لم يكن حدث الثورة الإسلامية في إيران ونجاحها في إسقاط نظام الشاه وتولي قادتها السلطة في فبراير/ شباط من عام 1979 حدثاً عادياً مر مرور الكرام في العالم العربي، حيث كان لتلك الثورة الكثير من التداعيات والتأثيرات الفكرية والسياسية، التي أثرت في قطاعات واسعة من العالم العربي ولاسيما من الحركات والتيارات الإسلامية.

وخلقت تلك الثورة رغم الخلاف المذهبي مساحات واسعة من التقارب بين الإسلاميين في العالم العربي وبين النظام السياسي الذي دشنته تلك الثورة منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي وحتى مطلع العقد الأول من القرن الحالي الذي شهدت سنواته الأولى حدث الاحتلال الأمريكي للعراق، الذي اتسعت بعده الهوة المذهبية بين السنة والشيعة في العالم العربي بصورة غير مسبوقة في تاريخ المنطقة المعاصر وكان من تداعياته تلك الخصومة السياسية والطائفية القائمة اليوم بين إيران والإسلاميين في العالم العربي، والتي فاقم من حدتها اندلاع الثورة السورية، وموقف إيران الذي بلغ اليوم حد التدخل المباشر بقوات حرسها الثوري على الأراضي السورية.

إلا أنه رغم كل تلك الهوة الشاسعة التي تفصل إيران وتيارات وحركات الإسلام السياسي العالم العربي في الوقت الراهن، فإن هناك الكثير من القسمات والملامح المشتركة التي تجمع الطرفين في الفكر والمخيال السياسي، وفي النظرة إلى العالم، كانت من ثمار ذلك التقارب المبكر بين النخب الإسلامية الشيعية في إيران والنخب الإسلامية في العالم العربي التي تسبق حتى اندلاع الثورة الإيرانية بعقود.

.وسنسعى هنا في هذا المقال إلى تسليط الضوء علي أبرز ملامح ذلك التقارب وتلك التلاقيات المبكرة المتبادلة على المستويين الفكري والسياسي منذ النصف الأول من القرن الماضي وحتى اندلاع الثورة الإيرانية.


تأثير الإسلام السياسي على النخب الشيعية الإيرانية

بدأت بذور التلاقح الأولى بين النخب الإسلامية الإيرانية وبين تيار الإسلام السياسي في العالم العربي خلال أربعينات القرن الماضي أثناء إقامة رجل الدين الشيعي تقي الدين القمي في القاهرة وتأسيسه دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة في فبراير 1947م، الذي كان أحد أبرز أعضائها المؤسسين هو حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين.

كان من أبرز محطات التقارب في هذا السياق،هي علاقة السيد مجتبى نواب صفوي زعيم حركة فدائيان إسلام الشهير بمواقفه التي تدعو إلى التقريب بين السنة والشيعة، بجماعة الإخوان المسلمين، حيث زار نواب صفوي القاهرة عام 1954 م، والتقى هناك بسيد قطب، وأُقيم له حفل خطابي في جامعة القاهرة.

كما ينسب لصفوي أنه قال في حفل خطابي بدمشق (1954)، بوجود مراقب جماعة الإخوان في سوريا، مصطفى السُّباعي (ت 1964): «مَن أراد أن يكون جعفرياً حقيقياً فلينضم إلى صفوف جماعة الإخوان المسلمين».

عندما عاد صفوي إلى إيران في مطلع عام 1955م أقدمت حركته على محاولة اغتيال فاشلة لرئيس الوزراء الإيراني حسين علاء، أسفرت عن إصابة الأخير في كتفه. إثر تلك المحاولة تم إلقاء القبض على صفوي وتم الحكم عليه بالإعدام.

ويذكر في هذا الإطار أن جماعة الإخوان المسلمين قامت بالعديد من المساعي لإنقاذ صفوي من حكم الإعدام، حيث قام مراقب جماعة الإخوان في العراق محمد محمود الصَّواف وكامل شريف وعلي طنطاوي بزيارة رئيس الوزراء العراقي محمد فاضل الجمال للتوسط لديه، فأظهر لهم الاستعداد لإنقاذ «نواب صفوي»، ونصحهم أن يأتوا برسائل من مراجع النجف وبينهم: الشيخ عبد الكريم الجزائري، والسيد محسن الحكيم، على أن تكون موجهة إلى الملك فيصل الثاني تحثه على التوسط لدى الشاه، ورئيس الوزراء سيعرضها عليه ويطلب منه الاهتمام بالأمر.

