في يوم 14 مارس/آذار 2017م، أصدرت محكمة العدل الأوروبية قرارها الذي ينص على السماح لأرباب العمل بفصل موظفات مسلمات لارتدائهن الحجاب داخل مقر العمل. وقبل ذلك، وتحديدًا في أغسطس/آب 2016، تزعّم عمدة مدينة كان الفرنسية حملة أيدها «مانويل فالس» رئيس الوزراء الفرنسي محاولة أخرى لمنع النساء من ارتداء «البوركيني» بحجة أنه يُمثل «مشروعًا سياسيًا يهدف لاستعباد المرأة، وأن فرنسا يجب عليها الدفاع عن نفسها». وهذا وثمة غير ذلك من الجدالات والقوانين التي تحاول حظر المظاهر الإسلامية في أوروبا. فما الدافع وراء هذه المحاولات؟، وما دور رؤية «أوروبا» لذاتها في هذه الجدالات والقوانين؟، وكيف يرى الأوروبيون المسلمين في سردهم لقصة أوروبا؟، أو بالأحرى، كيف يتخيل الأوروبيون أنفسهم؟، وكيف يتخيلون المسلمين؟!.


صناعة القومية

ربما يُعد موضوع القومية من أكثر المواضيع التي دُرست في المجالات المختلفة لما يتميز به هذا الموضوع من أهمية عملية. ومن هنا يُمكن القول: إن عددًا هائلاً من النظريات والتفسيرات نشأ لتفسير مفهوم القومية، ولكن بما أن هذه المقالة تسعى لمعرفة موضع المسلمين في المخيال الأوروبي لفهم طريقة تعامل الدول الأوروبية معهم، فينصب الاهتمام على النظريات المتعلّقة بكيفية نشأة القومية في الخيال. ربما أول ما يتبادر للذهن هنا هو أطروحة بيندكت آندرسون حول نشأة «الجماعات المتخيلة»؛ والتي يرى فيها آندرسون أن النزعة القومية مُتخيلة لأن أفراد «الأمة» لا يمكنهم أن يلتقوا أو يعرفوا كل فرد من أفراد أمتهم على الرغم من أن لدى كل فرد منهم صورة ذهنية معينة حول فضاء يجمع هؤلاء الآخرين معًا.

وقد قدم آندرسون تحليلا مُسهبًا للعملية التاريخية التي جعلت من «الأمة» كيانًا قابلاً للتخيّل. ولكن هناك من قدّم مستوى أبعد لتحليل النزعة القومية وهو «هومي بابا» الذي ميّـز بين مستويين: المستوى التربوي، والمستوى الأداتي في صناعة «الأمة» كمتخيل. فأما المستوى التربوي فهو عبارة عن حصيلة التراكيب الرسمية التي تستحضرها جماعة ما وتُشكل من خلالها سردية معينة تُبث في المناهج التعليمية، وفي برامج الأحزاب السياسية، وفي الإعلام؛ كالتعبير عن «مصر» مثلاً بطريقة السردية التي تبدأ منذ العصر الفرعوني إلى يومنا هذا. وفي هذا المستوى التربوي بكون الاهتمام منصبًا على الأمة ذاتها ومميزاتها. وأما المستوى الأداتي فهو مجموعة الأفعال التي تأخذ شكل مشاريع سياسية، مواجهات عسكرية، ونزاعات حدودية؛ بهدف تمييز الأمة عن غيرها.

فتسعى النزعة القومية إلى خلق كيان متخيل، وهو الأمة، عبر ترسيخه كمجموعة قيم ومبادئ تُبثّ في مناهج التعليم والإعلام و«المجالات العامّة»، كذلك تقوم بالتأكيد على تفرُّد هذا الكيان عن غيره عبر القيام بعملية مستمرة من محاولة خلق كيان «آخر» يُخالف هذا الكيان في جل صفاته؛ فبالأضداد تُعرف الأشياء. ولكن ماذا يفيد هذا الطرح في محاولة فهم «أوروبا» وتعاملها مع المسلمين؟، ففي الأخير قد نجد أوروبا عبارة عن «حضارة» أكثر منها «أمة» موحدة.

إننا نجد مفهومًا آخر وهو «النزعة الأوروبية» European-ism؛ وهو ما يمكن تعريفه على أنه «مجموعة من التأثيرات والخبرات المشتركة يشعر بها من يتخذون أوروبا وطنًا لهم ومركزًا، كذلك يستشعر هذا المعنى من يعيشون خارج أوروبا. وتعد التأثيرات الرئيسية في هذه الخبرة: الإمبراطورية الرومانية، المسيحية، عصر التنوير، والتصنيع». فهذه النزعة الأوروبية خلقت كيانًا متخيلاً، شبيهًا بالأمة في النزعة القومية، وجعلت منه فضاءً يجمعُ بين أفراد «الغرب الأوروبي» وفق قيم محددة وواضحة. وبتحليل هذه النزعة الأوروبية باستخدام مستوييْ التحليل: التربوي والأداتي، يُمكن فهم موضع المسلمين في المخيال الأوربي، وبالتالي يمكن فهم طريقة تعامل الدول الأوروبية مع المسلمين.


