | وايرد، 26 يناير 2016

في الجزء الأول من المقال، تحدثنا عن طبيب الأعصاب الذي اخترق دماغه وفقد عقله تقريبًا، لكن لم نكمل قصته والتي أوصلته إلى المجد مع جوني راي.


التصنت على عقل مشلول

إنه جوني راي، متعهد أعمال جصية عمره 52 عامًا ومحارب قديم بفيتنام، والذي أصيب بجلطة في قاعدة دماغه. أبقته تلك الإصابة عالقًا على سريره، إلى جوار جهاز التنفس الصناعي، ومصابًا بالشلل باستثناء بعض الارتعاشات البسيطة بوجهه وكتفه. استطاع الإجابة بنعم عبر الغمز لمرتين بعينيه، ومرة واحدة ليقول لا.

بما أن مخ راي لم يتمكن من تمرير إشاراته إلى عضلاته، حاول كينيدي التصنت على عقله ليساعده على التواصل، فزرع كينيدي وباكاي الأقطاب في القشرة الحركية الرئيسية، وهو النسيج الذي يتحكم في الحركات الإرادية الأساسية. ووجدوا البقعة المثالية عبر وضع راي أولًا داخل آلة تصوير بالرنين المغناطيسي، وطلبوا منه أن يتخيل تحريك يده. ثم وضعوا أقطابهم على الموضع الأقوى إضاءة بالقشرة، حسبما ظهر في صور مسح الرنين المغناطيسي. بمجرد وضع المخاريط في موضعها، أوصلها كينيدي بجهازٍ لاسلكي مزروع أعلى جمجمة راي، تحت الفروة مباشرة.

عمل كينيدي مع راي ثلاث مرات أسبوعيًا، محاولًا فك تشفير موجات قشرته الحركية، ومن ثم تحويلها إلى حركات فعلية. وبمرور الوقت، تعلم راي تعديل الإشارات الصادرة عن الجهاز المزروع بمجرد التفكير. عندما أوصله كينيدي بجهاز كمبيوتر، تمكن راي من استخدام تلك التعديلات في التحكم بمؤشر على الشاشة (مع كون تلك الحركة بطول خط من اليسار إلى اليمين)، ثم قبض كتفه ليضغط على زر الفأرة. وبالتالي تمكن راي، باستخدام تلك الإعدادات، من الضغط على الحروف على لوحة مفاتيح على الشاشة، ما مكنه ببطء شديد من تهجئة الكلمات.

“يعد ذلك أحدث ما توصلنا إليه، إنها أمور كنا نراها في سلسلة (حرب النجوم)”، حسبما قال باكاي للجمهور من الزملاء جراحي الأعصاب في أكتوبر 1998. وبعد أسابيع قليلة، قدم كينيدي النتائج التي توصلا إليها في المؤتمر السنوي لجمعية العلوم العصبية. كان ذلك كافيًا لتطفو قصة جوني راي – الذي كان مصابًا بمتلازمة المنحبس، وأصبح الآن قادرًا على الكتابة بعقله – بالصحف في أنحاء البلاد والعالم. في ديسمبر التالي، كان العالمان ضيفا برنامج “جود مورنينج أمريكا”. وفي يناير 1999، ظهرت أخبار تجربتهما في صحيفة واشنطن بوست. حيث أوردت الصحيفة في معرض مقالها: “بينما يُعد الطبيب والمخترع، فيليب كينيدي، رجلًا مصابًا بالشلل ليشغل حاسبًا بواسطة أفكاره فقط، يبدو أننا أمام تكشف مشهد تاريخي، على نحو محتمل، في تلك الغرفة بالمستشفى، وأن كينيدي قد يكون أليكساندر جراهام بيل الجديد”.

في أعقاب نجاحه مع جوني راي، بدا كينيدي على حافة التوصل إلى اكتشاف هائل. ولكن عندما زرع العالمان المزيد من الأقطاب داخل أدمغة مريضيْن آخريْن في عامي 1999 و2002، لم تدفع النتائجُ المشروعَ قدمًا، حيث لم يلتئم جرح أحد المرضى وتعينت إزالة الأقطاب، بينما ساءت حالة المريض الآخر بسرعة شديدة، جاعلة تسجيلات كينيدي العصبية عديمة الفائدة. بينما مات راي نفسه نتيجة تمدد الأوعية الدموية بالدماغ في خريف عام 2002.


المنافسة تحتدم

وفي غضون ذلك، أحرزت مختبراتٌ أخرى تقدمًا في مجال الأطراف الصناعية الخاضعة لتحكم المخ، ولكنها استخدمت معدات مختلفة – عادة ما تكون علامات صغيرة، يصل حجمها إلى مليمتريْن مربعيْن، مع عشرات الأسلاك العارية الممتدة إلى داخل الدماغ. وفي إطار الحروب على التصميم داخل مجال زراعات الأعصاب ضئيلة الحجم، بدت الأقطاب الزجاجية المخروطية الخاصة بكينيدي على نحو متزايد كصيغة الـ”بيتاماكس”؛ أي، تكنولوجيا واعدة وقابلة للتطوير، إلا أنها لم تصمد في النهاية.

