قبل أن نبدأ نحتاج لوضع المفاهيم والمسميات التي سيدور الحديث عنها في مكانها الصحيح حتى نتمكّن من التعامل مع كل مسمى في موضعه؛ ولذلك من الضروري أن تعرف هل يدور حديثنا عن «العَلمانية» أم عن «العِلمانية»؟ حتى لا يختلط عليك الأمر كما اختلط على الكثير من العرب من قبل.


الفرق بين المصطلحين

فكما ورد في (المعجم الوسيط) في طبعته الثالثة عام 1985 الصادرة عن مجمع اللغة العربية؛ فإن «العَلمانية» بفتح العين، والتي تُنسب إلى العَالَم، هي كل ما هو خلاف الديني أو الكهنوتي. أما «العِلمانية» بكسر العين، تُنسب إلى العِلم وكل ما له علاقة به. يعتبر هذا التعريف قاطعًا في مسألة الخلط الذي يحدث أثناء نطق الكلمتين بسبب الخطأ الشائع في نطق الكلمتين، والذي يترتب عليه سوء فهم للمصطلحات وسوء استخدام. وسوف يكون الحديث عن «العَلمانية» ولماذا تُعتبر من وجهة نظر الدكتور مراد وهبة –أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس- لها علاقة مباشرة بنظرية دوران الأرض، وفقًا لما ذكره في كتابه «رباعية الديمقراطية» صغير الحجم، عظيم المحتوى. يَعتبر وهبة أن العَلمانية هي المكون الرئيسي للديمقراطية، وأنه لا مشروع ديمقراطيا حقيقيا بدون أن تكون العَلمانية هي الأساس الذي يُبنى عليه هذا المشروع، بالإضافة إلى الليبرالية التي تعتبر المكون النهائي للمشروع الديمقراطي، وبينهما التنوير والعقد الاجتماعي.


من أين بدأت القصة؟

بدأت العلاقة بين نظرية دوران الأرض وبين فكرة العَلمانية منذ قديم الزمان، ولكي نستطيع إيصال الفكرة وشرح وجهة نظر وهبة في الأمر؛ فنحتاج لمعرفة من أين بدأت القصة؟بدأت الحكاية في القرن السادس قبل الميلاد عندما أعلن الفيلسوف اليوناني وصاحب أشهر نظريات الرياضيات «فيثاغورث» عن نظرية دوران الأرض، والتي أباح بها أمام تلاميذه الذين حذرهم من إفشاء هذا السر العظيم. وطبقًا للمثل الشعبي الذي يقول «اللي يخاف من العفريت يطلعله» فقد حدث ما كان يخشى منه فيثاغورث وأفشى أحد تلاميذه السر، والذي بدوره أثار الجماهير ضد هذه النظرية، بل قاموا أيضًا بإحراق الدار التي كان يجتمع فيها فيثاغورث مع تلاميذه، والذي أفلت من الحريق لتغيبه في هذا اليوم عن الدار! كانت تلك القصة هي التي ساعدت في تطوير مفهوم العلمانية مما استدعى الفيلسوف اليوناني «بروتاغوراس»، بأن يضع التعريف الأول الذي نشأ منه المفهوم الحالي للعلمانية؛ حيث قال: «إن الإنسان مقياس الأشياء جميعًا» مما يعني أن الإنسان عاجز تمامًا عن الوصول للحقيقة المطلقة، فحكم عليه بالإعدام بتهمة الإلحاد، ولكنه هرب من تنفيذ الحكم ومات غرقًا أثناء هروبه. لم ينتهِ الأمر بعد، فبعد عشرين قرنًا من الحكم على بروتاغوراس بالإعدام خرج عالم الفلك البولندي «نيقولا كوبرنيكس» بكتابه الشهير (عن دوران الأفلاك) الذي دلل فيه على دوران الأرض؛ مما يعني عدم مركزيتها للكون، أي أنه يهدم فيه نظرية بطليموس التي تذهب إلى الاعتقاد بأن الإنسان الذي يُعتبر مركز الأرض هو مركز الكون، فأخفى كتابه وحافظ على سريته خوفًا من الحكم عليه بالإعدام بتهمة الإلحاد، وكان مصيبًا في توقعه، فقد قررت محمكة التفتيش في روما عام 1616 تحريم تداول كتابه بزعم أنه كافر! ثم جاء جاليليو عام 1632 وأخرج كتابه الشهير «حوار حول أهم نسقين في العالم» الذي يؤيد فيه كوبرنيكس ويدحض نظرية بطليموس التي تَعتبِر الأرض مركز الكون وتدور حولها الأفلاك. فصودر كتابه، ومثُل أمام ديوان محكمة التفتيش بروما لسؤاله عن كتابه؛ فأنكر كتابه، وأقسم وهو راكع على ركبتيه، ثم وقّع وهو راكع على ركبيته على الإنكار والقسم، وقيل فيما بعد أنه عندما تأهب للخروج من الديوان قال بصوت هامس «ومع ذلك فهي تدور»، وكان يضرب الأرض بقدميه.