صناعةُ النزعة الأوروبية

يُمكن النظر للسردية الأوروبية من عدة زوايا – مع التنبيه على أن هذه السردية ليست بالضرورة أثّرت على كل من يقطن أوروبا بالقدر نفسه – فكل هُوية متخيلة تسعى دومًا لتحديد نقطة انطلاق لها؛ ونجد أن كثيرًا ممن أرخوا للنزعة الأوروبية حاولوا إرجاعها إلى المدينة اليونانية ومن بعدها عصر الإمبراطرية الرومانية. وفي نقطة الانطلاق هذه يُعمل، تربويًا، على الـتأكيد على أصالة الفكر والممارسة اليونانية القديمة [1].

وفي مجال الفكر السياسي، على سبيل المثال، تؤخذ المدينة اليونانية القديمة (Polis) باعتبارها الوحدة الأولى لدراسة تاريخ الفكر السياسي، بل وتُشتق كلمة سياسة (Politics) لغويًا من هذه الكلمة. كذلك تبدأ معظم، إن لم تكن كل، المصادر الأوروبية حول تاريخ الفكر السياسي من أفلاطون. أما إذا ما نظرنا إلى التفسير الماركسي للتاريخ، فإننا نجده بصورة لافتة تفسيرًا للتاريخ الأوروبي، فهو تاريخ موحد انتقل بشكل خطّي من اليونان القديمة مرورًا بالرومان، وبالإقطاع المسيحي، وصولاُ إلى عصر الرأسمالية؛ وقد عُمّم هذا التفسير على أنه تفسير علمي للـ«تاريخ» ككل. وعلى هذين المثالين فقِسْ!.

وبعامةٍ، نجد في هذين المثالين المستوى التربوي لتحليل الجماعة المتخيلة بامتياز: فأولاً، هناك سردية موحدة تبدأ من نقطة انطلاق تُشكل ماضي الجماعة وهي ممثلة في اليونان القديم. ثانيًا، تُثبت هذه السردية على كل المستويات؛ فهي موجودة في الكتب التعليمية لمختلف المراحل، وهي موجودة في الأيديولوجيات السياسية الفاعلة على أرض الواقع الأوروبي أيضًا. وثالثًا، نجد أن هذه السردية تهتم حصريًا بالجماعة ذاتها، وتأخذها على أنها وحدة التحليل الأولى والأخيرة؛ فتصبح «أوروبا» بهذا الشكل هي المركز، ويصبح تاريخها هو المعيار. وأخيرًا، تؤدي هذه النزعة إلى خلق رابطة متخيلة بين الأفراد الذين يعيشون حولها؛ فالفرد الأوروبي هو من له مثل هذه السردية، ويمكنه أن يتخيل ببساطة أن له جدًا أو جدة قد عاشا بالفعل في اليونان القديم.

أما المستوى الأداتي، فهو معني أكثر بالفعل السياسي والعسكري مع «الآخر»؛ كي تتميز الجماعة عن غيرها. ولكي يكون هناك «آخر» يمكن للجماعة أن تحتكّ معه عسكريًا، يجب أن يكون هذا «الآخر» مختلفًا جوهريًا عنها. وبما أن السردية الأوروبية تدور حول مجموعة الخبرات البادئة من اليونان مرورًا بالإمبراطورية الرومانية ووصولاً إلى الرأسمالية والهيمنة الغربية، مع التشديد على لعب المسيحية دورًا حاسمًا في هذه السردية، يُمكن فهم الحملات الصليبية على المسلمين، ويمكن فهم لماذا لم تنظر أوروبا لروسيا يومًا على أنها جزء منها بالرغم من أن روسيا جزء من «القارة الأوروبية»؛ ذلك أن المسلمين والروس، وغيرهم، لم يمروا بهذه المراحل، ولم يخبروا هذه التحولات التي خلقت أوروبا ككيان متخيل في ذهن من يحيا على معمورتها. لكن هناك شيئًا هامًا بهذا الصدد، وهو أن هناك عددًا كبيرًا من المصادر يؤكد انتفاع أوروبا من الحضارات الأخرى، ففي كثير من الأحيان شيدت أوروبا كثيرًا من رؤاها اعتمادًا على أفكارٍ ومؤسّسات «خارجة» عن نطاقها الجغرافي؛ لذا يأتي السؤال: كيف لأوروبا «المتفردة» أن تستفيد من الآخر الذي تؤكد دومًا على ضرورة النزاع معه؟.

