لم يمضِ على ثورة يناير بضعة أشهر حتى همس البعض في 2012 مترحما على نظام مبارك لما رأى وقتها من ضيق معيشي طبيعي كأثر جانبي للثورة، ومع مرور الوقت أكثر ارتفع ذلك الهمس وتردد بنبرة يملؤها التمني والرجاء أن لو استمرت تلك الأيام على ما كان فيها، حتى أصبحت اليوم «ولا يوم من أيامك يا مبارك» كلمة اعتيادية أو مثلا سائرا بين الناس، وأن البعض لم تعد لديه مشكلة في رجوع النظام بأشكاله ورموزه وسياساته كبديل للفترة السياسية الراهنة، دون الالتفات لضرورة إصلاح الفساد والبحث في أسبابه وأي الطرق أوصلت إلى تمني أيام فاسدة امتدت في عمر الزمن ثلاثين عاما.

ولكن السؤال الطبيعي: هل نسي المصريون أيام مبارك وما كان فيها؟


بالطبع الإجابة على السؤال لن تفيد الواقع البائس الذي دفعهم لتمني ذلك، ولكن هذه النوستالجيا ليست لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية فحسب، فإن الضيق المعيشي والبطالة رفيقان لأيام مبارك ولا شك وإن كان أقل من الآن بكثير، لكن الحنين المفرط إليه يضع بضع دوائر حمراء حول نفسية الحالم المتمني الراجي.

يُسرع البعض الذي لم يتأقلم مع الفساد الجديد والشظف الجديد والمعاناة الجديدة إلى الحنين للمعاناة التي اعتادها وصاحبها وألفها

وهذه «النوستالجيا» ليست خاصة بالشعب المصري أو العربي عموما من الحنين إلى الألم الأقل، والصعاب الأضعف، والشظف الذي يمكن التعايش معه أطول فترة ممكنة من عمر الشهيق والزفير المتردد داخله، ولكنه منتشر في كثير من الشعوب والأمم، إذ كلما طرأ على الحكم أو الإدارة نظام شديد نزع بعض الشعب إلى الأقل شدة، والأقل ظلما.

كذلك يُسرع البعض الذي لم يتأقلم مع الفساد الجديد والشظف الجديد والمعاناة الجديدة إلى الحنين للمعاناة التي اعتادها وصاحبها وألفها، فهو قد خبر المعاناة القديمة وعرف حدودها وتكاليفها ومدى آلامها وكيفية مسايرتها، لكن الجديدة فهو بحاجة لوقت كي يتقبلها!.

الأمر ذاته تكرر في عدة مناطق في العالم، لكن أبرزها كان في بعض أقطار أوروبا الشرقية حيث نجد نوستالجيا حادة إزاء الماضي الشيوعي على ما كان يحمل بين طيات تاريخه من إجرام وقهر ودكتاتورية ولا إنسانية.

طرحت Urska Velikonja الأستاذة المساعدة بمدرسة القانون بجامعة إيموري الأمريكية، عدة مسوح على هذه المناطق والتي أظهرت حنينا حادا للماضي الشيوعي. «ففي 1999 اعتبر 50 في المائة من السلوفاك أن النظام الاشتراكي السالف أفضل من «الديمقراطية الراهنة»، وفي العام ذاته تبين أن 85 في المائة من الروس آسفون على سقوط الشيوعية والاتحاد السوفييتي، وفي 2004 تراجع المعدل إلى 74 في المائة.

وفي عام 2002 قال 56 في المائة من البولنديين في استطلاعات للرأي إن الحياة «في الماضي كانت أفضل»، وفي عام 1995 و2003 اعتبر 88 في المائة ثم 86 في المائة من السلوفانيين على التوالي أن الحياة في يوغسلافيا السابقة كانت «طيبة» و«طيبة جدا»، وفي تاريخ أقرب (2009) أعلن 72 في المائة من الهنغاريين، و62 في المائة من البلغار والأوكرانيين، و60 في المائة من الرومانيين، و45 في المائة من الروس، و42 في المائة من اللتوانيين والسلوفاك، و39 في المائة من التشيك، و35 في المائة من البولنديين أنهم يعيشون في حال أسوأ مما كانوا عليه أيام الشيوعية»[1].

فالمتتبع لفترة الحكم الشيوعي وانتشاره يدرك كم عانت تلك البلدان من النظام الإجرامي، لكن استطلاعات الرأي السالفة الذكر في رأي البعض ليست مفاجأة على ما تحمل بين ثناياها من مذهلات، فيذهب أحدهم معللا ذلك بأن تلك النتائج «تنبع من غياب إدارة نخبوية للذاكرة الاجتماعية، وغياب المعلومات والرؤى الفردية، وسقطات الذاكرة والتشويش العميق في الأفكار، والقيم، والرؤى».