النظرية أساس العَلمانية

والسؤال إذن هنا، والذي بالتأكيد سألته لنفسك؛ لماذا تعتبر نظرية دوران الأرض هي أساس العَلمانية؟ أو بشكل أدق لما يعتبر عام 1543 الذي صدر فيه كتاب كوبرنيكس هو عام نشأة العَلمانية؟يتضح مما سبق بأن هذه النظرية تدحض أسطورة أن الأرض مركز الكون، والتي بطبعها تَعتبِر الإنسان مركز الأرض، فإذن الإنسان هو مركز الكون. فإذا كان الإنسان هو مركز الكون فسيستطيع بكل سهولة امتلاك الحقيقة المطلقة، وهل هذا يُعقل؟ هل يملك الإنسان فعلًا الحقيقة المطلقة؟ لا ننكر أننا نسعى للوصول للحقيقة المطلقة، ولكن لا نمتلكها. ومن هنا جاء تعريف العَلمانية عند الدكتور مراد وهبة الذي ينص على «العَلمانية هي التفكير في النسبي بما هو نسبي، وليس بما هو مطلق». فالنسبي هو كل ما ينُسَب إلى غيره، ويتوقف وجوده عليه، ولا يتعيَّن إلا مقرونًا به، وهو عكس المطلق، فهو مقيد وناقص ومحدود، مرتبط بالزمان والمكان، يتلون بهما ويتغيَّر بتغيرهما، ولذا فالنسبي ليس بعالمي، أو ليس بعَلماني.أما المطلقفهو التام أو الكامل، المرتفع عن كل قيد أو حصر أو استثناء أو شرط، والخالص من كل تعيُّن أو تحديد، الموجود في ذاته وبذاته، واجب الوجود المتجاوز للزمان والمكان. والمطلق عادةً يتسم بالثبات والعالمية، فهو لا يرتبط بأرض معيَّنة ولا بشعب معيَّن ولا بظروف أو ملابسات معيَّنة.


نتائج مهمة

وبفهم هذا التعريف للعَلمانية والتعامل به؛ يترتب مجموعة من النتائج التي تصبح ضرورية في التعامل وهي: – أولًا: أن الإيمان بنظرية دوران الأرض يصبح بالضرورة إيمانًا بمفهوم العَلمانية، ورفض العَلمانية ضمنيًا يحمل بداخله رفضا لنظرية دوران الأرض. ثانيًا: الحديث عن أن العَلمانية هي فصل الدين عن الدولة فقط، خطأ، يحتاج هذا القول أو هذا التعريف إلى التصويب والتدقيق؛ لأنه بالضرورة عندما يكون تفكيرك علمانيًا في التفكير فستقبل فكرة فصل الدين عن الدولة، وليس العكس. ولذلك من المهم إدراك أن العَلمانية أسلوب خاص في التفكير، قبل أن تكون أسلوبًا في السياسة، فقبل أن تغتال العلمانية، تحتاج إلى فهمها، والقراءة عن فلسفتها وطريقتها في التفكير. فقد اغتيلت العَلمانية من قبل في مصر؛ معنويًا مثلما حدث مع فرح أنطون، أو جسديًا مثل فرج فودة ونجيب محفوظ، حدث ذلك بسبب الحديث عن أنها زندقة فارغة، أو أنها هراء محض لا يتناسب مع الموروث الديني والشعبي لنا؛ فهل تظن أنه حان الوقت لكي تقرأ عنها، وتبحث لعلك تهتدي؟