ويذكر الشيخ معن العجلي في كتابه «الفكر الصحيح في الكلام الصريح» أيضاً، أن جماعة الإخوان قد حاولت إنقاذ صفوي إذا فشلت مساعي الوساطة، من خلال إرسال مجموعة من فدائيي الإخوان المسلمين لاختطافه وتحريره من محبسه قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه.

أحد مظاهر التفاعلات المبكرة بين النخب الإسلامية الشيعية في إيران وبين جماعة الإخوان المسلمين، كانت أيضاً قيام السيد علي خامنئي عام 1966 بترجمة كتاب المستقبل لهذا الدين لسيد قطب للغة الفارسية وكتابة مقدمته. وقد كان فكر جماعة الإخوان المسلمين عموماً أحد أهم العوامل التي أثرت في آية الله علي خامنئي، وفي هذا الإطار، كان لسيد قطب تحديداً تأثيره الخاص على فكر الرجل، ولذلك عندما أصبح علي خامنئي مرشداً أعلى للثورة الإيرانية بعد وفاة الخميني،أصبحت مؤلفات سيد قطب تُدَرَّس في مدارس الإعداد العقائدي لـ«الحرس الثوري الإيراني»، وازداد نفوذ مرجعيات دينية مثل آية الله مصباح يزدي الأستاذ الروحي لأحمدي نجاد، الذي لا يخفي إعجابه بسيد قطب وتأثره به.

ومن أبرز الدلائل علي حفاوة النخب الإسلامية الشيعية في إيران التي صنعت الثورة، بحركات الإسلام السياسي في العالم العربي كذلك، هو وضع أسماء وصور بعض رموز تلك الحركات على طوابع البريد، وتسمية أسماء الميادين والشوارع الكبرى في طهران على أسمائهم، بعد نجاح الثورة الإيرانية.

ولعل من أبرز مظاهر ذلك التأثر الواضح أيضاً هو استخدام وصف مرشد كمسمى لقائد االثورة الإيرانية، حيث يذكر المستشار الدمرداش العقالي القاضي المصري السابق والعضو السابق كذلك بجماعة الإخوان المسلمين والمتحول إلى المذهب الشيعي الاثنى عشري في سبعينات القرن الماضي أن الخميني ترك جميع المسميات الحوزية في حوزيات الشيعة مثل كلمتي المرجع والغاية وحرص على كلمة مرشد الثورة تيمناً بالإمام البنا، الذي تم إطلاق اسمه على ساحة ضخمة في طهران هي ساحة الإمام الشهيد حسن البنا.


موقف الإسلاميين العرب من الثورة الإيرانية

أصبحت مؤلفات سيد قطب تُدَرَّس في مدارس الإعداد العقائدي لـ«الحرس الثوري الإيراني»، وازداد نفوذ مرجعيات دينية مثل آية الله مصباح يزدي، الذي لا يخفي إعجابه بسيد قطب

إثر نجاح الثورة الإيرانية دعت جماعة الإخوان المسلمين قيادة الحركات الإسلامية في كل من تركيا والهند وباكستان وإندونيسيا وماليزيا والفلبين وأفغانستان، إضافة إلى تنظيمات الإخوان المسلمين المحلية العربية وفي أوروبا وأمريكا، لاجتماع تم فيه تكوين وفد توجه إلى طهران بطائرة خاصة، وقابل آية الله الخميني لتأكيد تضامن الحركات الإسلامية الممثلة في الوفد كافة، وهي: جماعة الإخوان المسلمين، حزب السلامة التركي بزعامة أربكان، الجماعة الإسلامية في باكستان بزعامة المودودي، الجماعة الإسلامية في الهند، جماعة حزب ما سومي في إندونيسيا، جماعة شباب الإسلام في ماليزيا والجماعة الإسلامية في الفلبين.

عرض وفد الإخوان على الخميني تدشين خلافة إسلامية في إيران بقيادة الأخير، شريطة إعلانه أن الخلاف بين الصحابة حول الخلافة والإمامة كان سياسياً، ولم يكن دينياً

وجدير بالذكر أن طائرة الوفد كانت هي الطائرة الثانية التي سمح لها بالهبوط استثنائياً بعد طائرة ياسر عرفات حيث كان مطار طهران مغلقاً في ذلك الوقت.

وقد نشرت مجلة الدعوة المصرية المجلة الرئيسية للإخوان في مصر في تلك الأثناء تصريحاً لأبي الأعلى المودودي قبيل وفاته في 23 سبتمبر 1979 ردًّا على سؤال تم توجيهه إلى المودودي حول الموقف من الثورة الإيرانية: «ثورة الخميني ثورة إسلامية، والقائمون عليها هم جماعة إسلامية، وشباب تلقوا التربية في الحركات الإسلامية، وعلى جميع المسلمين عامة والحركات الإسلامية خاصة أن تؤيد هذه الثورة، وتتعاون معها في جميع المجالات».