لم تكن المعدات المستخدمة هي فقط ما أبعد كينيدي عن العلماء الآخرين المهتمين بعمليات الربط بين المخ والحواسب. فبالإضافة إلى ذلك، ركز معظم زملائه على نوع واحد من الأطراف الصناعية المتحكم بها عصبيًا، إنه النوع الذي اهتم البنتاجون الأمريكي بتمويله عبر برنامج “داربا”؛ الذي اختص بزراعة اللازم لمساعدة المريض (أو المقاتل المصاب) على استخدام أطراف صناعية. بحلول عام 2003، أجرى مختبر بجامعة ولاية أريزونا مجموعة من عمليات الزرع داخل قرد، سمحت له بجلب قطعة برتقال إلى فمه باستخدام ذراع روبوتية يتحكم بها بعقله. وبعد عدة سنوات، ذكر باحثون بجامعة بارون أن مصابين بالشلل قد تعلما استخدام الأجزاء المزروعة للتحكم في أذرع روبوتية بدقة كافية لتناول قدر كبير من القهوة من داخل قنينة.

ولكن كينيدي كان أكثر اهتمامًا بالأصوات الإنسانية بالمقارنة بالأذرع الروبوتية. فقد أظهر المؤشر العقلي لراي أن مرضى الانحباس يمكنهم مشاركة أفكارهم عبر الكمبيوتر، حتى وإن كان خروج تلك الأفكار ببطء كتابة 3 أحرف بالدقيقة. ولكن ماذا إن تمكن كينيدي من بناء وسيط بين المخ والكمبيوتر يعبر عن أفكار المصاب بنفس سرعة الشخص الصحيح؟.

بعدة وسائل، تبنى كينيدي التحديَ الأكبر، فالخطاب الإنساني يعد أكثر حركات الأطراف تعقيدًا، فما يبدو لنا كحركة أساسية – صياغة الكلمات – يتطلب انقباضًا وانبساطًا منسّقًا لأكثر من 100 عضلة مختلفة، تتنوع بين الأغشية وعضلات اللسان والشفتين. ولبناء طرف صناعي لأداء مهمة الكلام، حسبما تصوره كينيدي، يتعين اكتشاف طريقة لقراءة العمليات التزامنية التفصيلية للغة الصوتية من خلال ناتج مجموعة من الأقطاب الكهربائية.


تجارب جديدة

لذلك حاول كينيدي تجربة شيء جديد في عام 2004، عندما أجرى عمليات زرع داخل دماغ مريضه الأخير بالانحباس، وهو شاب يدعى إريك رامسي، كان قد تعرض لحادث سيارة وعانى من جلطة دماغية جذعية، كحال جوني راي. ولكن في هذه المرة، لم يزرع كينيدي وباكاي الأقطاب المخروطية في جزء القشرة الحركية المسئول عن التحكم في الأذرع والأيادي، بل دفعا الأسلاك إلى الأسفل نحو شريطٍ من الأنسجة الدماغية يمتد بطول جانبي المخ كعصابة للرأس. في قاع تلك المنطقة، تكمن الرقعة من الخلايا العصبية التي ترسل الإشارات إلى عضلات الشفتين، الفك، اللسان والحنجرة. وهو الموضع الذي زرعت فيه الأسلاك بدماغ رامسي، على عمق 6 مليميترات.

باستخدام ذلك الجهاز، علم كينيدي رامسي كيفية إخراج أصوات علة بسيطة من خلال مولّف صوتي. ولكن كينيدي لم يتوصل إلى طريقة لمعرفة شعور رامسي، أو ما يدور بالفعل داخل دماغه. تمكن رامسي من الإجابة على أسئلة الموافقة أو الرفض عبر تحريك عينيه إلى أعلى أو أسفل، ولكن حتى تلك الطريقة تعثرت بسبب معاناة رامسي من مشكلات بالعين. كذلك لم تتوافر أي وسيلة أخرى أمام كينيدي ليعزز تجاربه اللغوية.

طلب كينيدي من رامسي أن يتخيل كلمات بينما سجل إشارات مخه، ولكن بالتأكيد لم يستطع كينيدي أن يتأكد مما إذا كان رامسي بالفعل قد “قال” تلك الكلمات في صمت.

ساءت حالة رامسي الصحية، كحال القطع الإلكترونية المزروعة في دماغه. وبمرور السنوات، عانى برنامج كينيدي البحثي أيضًا؛ حيث لم تُجدد منح أبحاثه، ما اضطره إلى التخلي عن مهندسيه وتكنولوجيا مختبره. أما شريكه، باكاي، فقد مات.