لكن الطرح السابق يصف المشكلة دون الولوج لكنهها، فإن المشكلة على الحقيقة لها بعد نفسي يتعلق بالتكوين السيكولوجي للإنسان، فالرومان مثلا الذين يمتدحون الماضي الشيوعي هم أنفسهم الذين يعتقدون بنسبة 41 بالمائة أن النظام الشيوعي كان «إجراميا»، وبالتالي إذا ناقشت أحد الذين يعبث الحنين بصدورهم لعصر مبارك الآن عن جرائم النظام الممتدة بآثارها إلى وقتنا الحاضر ما أنكرها ومع ذلك لن تستطيع نزع اعتقاده بأنه كان عصرا حسنا.

وهذا يحيلنا بالضرورة إلى العامل النفسي والذي يعتبر ركنا هاما من أركان نوستالجيا شبه جماعية إزاء عصر مبارك، والذي يتمثل في العوامل أو المبادئ التي تحكم العمليات النفسية وترتبط بها ومنها مبدأ «إجبار التكرار» كما يقول فرويد:

أن هناك ثلاثة مبادئ تحكم العمليات النفسية وترتبط بينها، هي مبدأ اللذة – اللا لذة، ومبدأ الواقع، ثم مبدأ إجبار التكرار، وبمقتضى المبدأ الأول فإن كل إنسان يميل إلى تحقيق اللذة لنفسه من أي نشاط نفسي أو بدني، وأن يتجنب اللا لذة بمعنى الكدر والألم والتوتر، غير أن الأنا في تطوّره نحو النضج يتعلم أن يخضع لمبدأ الواقع؛ أي ما تقتضيه معايشته للناس، وما يفرضه عليه المجتمع وتمليه عليه التربية. وليس مبدأ الواقع هو فقط الذي ينحّي مبدأ اللذة، فإنما هناك حالات لا يفسرها إلا أن يكون هناك دافع غريزي في الإنسان يميل به إلى أن يكرر مواقفه وخبراته واختياراته القديمة حتى لو كانت مؤلمة، متناقضا مع مبدأ اللذة، ومن ذلك مثلا أن الأطفال يكررون في ألعابهم تمثيل مواقف لم يتحصل لهم منها إلا الخوف والقلق والألم، وقد يطلبون استعادة حكايات لها مثل ذلك الأثر، وبعض الناس يظهرون كما لو كان لديهم استعداد لارتكاب الحوادث فيتورطون في وقائع يتكرر لهم منها الأذى الذي سبق أن عانوه منها، وكأنهم لم يتعلموا الدرس. [2]
فأي يوم مثلا يريده المصريون من أيام مبارك؟

يوم أن شنق عبد الحميد شتا نفسه فوق الكوبري لأنه «غير لائق اجتماعيا» ومن ثمّ ليس له نصيب في وظائف الدولة العليا، أم يوم قتل الرجل أبناءه لأنه لا يستطيع إطعامهم، أم يوم عبارة السلام، أم يوم خالد سعيد، أم يوم كنيسة القديسين؟!

جمعني لقاء مع أحدهم وهو يتحدث بلهفة عن عصر مبارك، ويصرح أن مبارك رئيسه إلى الآن مهما حدث، ثم ختم قوله بالمثل السائر “ولا يوم من أيامك يا مبارك”، ولمّا ذكرته ببعض فساد عصره، قال: «على الأقل الواحد مكنش فاهم أي حاجة!».

صحيح أن هذا اللقاء قد مر عليه وقت ليس بالقصير، ولكن جملته توضح أصول النوستالجيا من زاوية غاية في الأهمية وهي الجهل بما كان يحدث، وما ألقته المعرفة من مسئولية شخصية على كاهل من أدرك الحقائق بلا تدليس ولا تشويش، وقديما قال المتنبي: «وذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم».

وهذا ما دفع قطاعا عريضا من الناس إلى الابتعاد عن الأخبار، ومتابعة المستجدات السياسية، متحلين بروح المبالاة قدر الإمكان إذ لم يستطيعوا الرجوع لمدينة الجهل من جديد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. كريستيان تيليغا، علم النفس السياسي رؤية نقدية
  2. د. عبد المنعم الحفني، المعجم الموسوعي للتحليل النفسي