خلال زيارة أخرى لوفد ثان من قيادة التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين لإيران، عرض وفد الإخوان على الخميني تدشين خلافة إسلامية في إيران بقيادة الأخير، شريطة إعلانه أن الخلاف بين الصحابة حول الخلافة والإمامة كان سياسياً، ولم يكن دينياً، ولكن فشلت جميع تلك المساعي بنهاية المطاف حينما قرر الدستور الإيراني أن المذهب الرسمي للدولة هو المذهب الاثنا عشري الجعفري.

إلا أنه رغم رفض الخميني لعرض جماعة الإخوان المسلمين،ظل الإخوان مستمرين في تأييد حكم النظام السياسي الذي دشنته الثورة الإيرانية، وفي هذا الإطار سيَرت الجماعة تظاهرات كبرى ضد استضافة الرئيس السادات شاه إيران في مصر، ثم أيدوا إيران في حربها ضد العراق، وفي عدد مجلة «كرسنت» الكندية، بتاريخ 6 (ديسمبر) 1984 صرح المرشد العام للجماعة عمر التلمساني: «لا أعرف أحداً من الإخوان المسلمين في العالم يهاجم إيران».

وعندما توفي الخميني في الـ3 من يونيو/ حزيران من عام 1989 نعاه المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد حامد أبو النصر يوم وفاته ببيان عاطفي مؤثر، جاء فيه تلك الكلمات اللافتة:

الإخوان المسلمون يحتسبون عند الله فقيد الإسلام الإمام الخميني الذي فجّر الثورة الإسلامية ضد الطغاة.. إلخ ما جاء في هذا البيان.

وقد كان لإيران الثورة علاقات متشعبة أيضاً بتيار الإسلام السياسي في العالم العربي خارج إطار جماعة الإخوان المسلمين، كعلاقتها بحركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني التي كانت تصف نفسها في مراحلها المبكرة بـ«أنصار الثورة الإسلامية في فلسطين». حيث تأثر فتحي الشقاقي الأمين العام السابق للحركة بشكل كبير بثورة الخميني في إيران، وكان يرى أن الخميني أطلق الصحوة الإسلامية في المنطقة وفي العالم.

وكان لإيران أيضاً في هذا السياق ولا تزال علاقات وثيقة كذلك بحزب الشعب المصري وزعيمه الراحل عادل حسين، الذي كان لا يتردد في زيارة إيران متحديًا بذلك نظام الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، وهو ما استفز أجهزة الأمن المصرية لدرجة اتهام عادل حسين رسمياً بالتجسس والعمل لحساب إيران في مصر وأنه يعمل كحلقة وصل بين الدولة الإيرانية وعناصر من الجماعات الإسلامية المسلحة، وهي القضية التي أثارت الرأي العام، ودفعت بعض المثقفين اليساريين المصريين من أصدقاء عادل حسين، ومن بينهم الكاتب عبد الستار الطويلة لإثارتها، إذ خاطب الأخير الرئيس مبارك علانية خلال حفل افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب، وطالبه بتقديم الأدلة على التهم الموجهة لعادل حسين، وهو ما عجزت السلطات الأمنية عنه آنذاك؛ مما كان سببًا في إحراج مبارك، فاضطر إلى إصدار قرار بالإفراج عن حسين بعد أن تم احتجازه لنحو 45 يومًا.

ولا يخفى في هذا السياق، أن إيران تمتعت كذلك بعلاقات وثيقة أيضًا مع حركات إسلامية أخرى على الساحة الفلسطينية غير حركة الجهاد الإسلامي، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية حماس، كما تزعمت إيران في هذا الإطار ما سمي بمحور المقاومة والممانعة في المنطقة حتى وقت قريب قبل أن يغلب الطابع الطائفي على المحاور والتحالفات الأقليمية في السنوات الأخيرة في المنطقة.

وقد تعرضت شعبية النظام الإيراني في العالم العربي لهزة كبيرة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، ودعمها للسياسات الطائفية لحكومات ما بعد الاحتلال هناك، وللميليشيات الشيعية التي مارست أعمال قتل وتهجير جماعي طائفي واسعة ضد السنة من أهل العراق، إلا أن القشة التي قصمت ظهر البعير في هذا الصدد كانت الثورة السورية ودعم إيران المستمر حتى اليوم لنظام بشار الأسد، الذي أدى إلى طلاق وفراق بائن بين تيار الإسلام السياسي وبين إيران، لا أمل يبدو معه في الأفق لعودة العلاقات إلى طبيعتها الأولى عما قريب.