يعمل كينيدي حاليًا منفردًا أو مع مساعدين مؤقتين. ويظل يقضي ساعات عمله في معالجة المرضى بعيادته للأمراض العصبية. وقد شعر بأنه سيحقق اكتشافًا آخر كبيرًا إن تمكن فقط من إيجاد مريض آخر. وبشكل مثالي، يفترض أن يتمكن ذلك المريض من الحديث جيدًا، على الأقل في البداية. وعبر اختبار ما سيزرعه، على سبيل المثال، داخل دماغ مريض في المراحل الأولى من مرض تنكسي عصبي، مثل التصلب العضلي الجانبي، ستتاح له فرصة تسجيل إشارات الخلايا العصبية بينما يستطيع المريض الكلام. وبذلك، سيتمكن من اكتشاف التطابق بين كل صوت وإشارته العصبية، وسيكون لديه الوقت الكافي لتدريب أعضائه الصناعية الخاصة بالكلام؛ أي، ليعيد صوغ خوارزميتها لفك تشفير النشاط الدماغي.

ولكن قبل أن يتمكن كينيدي من إيجاد مريضه المناسب، أبطلت إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية تصريح تجاربه. ووفق القوانين الجديدة، ما لم يتمكن كينيدي من إثبات أنها آمنة ومعقمة – وهو شرط سيتطلب تمويلًا في حد ذاته – سيكون ممنوعًا من استخدام أقطابه الكهربية على المزيد من البشر.

ولكن طموح كينيدي لم يضمر، بل ازداد فيضه. ففي خريف عام 2012، نشر لنفسه رواية خيال علمي حملت اسم “2051”، حكى فيها قصة “ألفا”، وهو عالم أقطاب عصبية ولد في أيرلندا كحال كينيدي، يبلغ من العمر 107 عامًا، ويعيش كبطل ونموذج للتكنولوجيا التي ابتكرها؛ أي، دماغ متصل بروبوت إعاشة طوله قدمان. قدمت الرواية بشكل ما خطوطًا عريضة لتطلعات كينيدي؛ فأقطابه لن تمثل مجرد أداة لمساعدة مرضى الانحباس في التواصل فقط، بل ستكون أيضًا محركًا لمسقبل معرفي أفضل، يعيش فيه البشر كالعقول داخل هياكل معدنية.

بحلول توقيت نشر روايته، عرف كينيدي ماهية خطوته التالية. فالرجل الذي اشتهر بزراعة أول وسيط للتواصل بين العقل والآلة داخل إنسان مريض، سيفعل مجددًا أمرًا لم يُفعل من قبل. لم يكن أمامه خيارات أخرى، فقرر أن يجري التجربة على عقله.

بعد أيام قليلة من العملية التي أجراها في بليز، قام بوتون بإحدى زياراته اليومية إلى دار الضيافة التي يقيم فيها كينيدي خلال فترة شفائه، وهي فيلا بيضاء مشرقة على بعد مبنى من بحر الكاريبي. ولكن عملية تعافي كينيدي استمرت في التدهور، فكلما كثف جهوده ليتمكن من الكلام، كلما تدهور انحباسه. وأصبح واضحًا أن لا أحد من الولايات المتحدة سيأتي ليأخذ كينيدي من بين أيادي بوتون وسرفانتس. عندما اتصل بوتون بخطيبة كينيدي وأخبرها بشأن التعقيدات، لم تُظهر تعاطفًا كبيرًا، بل قالت: “لقد حاولت إيقافه، لكنه لم يعر تحذيراتي اهتمامًا”.

إلا أنه في تلك الزيارة بالتحديد، بدأت الأمور في التكشف. كان ذلك اليوم حارًا، وجلب بوتون لكينيدي عصير ليمون. وعندما خرج الرجلان إلى الحديقة، أمال كينيدي رأسه إلى الخلف وأخرج تنهيدة رضا، وقال بعفوية: “إنه شعور جيد”، بعد أن ارتشف من العصير.

في عام 2014، اختار فيل كينيدي جراح أعصاب في بليز ليزرع عدة أقطاب في مخه، ثم أن يدخل مجموعة من العناصر الكهربائية تحت جمجمته. بعد أن استخدم كينيدي هذا النظام، في بلده، لتسجيل إشارات مخه ضمن مجموعة من التجارب استمرت شهورًا، حيث كان هدفه فك تشفير الإشارات العصبية لكلام البشر.

بعد ذلك، استمر كينيدي في مواجهة مشكلات في تذكر أسماء الأشياء – حيث قد ينظر إلى قلم رصاص ويسميه قلمًا جافًا – ولكنه أصبح أكثر طلاقة. بمجرد أن أحس سرفانتس بأن عميله قد بلغ نصف طريق التعافي، أعلمه أن بإمكانيته العودة إلى المنزل. لذا تلاشت مخاوفه المبكرة حول أنه قد دمر حياة كينيدي؛ حيث كان فقدان اللغة الذي ترك مريضه منحبسًا لفترة وجيزة مجرد عَرَض لتورم الدماغ بعد العملية الجراحية. ولكن في ظل السيطرة على ذلك العرض، سيكون على ما يرام. وسنكمل ما حدث سويًّا في المقال الأخير.

المراجع
  1. The Neurologist Who Hacked His Brain—And Almost Lost His Mind