الإجابة وضحها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في تعريفه للمِلْكية؛ فحقّ أي شخص في ملكية أي شيء يأتي من قدرته على المزج بين الأشياء المشاعة في هذا العالم. فببساطة، ترى أوروبا أن لها حقًا في استخدام أي فكرة أو أي طرح لأنها: أولاً، ترى أنه مشاع ولا مالك أصلي؛ فهي تتمتع بالمركزية و«الآخرون» لا جوهر لهم. وثانيًا، فإن أوروبا تمزج بين الأفكار لتُخرج مزيجها الخاصّ بها مما يُكسبها حقّ ملكية هذه الأشياء. ويتفرع عن هذه الرؤية تبرير قوي لضرورة الحرب الدائمة مع «الآخرين»، ومن جوهر التبرير آخر لاستلاب ملكية هؤلاء «الآخرين»!.


المسلمون والنزعة الأوروبية

إذا جمعنا طرفيْ الخيط، نجد أن مكانة المسلمين في المخيال الأوروبي لا تعدو كونها مكانة «الآخر المختلف» الذي مثَّـل تاريخيًا عدوًا لأوروبا، ومثّلت رقعتُه الجغرافية مكانًا مليئًا بالموارد والثروات التي من المُبـرَّر لها استيلابها. ولكن، ما عساه حال المسلم الذي وُلِد في أوروبا؟.

لا يختلف الحال كثيرًا، ففي النهاية يعد هذا الفرد مسلمًا، وبوصفه «مسلمًا» لا يمكنه أن يكون جزءًا من «فكرة أوروبا»؛ مما يترك هامشًا له أن يكون «مواطنًا» له حق وعليه واجب فقط؛ حق/واجب الأقلية. ولعل هذا ما أورده طلال أسد حين رأى أن «الأقلية» ليست مفهومًا عدديًا ولا كميًا، وإنما يُمكن القول إن الأغلبية هي التي تستطيع فرض خطاب سرديتها الخاصة على الآخرين، ثم هي تحاول إدماج هؤلاء الذين يتمتعون بسرديات مختلفة في الجسد السياسي عن طريق منطق «الحقوق والواجبات»، لا منطق شركاء الوطن. وبما أن المتحكّم في عملية الإدماج هذه هم الأوروبيون، وبما أن الأساس في عملية ممارسة السلطة في معظم أوروبا هو العلمانية، فينقلنا هذا إلى نقطة أخيرة؛ كيف يُدمَج المسلمون في الجسد الأوروبي؟.

إن العلمانية كمشروع سياسي تسعى لطرح أسئلة مبنية على افتراضات علمانية خالصة بصورة مستمرة وسيادية على الدين تجعله يسعى للجواب عنها دون ملاحظة أنه يُجيب عليها انطلاقًا من نفس الافتراضات العلمانية. فمثلاً: مثّلَ الواقع الفرنسيُّ وطأة شديدة على مسلمي فرنسا، وطأة تمثّلت في الضغط المستمر على المسلمين كي يُبرروا كثيرًا من شعائرهم وفقًا لمنطق «العقلانية العلمانية»، الأمر الذي دفعَ مجلس الديانة الإسلامية بفرنسا أن يُصدر بيانًا له يتبرأ فيه من بعض هذه الممارسات تحت إاسم «الاجتهاد وإعمال العقل».

وعودًا على بدء، يمكن النظر إلى قرارات منع الحجاب وغيرها من الممارسات بحق مسلمي أوروبا على أنها نتاج «صورة المسلم» في الذهن الأوروبي؛ فهو «الآخر» المختلف الذي يمكن أن يُستلب، وهو الآخر الذي يُمثل «ورمًا خبيثًا» في الجسد الأوروبي؛ مما يدفع أوروبا لمحاولة الدفاع عن نفسها وعن هويتها. وإن هذه الممارسات لهي نتاج للعلمانية التي تضغط باستمرار على كل ما هو ديني حتى تصل به إلى نقطة تجعله يقبل بمسلماتها!.


[1] على الرغم من أن هناك عددًا كبيرًا من الدراسات الأوروبية الحديثة التي تهاجم هذه المركزية الغربية، إلا أن المقصود هنا هو أن النصوص المؤسسة للنزعة الأوروبية تميزت بهذه المركزية.
المراجع
  1. بندكت آندرسون، «الجماعات المتخيلة»، ترجمة ثائر ديب، (بيروتـ شركة قدمس للنشر والتوزيع، 2009)، صـصـ: 51-52
  2. Homi Bhabha, «The location of Culture», (London, Routledge, 1994), pp. 139-170
  3. Kostas Vlassopoulos, «Unthinking the Greek Polis: ancient Greek history beyond Eurocentris», (New York, Cambridge University Press, 2007)
  4. Samir Amin, «Eurocentrism», (New York, Monthly Review Press, Second Edition, 2009)
  5. طلال أسد، «تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة»، ترجمة دينا حسن فرختو، (بيروت، جسور للترجمة والنشر، 2016)، صـصـ: 248-254
  6. Oliver Roy, «Secularism confronts Islam», Trans. George Holoch (New York, Columbia University Press, 2007)